البحث

التفاصيل

من أحكام رؤية هلال شهر رمضان المبارك

الرابط المختصر :

كل عام، وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر شعبان، وهو يوم عظيم حيث إن من أهم الأعمال فيه تحري الأمة هلال شهر رمضان المبارك، فغالبية أقطار العالم الإسلامي يرقب أبناؤها الهلال هذه الليلة، فإن ثبتت رؤيته يكون اليوم التالي، الأول من رمضان، وإن لم تثبت الرؤية فسيكون اليوم التالي هو المتمم لشهر شعبان.

 

     أما عن الهلال فقد خلق الله عز وجل الشمس والقمر آيتين بهما يتعاقب الليل والنهار، وبهما تكون الشهور التي ينقضي بمرورها الزمان، قال تعالى {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم} براءة 36. وبمنازل القمر تُعرف الشهور دخولها وخروجها.

 

     والهلال أول منازل القمر التي تتعلق به أمور دنيوية ودينية؛ فأما الدنيوية فمنها حلول آجال الديون واكتمال الرشد ومعرفة التاريخ والتقويم الزمني، قال تعالى {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} يونس 5، وأما الدينية فمنها العبادات؛ فعبادة الصيام مثلاً تجب برؤية هلال رمضان، والخروج منها لعيد الفطر يكون برؤية هلال شوال، قال صلى الله عليه وسلم {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين} رواه البخاري، وبهلال ذي الحجة تعرف مواقيت مناسك الحج وشعائره، قال تعالى {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} البقرة 189.

 

     والهلال اسم لما يُستهلّ به؛ أي يُعلن ويُجهر به حتى يراه الناس ويعلموه، فإذا طلع في السماء ولم يظهر للناس ولم يعرفوه لم يكن هلالاً، والشهر مأخوذ من الشهرة؛ فإن لم يشتهر بين الناس لم يكن الشهر قد دخل، وقد اتفق العلماء على ضرورة الجد في التماس الأهلة ليلة الثلاثين من الشهر القمري أي بعد غروب شمس اليوم التاسع والعشرين منه.

 

     ولأهمية تحديد مطالع الشهور القمرية وضع العلماء أسساً وقواعد مستمدة من النصوص الشرعية؛ فقد فرقوا بين الرؤية التي توجب الدخول في العبادة والرؤية التي تفيد الخروج منها، ففي رؤية هلال رمضان تقبل شهادة رجل مسلم واحد، روى ابن عباس أن اعرابياً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال فقال {أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال نعم قال " يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غداً} رواه الترمذي، وروى ابن عمر أن الناس تراءوا الهلال فأخبرتُ رسول الله عليه الصلاة والسلام أني رأيته {فصام وأمر الناس بصيامه} رواه أبو داود، أما  رؤية هلال شوال فلا بد لها من شاهدين عدلين رجلين؛ قال أنس بن مالك رضي الله عنه أن {عمومة له شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال فأمر الناس أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد} رواه أحمد، وهلال ذي الحجة كهلال شوال لا بد لرؤيته من شهادة رجلين عدلين مسلمين.

 

     كان صلى الله عليه وسلم يعتني بهلال شعبان عناية فائقة، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها {كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحفّظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام} رواه أبو داود، أي أنه كان يجتهد في عدّ أيام شعبان لضبط دخول شهر رمضان وللمحافظة على صومه.

 

     ورؤية الهلال المطلوبة تعني مشاهدته بالعين؛ فلا يُصام إلا برؤية مستفيضة تنتشر بين الناس أو بشهادة عادلة موثوقة وهذا ما عليه جمهور الفقهاء، فقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم طرق إثبات رمضان في رؤية الهلال وإكمال شعبان ثلاثين في قوله {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} رواه البخاري، فقد ثبت بالسنة الصحيحة أن لا عبرة بقول الحاسبين؛ قال صلى الله عليه وسلم {إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا – يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين} رواه البخاري.

 

     وأجدد اليوم التأكيد على مسألة اختلاف المطالع التي يكثر بسببها الجدل في هذا الموسم من كل عام، وتظهر الخلافات والاختلافات؛ واختلاف المطالع يعني أن كل بلد يختلف عن البلاد الأخرى في وقت طلوع الشمس والقمر وغيرهما من النجوم والكواكب؛ مما يقتضي الاختلاف في زمان أداء العبادات المتعلقة بتلك المطالع، وهي مسألة اجتهادية للعلماء فيها رأيان:

 

1- فجمهور العلماء يرون أن لا عبرة باختلاف المطالع في البلدان القريبة بحيث يتبع بعضها بعضاً، فإذا رأى أهل بلد هلال رمضان ولم يره أهل بلد أخرى  فيجب الصيام على من رآه ومن لم يره في يوم واحد، أما في البلاد البعيدة جداً فلأهل كل بلد رؤيتهم؛ ويُقدّر البعد والقرب بمسافة القصر عند بعض الفقهاء فما زاد عليها فهو بعيد، واستدلوا على رأيهم هذا بقوله صلى الله عليه وسلم {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} رواه البخاري، فالخطاب موجّه لجميع المؤمنين بإيجاب الصيام عليهم للرؤية المطلقة دون تحديدها بمكان.

 

2- أما الشافعية فيرون أن اختلاف المطالع يقتضي أن يكون لكل بلد رؤيتهم؛ فرؤية الهلال في بلد لا يثبت بها حكمه لأهل البلدان الأخرى؛ لأن اختلاف الهلال باختلاف الآفاق أمر واقع ومشاهد في بلاد المسلمين، فكما أن لكل بلد وقت للغروب ووقت للشروق ووقت للفجر مختلف عن غيرها من البلاد فكذلك رؤية الهلال، واستدلوا على رأيهم بحديث ابن عباس {عن كُرضيْبٍ أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام؛ قال فقدمتُ الشام فقضيتُ حاجتها؛ واستهلّ عليّ رمضان وأنا بالشام ليلة الجمعة ثم قدمتُ المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة؛ فقال أنتَ رأيتَه؟ فقلتُ نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية؛ فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه؛ فقلتُ أوَلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال لا؛ هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه مسلم، فدل الحديث على أن الرؤية لا يثبت حكمها بحق البعيد، فإيجاب الصيام على جميع الأقاليم برؤية الهلال في أحد أقطارها مخالف للقواعد؛ لأنه يقتضي أيضاً إيجاب الإمساك والإفطار في ساعة واحدة على جميع المسلمين في كل البلاد؛ ويقتضي كذلك إيجاب الصلوات الخمس على جميع المسلمين في كل البلاد في وقت واحد استناداً إلى قوله تعالى {أقم الصلاة لدلوك الشمس} الإسراء 78، فإنها تخاطب جميع المؤمنين بإيجاب الصلاة عليهم لزوال الشمس المطلق دون تحديده بمكان.

 

     ويترتب على كون اختلاف المطالع مسألة اجتهادية أنْ ليس لأي شخص إيجاب رأي فيها على الناس دون الآراء الأخرى، فليس ذلك إلا لولي الأمر، حيث إن حكم الحاكم يرفع الخلاف ويوجب الاتّباع كما هو معلوم عند الفقهاء.

 

    وفي رأيي أن مسألة اختلاف المطالع غير مؤثر حقيقة وواقعاً وتاريخاً في وحدة الأمة المسلمة ولا مضعفاً لها؛ لأن الوحدة من ثمار الفكر الإسلامي المنبثق من عقيدة التوحيد الواحدة التي يدين بها أبناء الأمة؛ فالوحدة نظام واحد ومواقف مشتركة في التصدي للقضايا المصيرية التي تواجهها الأمة، الوحدة هي المؤازرة والتناصر بين الأخوة في البأساء، وهي المواساة والتضامن في الضراء، هذه هي الوحدة الحقيقية الراسخة في النفوس والنابعة من القلوب والضمائر.

 

     وعلى الرغم من أن جمهور الفقهاء ـ كما ذكرتُ ـ يرون وجوب صيام وفطر جميع المسلمين في يوم واحد؛ إلا أن هذا الرأي لم يطبق في تاريخ الأمة، ولم يتسبب ذلك يوماً في إثارة خلاف أو نزاع بين أبنائها أو علمائها وقادتها، لكن لا بد من القول بأن عدم اعتبار اختلاف المطالع في الصيام هو مظهر من مظاهر الوحدة المنشودة للأمة المسلمة ـ وإن كان مظهراً شكلياً ـ وهو أمر ممكن في هذا الزمان الذي تَسارَعَ فيه تطور وسائل الاتصال الحديثة التي تضمن سرعة انتشار الخبر بثبوت رؤية الهلال، وسرعة تبليغه إلى المسلمين كافة في كل مكان، وهو مطلب عام يتطلع إليه الناس ويعبرون عنه سنوياً في الوقت الذي ينتظرون فيه ثبوت هلال شهر رمضان المبارك.

 

     وأنبه في الوقت ذاته إلى مسألة هامة جداً: وهي أن المنفرد برؤية الهلال إذا ردّ القاضي شهادته يصوم عند بعض العلماء لقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} البقرة 185، وهو قد شهده، أما في هلال شوال فيفطر سراً لأنه إذا جاهر بالفطر عرّض نفسه لعقوبة الحاكم وللتهمة في دينه، ووقع في مخالفة الجماعة، وأسهم في إشاعة الفوضى والبلبلة بين أهل البلد، قال صلى الله عليه وسلم في ذلك {صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون} رواه الترمذي، وقال الحسن البصري في ذلك: لا يصوم إلا مع الإمام ولا يفطر إلا معه.



: الأوسمة



التالي
7 آلاف قتيل و42 ألف مصاب.. 9 حقائق لتعرفها عن الكارثة الإنسانية في اليمن
السابق
القره داغي يطالب الأمة الإسلامية بجعل شهر رمضان إحياء للنفوس ولقضايانا الكبرى

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع