البحث

التفاصيل

الكفاح الإسلامي والأمل الإنساني المعذَّب

"علمتُ أنه حين تشق الروح الهادية العظيمة الإنسانيةَ إلى شطرين متصارعين، سأكون إلى جانب الشعب؛ أعلم هذا، أراه مطبوعاً في سماء الله، أرى نفسي قرباناً في الثورة الحقيقية".
(إرنستو تشي غيفارا)

في أخرى سنواته بكلية الطب في جامعة بوينس آيرس بالعاصمة الأرجنتينية؛ قرر تشي غيفارا المناضل اليساري التاريخي أن يقطع 4500 كم بدراجته النارية، في رحلة طويلة إلى عدد من دول أميركا الجنوبية ليطوف بها البلاد اللاتينية برفقة صديقه ألبيرتو غرانادو، ويُقال عن هذه الرحلة أنها صهرت روحه بمفهومه النضالي الكبير ضد الإمبريالية وحصار الشعوب المضطهدة.

هذه الرحلة عزّزت في شخصية الشاب المتحفز للعدالة الاجتماعية الإيمانَ اليقيني بمظلمة الجنوب اللاتيني، ثم الجنوب العالمي أمام معسكر الإمبريالية الغربية، في ثنائية تسليع العالم الثالث لمصالح الرجل الغربي الأبيض الحصرية، ودعمه للأنظمة الدكتاتورية التي تبطش بهذه الشعوب.

وهو دعم وجدته هذه الأنظمة لدى كل قوة هيمنة غربية، وخاصة المخابرات المركزية الأميركية التي طاردت غيفارا حتى لحظته الأخيرة، وكانت مهمة الوكيل المحلي تسلّمه لتنفيذ الإعدام فقط حيث طُويت رحلة حياته، لكن بقيت رحلة أفكاره تنتشر في العالم، ومواقف حياة غيفارا تحتاج إلى تحليل عميق لا يتسع له هذا المقال.


لكن المؤكد أن تمرده على الهيمنة السوفياتية حين رأى أن معسكر موسكو أضحى قوة برجوازية ثنائية مع واشنطن، وخلافه مع فيدل كاسترو حولها؛ يشير إلى أن نزعة غيفارا كانت تختار بين ثنائية الديالكتيك الإلحادي كأي شيوعي في مزارع موسكو، وقوة المقاومة الأممية للشعوب المضطهدة، التي اعتبرها منظومة اشتراكية موحدة بالمعنى الفكري، فكانت ميوله تتوجه للعنوان الثاني، حسب سياقه النضالي.

وفي إشكالات الصراع بين الثوري العاطفي، وتورط غيفارا في تصفيات دموية ومواجهته لمن هم خارج التصنيف الثوري، وتشكيل فرق إعدام، وبين فشله في الجمع بين صناعة دولة الحرية الجديدة ومسؤولياتها الواقعية؛ هناك مساحة مهمة للبحث أيضاً.

لكن ذلك كلّه لم يلغ معقل الفكرة الرئيس لهذا المقال، والذي اعترف به العالَم لتشي غيفارا حتى في المحيط الغربي، بل أصبح جزءا من مصادر البحث والإلهام الفكري بشأن قضية اقتسام العالم، ومعادلة المقاومة الأممية العادلة في مبدئيتها.

هذه المركزية النضالية الأخلاقية ذات التبرير الفلسفي، هي العنوان الأبرز لتفسير الظاهرة وليس جدل الإلحاد والإيمان، فقضية التبشير الإلحادي والوجودي كانت مرتكزاً لكلتا الشيوعيتين في موسكو وبكين، ثم ما أُنتِج على خلفيتهما أو انصرام قوتهما، في الانشطارات الشيوعية أو اليسارية العديدة التي أنتجت عهوداً بائسة للإنسان.

وتشعر في أحيانٍ كثيرة بأن استدعاء الإلحاد الوجودي بات مهمة وظيفية لخطاب غربي بالوكالة، يُمثّل معادلة تعويض لمسؤولية القوى اليسارية أو منظومة الخطاب الحقوقي الغربي الرسمي والحليف له، وفشلهم في القيام بواجبات العدالة الاجتماعية.

في بلد المثقف المسلم المتمرد الذي يُروّج للوجودية، والذي يحتاج بلده بالضرورة إلى هذه العدالة الاجتماعية السياسية وليس الماركسية العلمية، سواء ولدت فيه ثورة أو في البلدان التي يصدّر لها العقيدة الوجودية غربياً أو اشتراكياً.

ولذلك اعتزلَت تيارات وشخصيات يسارية منصفة حركةَ الجدل الديالكتيكي في تقييم كفاح الشعوب المسلمة، رغم إلحاد بعض هذه الشخصيات، وهو جدلٌ يُستعاد أيضاً اليوم في الثقافة الغربية باسم "قابلية الإسلام للإرهاب"، لكونه أصبح مخرجاً للهروب من السؤال التاريخي: أيهما وقع أولاً التطرف أم الظلم؟

وهل نواجه التطرف بدعم الظلم وتبرير ذلك، لكون المستبد العلماني أو الثيوقراطي أقرب لمصالح الأيديولوجيا الوجودية أو العلمانية الاستئصالية، أو يواجه السؤال الأصلي كما هو في معسكر الاعتدال اليساري، بالبحث عن دوافع التطرف أكان يسارياً أم دينيا إسلاميا.

هذا المشترك النضالي في الفكرة هو الذي ربما دفع مالكوم إكس للإشادة بغيفارا بعد أن التقاه، ولم يتوقف عند موقفه الوجودي، خاصة أن منظومة العنصرية للرجل الأبيض كانت محطة نقد شرس في خطاب غيفارا أمام الأمم المتحدة ممثلاً لكوبا، والاستقلال الاشتراكي الذي كان يرمز له بعيداً عن المعسكر السوفياتي.


وتبدو لنا هنا صورة مهمة للاستدلال في هذا المفصل الحسّاس، وهي نتائج دراسات محايدة ركّزت على الحركة الثقافية والحوار السياسي في الغرب، من عهد طلائع الاستشراق وحتى خلاصات البرلمانات والمؤسسات السيادية الغربية، خلال عمليات الاحتلال الواسعة للعالم الإسلامي، وحتّى اليوم.

وكان يتردد فيها -بكثافة وتركيز منهجي- أن هذه الأمم المحتلة هي أممٌ متخلّفة، لا يُمكن التعامل معها إلا بالقسوة، وكانت قسوة نازية تعني القتل والتشريد، وتعني الحرمان من الاستقلال، ليس السياسي فحسب بل حتى الثقافي المتصل بالهوية للفرد المسلم.

كان لدى العالم الإسلامي طوال تاريخه -رغم التخلف الذي سبّبه المستبد- منظومة أممية ثقافية، وكان المقابل الفكري للنظرة الوجودية هو التوازن النفسي بين الروح والجسد، الذي يُقدّم للمسلم في مسيرته معادلة كاملة في منظومة الفكرة الرئيسية، تقضي بأن حياته الصالحة تعني حياة أخلاقية ودربا للآخرة، وأن ضميره المراقِب لله يُحفزه للعدل والنقاء.

وأن وحدة العالم المؤمن بهذه المعادلة حق لأقوامه، كضمير مشترك قبل الجغرافيا السياسية التي فَرضت عليها الشيوعية أو الرأسمالية قوتها القهرية، وعلى أجزاء واسعة منه، عبر المئات من المذابح وتشريد الملايين من المغرب إلى القوقاز وجاكرتا.

كانت هذه المعادلة تُمثّل استقلالاً فكرياً وهويّة أممية، ورغم أن الدولة العثمانية مثّلت تجميعاً رمزياً لهذه الجغرافيا فإنها لم تكن رمزاً لهذه العقيدة الفكرية، بل هذه العقيدة كانت سلسلة متصلة للشرق بدون تبعية سياسية في مضمون ضميرها، وهي سابقة قبل العثمانيين ولاحقة بعد سقوط الأستانة.

خاصة حين فشلت الدولة العثمانية في رعاية التعليم والنهضة، فضلا عن الاستبداد الذي مورس من قبل سلطاتها على بلدان الشرق المسلم الذي تعاطف معها، فتعلقت الأمة بوحدتها لرمزيتها الجغرافية للأمة، ووفاءً لحمايتهم من الحروب التي شنّها الغرب على شعوبهم وعاصروا توحشه عليهم، فوقفوا أمام قرار إسقاطها لكونها شريكا جامعا معهم لا مصدراً لوحدتهم الفكرية.

وهنا نطرح تجسيداً لنموذجنا المقترح لرحلة غيفارا بدراجته النارية التي حملته إلى منظومة القسم اللاتيني من عالم الجنوب المضطهد، ولكن غيفارا هنا كان شاباً مسلماً مثقفاً، قرر أن يطوف تلك البلدان في زمن تقديري مفتوح، كرؤية خيالية في قالبها الزمني، وحقيقة في مشاهدها ومعلوماتها التاريخية تقودنا لاستنتاج علمي.

فيطوف غيفارا المسلم على هذا العالم الإسلامي ليقف فيه على أعمال التنكيل بالمدنيين المسلمين في شرق آسيا، ومليون قتيل في حرب استقلال الجزائر عبر 130 عاما! ويقف عند اختطاف أبناء القبائل الأفريقية المسلمة والوثنية ثم نقلهم كعبيد للرجل الغربي، وما واجهوه من تعذيب وذل وسحق متوحش، في وطن الحلم الجديد للبروتستانت المسيحيين.

ويروي لنا ما رآه من أعمال الاحتلال الفرنسي في الشام، ثم محاصرة الإنجليز للشعب الفلسطيني بعد وعد بلفور، وحرق المسجد الأقصى ثم تسلّم الاحتلال الصهيوني له وسلسلة من المذابح والتهجير، وطريقة تعامل وإعدام المناضلين الوطنيين في مصر.

ورحلة الكفاح والاستقلال في ليبيا وبقية المغرب العربي، فيبرق شعاع عمر المختارفي عينيْ غيفارا المسلم على منصة الإعدام، ويدرك كيف كانت تُمتهَن الكرامة الوطنية الليبية، ثم يرى ما بعد اكتشاف النفط في إيران وشرق الجزيرة العربية، ودور الشركات الغربية في تقاسمه وتأميمه مع الاستبداد بعيداً عن حق الشعوب.


ثم يصل إلى أفغانستان وكيف تحول الغزو الروسي -بعد نظيره الإنجليزي- إلى أرضٍ محروقة وقتال مفتوح، سُحق فيها الشعب في أكثر من حرب، كانت بصمتها الأعنف باسم المجد الأطلسي، الذي أكمل قتل المليون الثاني بعد مليون السوفيات الأول، وتساءل هل تطرف حركة طالبان الأحمق فعل أم ردة فعل؟

ثم تصل درّاجته إلى الزمن الجديد، فيرى أن عواقب التدخلات الغربية التي عززت التخلف، وحاصرت حركة الإحياء الإسلامي التي سعت لتنوير العقل المسلم وشفائه من أدواء الشرق الذاتية، ومن تدخلات وحروب الغرب الموسمية، قد انتهت إلى حرب كبرى في العراق خلفت الملايين من القتلى والجرحى، واشتعلت بعد هذه الحرب تحديداً كراهية طائفية لم يعرفها الشرق في تاريخه.

ثم يقف هذا الشاب متسائلاً عن دور الغرب مجدداً في مواجهة حركة الربيع العربي، وما هو دور المستبد في تدخله عبر البرجوازية السلفية التي اصطادت بثقافتها المتشددة المحرومين من بروليتاريا السلفية، عبر بترولها المتدفق في يد شركة الرجل الأبيض.

ثم أحرقتهم بذات النفط الخليجي الذي عمّد عقائدهم، أو عبر ذراعه السياسي الذي دعم الغرب قادته، وواصل معهم الصفقات المليارية في مذابح متجددة، وهل أمراض الشرق وتخلفه مبرر لإغفال مذابح وتهميشها لكون قتلاها من المسلمين كما هو في ميانمار؟ وهل ستنصهر روح غيفارا المسلم في أمل المسلمين المعذب؟

إن سلسلة التأملات التي سيقف عليها رحّالة الدراجة غيفارا المسلم مخزون ضخم، لتدوير سؤال الحقيقة الكبرى قبل أن نصل إلى مرحلة التطرف؛ فهل يعيش العالم الإسلامي تحت ظُلامةٍ كبرى؟ وهل يحق له الإيمان بكفاحه لتحقيق تحرر يجمعه مع المظلومين من بقية العالم الجنوبي ويؤسس حركة نهضته وتقدمه؟

هل الخلل ذاتي والشعوب الإسلامية كان يجب عليها كاللاتينية التجاوب مع موقف المخابرات الأميركية وإعلامها الضخم في الحرب الباردة؟ وأن تخضع لمعادلة الحديقة الخلفية للإمبريالية، سواء في توحشها الغربي أو السوفياتي، لكي تعيش مرحلة الحَيْوَنة الاختيارية في مزارع الغرب الكبيرة؟

كانت معادلة الإيمان بحق الكفاح ثنائية تحت مشهد الفرد المسلم، ولذلك كان خطاب النهضة والتنوير الإسلامي يتوجه للمسارين، حرية الشرق من الهيمنة الغربية، وحريته من التخلف والخرافة لصناعة المعرفة وتأمين الصحة والتقدم المدني، ومع ذلك كان هناك إرث غربي ليس بالسهل، من تنميط الدونية والانحطاط على الشرق المحتل قبل ولادة التطرف الأخير.

فهل كانت أسئلة البحث في حركة الإحياء الإسلامي تقوم حينها على تحشيد حرب مواجهة مع الغرب، أم حملة دفاع وتحرير نهضوي؟ وكيف انحرف ميدان المقاومة فاستهدف المدنيين؟ وهل هذا الانحراف يُسقط هوية الكفاح الإسلامي ومشروعيته بثوب عدالة ديمقراطي يختاره الشرق، لا ببغي المتطرفين نيابة عنه ولا بغي المستبدين؟
أسئلة لعلنا نجيب عليها بعون الله في المقالات القادمة.


: الأوسمة



التالي
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرع فلسطين و رابطة علماء فلسطين ينظمان وقفة علمائية احتجاجاً على الجرائم ضد المسلمين في بورما
السابق
قصة التاريخ والجغرافيا: هل من حل لمشكلة مسلمي الروهينجا؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع