البحث

التفاصيل

كلمة الشيخ ونيس مبروك في مؤتمر مقاييس الأطعمة الحلال في اسطنبول

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد
رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم .

أتقدم بجزيل الشكر للإخوة القائمين على هذا اللقاء المهم المبارك ، وعلى رأسهم الدكتور حسين كامي رئيس منظمة جيمديس ، وكل الإخوة والأخوات الذي تجشموا عناء السفر ، لإحياء هذا اللقاء المهم ، وأود تبليغ السادة الحضور تحيات الدكتور على القره داغي الأمين العام للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين ، وتمنياته لكم بالتوفيق .

أيها الإخوة الكرام والأخوات الكريمات
لا شك أن مآسي وآلام المسلمين كثيرة وجراحه عميقة ، فهناك من لا يجد لقمة العيش ، فضلا عن أن يتحرى الذبيحة هل هي حلال أم حرام ، وهناك دول بأكملها تعاني حملات إبادة منظمة ، وهناك غارة على العالم الإسلامي من أجل إجهاض الثورات العربية وتأديب الشعوب ، بل امتد التضييق على المسلمين إلى أوروبا وأمريكا ، حتى وصل التضييق إلى طعامهم الذين يأكلوه .

أيها الإخوة والأخوات :
الموضوع الذي نجتمع حوله اليوم ليس أمرا هامشيا ، أو موضوعا يتعلق بترف الحديث أو كماليات الحياة ، كما يظن بعض الناس ....نحن عندما نتباحث في شأن " تحليل الطعام " وكيفية تذليل هذه المسألة في عصرنا الحديث ، فإننا نتكلم عن عبادة لله تعالى بما تحمل هذه الكلمة من معنى عميق ، وهي عبادة يومية يمارسها الإنسان بدافع الفطرة والغريزة ، بل لعلها أول حدث يمر بسيدنا آدم عليه السلام وزوجه ، حيث دفعته غريزة الطعام إلى الإنصات لإغواء الشيطان ، فقد كانت الخطيئة الأولى بسبب رغبة وتطلع إلى " الطعام " وهذا يظهر أويشير لأهمية الطعام وتأثيره في سلوك الإنسان ، ..


ومن يطالع تاريخ البشرية ، يرى أن البحث عن الطعام ، كان عاملا أساسيا في هجرة الناس ، وتوزع الخليقة على سطح الأرض ، فإينما وجدت مصادرالماء والغذاء ،وجد الاستقرار والاستيطان في أرض دون غيرها .
أكل الحلال وطيب الطعام ، قضية دينية قطعية لا اختلاف حولها ولا شك في ثبوتها ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ( ، وقال تعالى( : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم (، ثم ذكر الرجل يطيل السفر : أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ؟ .رواه مسلم .


وروى الطبراني في الأوسط عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا سعد أطب مطعمك تجب دعوتك
وكان نساء السلف الصالح يقلن لأزواجهن : تحروا الحلال فنحن نصبر على الجوع ولا نصبر على النار ؟


وكان السلف يقولون : إذا أردت أن تعرف دين الرجل فأنظر إلى رغيفه ؟
وقد فطر الله تعالى النفس الإنسانية السوية على حب الطيبات وكره الخبائث ، بل فطر أغلب الأنعام – عدا الخنزير – على تحري الطيب من العلف فإذا خالطه نجس أو قذارة تمنعت عنه .
وقد سخر الله تعالى لنا الأنعام وذللها لنا ، قال تعالى ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدنيا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون )
وجعل تحري الحلال منها علامة من علامة التقوى والإيمان ، قال تعالى ( وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي انتم به مؤمنون). وفي هذه الآية ربطٌ ما بين التقوى والأكل من رزق الله ، وهي دليل واضح وتأكيد على ضرورة الحرص على الحلال وتجنب الحرام، لما لذلك من تأثير كبير على حياة الإنسان وسلوكه وصحته.
***


ولكن ماهو الحلال الطيب ؟
إن الإسلام لم يجعل الجواب متروكا لاجتهادات البشر ، لأنه يعتبر هذه المسألة من مسائل الدين وعلامة من علامات التدين كما أسلفنا ، ولهذا فإن القرآن والسنة بينا لنا ماهي أصناف الحلال ، وكيفية ذبحها وشروط صحة الذبح وغير ذلك ، بل بين لنا كل ما يتعلق بذلك من آداب .
فبين الإسلام أولا الأصناف التي لا يجوز أكلها ... قال تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ، وما ذبح على النصب وأن تستقسمها بالأزلام ، ذلكم فسق ).


والميتة : هي ما مات حتف أنفه سواء موتا عاديا أو بالشيخوخة أو بالاصابة بالأمراض أو بالذبح دون الإلتزام بالذكاة الشرعية.
الدم : هو الدم المسفوح
ما أهل لغير الله به: ماذبح لغير الله تعالى إو ذكر غير اسم الله
المنخنقة: هي التي تخنق فتموت.
الموقوذة: هي التي ضربت بعصا أو بحجر فقتلت.
المتردية: هي التي تردت من مكان عال فماتت.
والنطيحة: هي التي تنطحها أخرى فتقتلها


ثم بين لنا كيف يكون الذبح ، بل سمى هذا العبادة " تذكية " ، والتذكية تقابلها في اللغة الإنجليزية كلمة ( slaughter ) وهي تختلف عن معنى التذكية التي تعني تطييب من الدم الذي يفسد اللحم ويلوثه بالجراثيم ، ويمكن تعريفها بأنها هي :ذبح الحيوان أو نحره بقطع حلقومه (مجرى النفس) أو مريئه (مجرى الطعام والشراب من الحلق) ، وقد بينت كل الدراسات العلمية كيف أن دم الحيوان يحمل مركبات سامة وغازات ، وأنه بيئة حاضنة وناقلة للجراثيم


ولما كان الذبح " عبادة " فإن الله تعالى أمرنا أن نذكر اسم الله عليه ، قال تعالى ( فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم إياه تعبدون} الانعام ) ، ونهانا أن نأكل مما لم يذكر اسم الله عليه (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق )، هذا يؤكد على ارتباط هذه الشعيرة بمنظومة العقيدة والعبادة .


ثم بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم كل الآداب المتعلقة بهذا الأمر حتى يحقق مقاصد الشريعة من هذه الشعيرة ، ويضعها في قالب حضاري رائع ، ويحقق الرفق بهذا المخلوق ، فأمرنا بأن نريح الذبيحة ونحد الشفرة ـ قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدم شفرته وليرح ذبيحته" رواه مسلم


ومن هذا الإحسان ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم وقال: "إذا ذبح أحدكم فليجهز" أي: فليتم. رواه ابن ماجة


وعن ابن عباس أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريد أن تميتها موتات ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟" رواه الحاكم .


وراى عمر رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك !! قدها إلى الموت قودا جميلا. وكان – رضي الله عنه - ينهى أن تُذْبَح الشَّاة عند الشَّاة .... .


وهكذا نجد الفكرة العامة في هذا الباب هي الرفق بالحيوان الأعجم وإراحته من العذاب ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا.وقد بينت الدراسات الحديثة أن إراحة الحيوان قبل الذبح تؤدي إلى الطعم المستساغ ، لأن الجلايكوجين الموجود في العضلات يتحول بعد ذبح الحيوان إلى حامض اللاكتيك الذي يزيد من الحفاظ على اللحم وطراوته .
***


خلاصات وتوصيات :
أتقدم للإخوة والأخوات الحضور بهذه المقترحات لعلهم يجدوا فيها ما يفيد :


أولا : يجب علينا أن نبث الوعي لدى المسلمين قبل غيرهم ، بأن هذا الموضوع ليس موضوع طعام مقبول أن غير مقبول ، بل هي قضية عبادة ودين أولا ، ولكن يجب أن نعرض هذه القضية في ثوب عقلاني مصلحي أيضا بما يؤكد ذلك من دراسات علمية . فالمؤسسات الغربية تحاول تفريغ موضوع الحلال من معناه الديني ، ثم وضع مقايسس خاصة بهم وتلزم المسلمين في أوروبا بل في العالم جميعا بها.


ثانيا : من الأفضل أن يسلك المسلمون عند مطالبتهم بحقوقهم الدينية ، المسالك المعتمدة في أوروبا والغرب ، وهي اللجوء للقوانين ومحاولة مخاطبة صناع القرار ، والحضور الإعلامي المتميز للدفاع عن آرائهم .


ثالثا : علينا أن نطالب دولنا الإسلامية وحكوماتها بهذه المطالب ، ونتواصل مع منظمة التعاون الإسلامي ، فهذه الأمور أعظم تأثيرا ، وأيسر وصولا ، وقد سمعت أن هناك ورشة عمل نظمتها هيئة التقييس لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بالتعاون مع CEN ، في الرياض يوم 7 أبريل 2015 م .وكان هدف الورشة تعزيز المشاركة بين هذه المؤسسات ، و تعريف المشاركين بنظام التقييس الاوروبي . فمثل هذه اللقاءات مهمة جدا .


رابعا : يجب تجديد الخطاب الديني في أوروبا والغرب ، ومعرفة مداخل العقل الأوروبي الذي أصبح سابحا في العلمانية واللادينية والبراجماتية ، كأن يتم – مثلا - إبراز بعض الحقائق للرأي العام ، وهي أن إهمال الذبح الحلال كان بدافع شجع اقتصادي وإهمال لدين الناس وعقائدهم وثقافتهم ، حيث يوفر الصعق ستة أضعاف المكاسب المادية للذبح الحلال ، وكذلك بيان الأوجه العلمية المنطقية والرد على الشبهات التي تحيط بموضوع الذبح ، كالتفريق بين عدم الوعي وبين عدم الإحساس بالألم في موضوع تعذيب الحيوان ، وبين إضرار الدماء المتبقية على الصحة العامة ، وكذلك بيان خطورة ازدراء عبادات المسلمين على السلم الإجتماعي وقيم الإندماج والتعاون والعيش المشترك ، وتنامي الكراهية والعنصرية ،..


خامسا : إن ما تقوم به المؤسسات هي شهادة عظيمة ، فيجب عليها أولا أن لا يخون الشهادة ، وبخاصة في أمر يتعلق بدين الناس وبصحتهم وأموالهم ، ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) وعليها أن لا تقع فيما وقعت فيه العلمانية الغربية التي قدمت الربح على كل شيء .


سادسا : تأسيس هيئة عالمية تعني بالمقاييس الإسلامية للأطعمة ، بحيث تضم علماء من مذاهب مختلفة ومن متخصصين في القانون والطب وعلوم الحيوان ، ... ولعل هذا اللقاء المبارك يكون هو نواة لهذه المؤسسة العالمية ويمكن أن نشكل لجنة تتكلم مع الحكومة التركية بهذا الصدد .


أكرر شكري لأصحاب الدعوة ، ولكل السادة الحضور ، سائلا المولى التوفيق في المسعى وقبول العمل ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


: الأوسمة



التالي
القرضاوي : التقارب بين المذاهب مضيعة للسنة النبوية
السابق
كيف يموت المعتقلون في "سجن العقرب" بمصر؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع