أدركت الأمة المسلمة جيلاً بعد جيل مكانة القدس ومقدساتها وارتباطها بعقيدتها ، فهذه المدينة المقدسة التي كانت تحت السيطرة البيزنطية فتحت أولاً في العهد النبوي فتحاً روحياً بمعجزة الإسراء والمعراج ؛ فإليها انتهى الإسراء ومنها بدأ المعراج إلى السموات العلا ؛ قال سبحانه وتعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 . ثم فتحت في عهد الخلافة الراشدة فتحاً سلمياً يوم أن تسلمها الفاروق عمر بن الخطاب ؛ أمير المؤمنين رضي الله عنه من بطرقها صفرونيوس دون أن تراق فيها قطرة دم واحدة ، ووقع معه معاهدة الأمن والسلام العهدة العمرية التي أمّن فيها النصارى على كنائسهم ودور عبادتهم وصلبانهم وأموالهم ، ووافق على شرطهم ألاَّ يساكنهم فيها أحد من اليهود ، هذا العهد الذي ما زال الفلسطينيون يسيرون على هديه حتى اليوم في تعاملهم مسلمين ومسيحيين ؛ في علاقة مميزة نفاخر بها العالم ، وهي المدينة الوحيدة التي سار إليها سيدنا عمر من بين سائر المدن المفتوحة ، وما ذاك إلا لمكانتها وأهميتها التي ذكرتُ .
والقصة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما تولى الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عمل على تنفيذ الوصية النبوية بإنفاذ جيش أسامة ، وهو الجيش الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح الشام ، الجيش الذي يضم عدداً من كبار الصحابة المجاهدين بقيادة الشاب أسامة بن زيد رضي الله عنه ، ولكن لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد الجيش إلى المدينة المنورة ، فبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ومبايعة أبي بكر بالخلافة خرج مع هذا الجيش إلى خارج المدينة المنورة مودعاً ، وموصياً للجند بالتزام أخلاق الإسلام في الحرب .
واصل هذا الجيش وقادته فتوحات بلاد الشام . وكان فتح مدينة القدس على يد أحد قادة هذا الجيش في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه . فلما فرغ أبو عبيدة من فتح دمشق كتب إلى أهل إيلياء (القدس) يدعوهم إلى الصلح فلم يستجيبوا ، فاستخلف على دمشق سعيد بن زيد رضي الله عنه وسار إلى بيت المقدس فحاصرها ، فطلب أهلُها الصلحَ بشرط أن يقدم إليهم الخليفة ليستلمها منهم .
كتب أبو عبيدة إلى الخليفة بذلك ، فاستشار عمر الناس ، فأشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسير إلى بيت المقدس لاستلامها ، فاستحلف أمير المؤمنين على المدينة المنورة علياً ، وتوجه إلى بيت المقدس في رحلة تاريخية لا تنسى ، وسار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه على مقدمته ، فلما وصل الجابية بالشام أقبل عليه عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ، فاعتنقهما أمير المؤمنين عمر ، ثم كان في استقباله أبو عبيدة ورؤس الأمراء : خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وغيرهما ، فترجّل أبو عبيدة وترجّل عمر عن رواحلهما ، فلما همَّ أبو عبيدة ليقبّل يد عمر همَّ عمر ليقبّل رجل أبي عبيدة ، فتوقف أبو عبيدة عن ذلك فكفّ عمر أيضاً .
صالح الفاروق أهل بيت المقدس الذين طلبوا منه الأمان والصلح ، وكتب لهم كتاب الأمان وهو العهدة العمرية في وثيقة خالدة هذه نسختها [ بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى عبد الله أمير المؤمنين عمر أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها ، وأنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ولا يُضَارّ أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعَهُم وصُلُبَهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل (...) فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله ؛ فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم . وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية . شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة 15 هـ ] .
دخل أمير المؤمنين مدينة القدس ليلاً من جهة جبل المكبر ؛ الذي سمي بذلك لأنه كبر عليه وكبر المسلمون معه ، ويروي المؤرخون أن هذا كان في شهر رجب من السنة الخامسة عشرة للهجرة ، وفي هذا دلالة على معجزة الإسراء والمعراج ، تماماً كما كانت دلالة تحرير القدس من احتلال الفرنجة ليلة الإسراء والمعراج ، ودخل عمر المسجد الأقصى المبارك من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو باب النبي الذي سمي فيما بعد بباب المغاربة ، وصلى تحية المسجد في محراب داود ، ثم بان الفجر فأذن المؤذن للصلاة للمرة الأولى في مدينة القدس ، فصلى بالمسلمين صلاة الفجر ، فقرأ في الأولى بسورة ص ، وسجد فيها والمسلمون معه أي سجدة التلاوة ، وقرأ في الثانية بصدر سورة الإسراء ، وقد دأب كثير من الأئمة على قراءة سورة ص في صلاة الفجر حرصاً منهم على ثواب سجدة التلاوة ، وهذا ما كان في يوم الجمعة 25/2/1994م في الحرم الإبراهيمي الشريف حيث ارتكبت المجزرة الصهيونية المروعة على يد السفاح المجرم باروخ جولدشتاين أثناء سجدة التلاوة فسقط عشرات الشهداء .
ثم خطب عمر رضي الله عنه في أهل بيت المقدس [ يا أهل إيلياء لكم ما لنا وعليكم ما علينا ] ، وهذا الخليفة العادل ـ كما معظم قادة الأمة ـ لم يكن رجل شعارات أو كلمات معسولة خادعة يستقطب بها الناس ؛ بل هو أول من نفَّذ عهده إلى أهل إيلياء وطبقه على أرض الواقع ، فقد [ دعاه البطرق صفرونيوس لتفقد كنيسة القيامة ، فلبى دعوته ، ولما أدركته الصلاة وهو فيها التفت إلى صفرونيوس وقال له : أين أصلى ؟ ، فقال : مكانك صل ، فقال ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجداً ] ، فابتعد عنها رمية حجر وفرش عباءته وصلى ، وجاء المسلمون من بعده وبنوا على ذلك المكان المسجد المسمى بمسجد عمر .
إذاً خشي عمر أن يغلبهم الناس على حق من حقوقهم ، وهذا دلالة على وجوب حفاظ المسلمين عليها وعلى جميع الكنائس وحمايتها من أي اعتداء .
ورد في الأثر أن عمر رضي الله عنه { سأل كعب الأحبار أين تُرى أن أصلي ؟ فقال : إن أخذتَ عني صليتَ خلف الصخرة وكانت القدس كلها بين يديك ، فقال : لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتقدم إلى القبلة فصلى } رواه أحمد ، وكان قد جاء إلى الصخرة التي عرج منها بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فاستدل على مكانها من كعب الأحبار ، فقال له يا أمير المؤمنين اذْرَعْ كذا ذراعاً من وادي جهنم (المسمى اليوم وادي النار) ، فذَرَعَها هو والمسلمون فوجدوها وظهر لهم حجمها الحقيقي ، ثم نقل التراب عنها بيديه الطاهرتين وكنسها بطرف ردائه ، وكنس المسلمون وغيرهم معه ونقلوا القمامة والأوساخ والتراب .
واستمرت المدينة المقدسة ومسجدها الأقصى المبارك من يوم الفتح العمري تحت السيادة الإسلامية تنعم بالأمن والأمان والتسامح والسلام ؛ حتى جاءت حملات الفرنجة المتتالية في عهد ضعف الأمة وهوانها ، فوقعت تحت الاحتلال الصليبي ، لكن الأمة ما لبثت أن نهضت من جديد فحررتها من هذا الاحتلال بعد أقل من قرن ، وأعادت إليها هويتها الإسلامية الحقيقية .
وإنني ـ والأمة كلها ـ على يقين بأن الهوية الإسلامية ستعود إلى هذه المدينة المقدسة ، وستكون العاصمة الروحية للأمة المسلمة ، وستكون أيضاً العاصمة الوطنية والسياسية للدولة الفلسطينية المستقلة والتي سيقيمها الشعب الفلسطيني على كامل تراب أرضه ووطنه المقدس .