البحث

التفاصيل

وداعا شيخ الانتفاضة وأبا المقاومة - في ذكرى وفاته 22 مارس 2004م

 {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]. صدق الله العظيم.
في يوم 22 مارس 2004م، ودعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وودعت فلسطين كلها: سلطة ومقاومة، بل ودعت الأمة العربية، والأمة الإسلامية: رجلا من رجالاتها - والرجال قليل - إنه الشيخ الجليل المجاهد الصابر المحتسب أحمد ياسين، شيخ حماس، ومؤسِّس الحركة الإسلاميّة، والعمل الجهادي الإسلامي في فلسطين، الذي عاش عمره للدعوة والجهاد، ونذر حياته للنضال من أجل تحرير وطنه من الاحتلال الصهيوني الغاشم. حرك مسيرة الجهاد في غزة والضفة الغربية، وأسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لتقوم بدورها في الجهاد، وقضى في السجن ما قضى من سنوات وهو صابر مرابط، لا يهن ولا يستكين، وكان قد حدد غايته بوضوح، وهي: ضرب الاحتلال ودحره بكل ما يمكن من قوة، وعدم الخروج بهذه العمليات عن دائرة فلسطين كلها، وتحريم توجيه السلاح إلى صدر فلسطيني. فالدم الفلسطيني حرام حرام حرام.
وكان هذا الرجل الجليل القعيد الأشل الضعيف، الذي لا يستطيع الوقوف على رجليه، عاش عمره قعيدًا على كرسي لا يتحرك إلا بمحرك يحركه، ولا يستطيع أن يفارق هذا الكرسي إلا بمن يعينه، يزلزل أمريكا والطغاة في العالم، ويزلزل الطغمة الطاغية الباغية في الكيان الصهيوني، ويرعب قادته العسكريين والسياسيين، وهو جالس على كرسيه لا يستطيع أن يفارقه إلا بمعين، رغم قعوده، ورغم زمانته، ورغم مرضه، فوراء هذا الجسم المريض النحيل، روح قوية لا تستسلم ولا تخنع وتنحني إلا لله.
لم يكن أشل العقل، ولا أشل الإرادة، وكم من أناس في دنيانا أصحاء الأجسام، مراض العقول، مراض الإرادة، ولكنه كان صحيح العقل والفكر، صحيح الإرادة والعزم.
إن رجولة الرجال لا تقاس بقوة أجسامها، بل بقوة إيمانها وفضائلها. وقد قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون:4]، وقال العرب في أمثالهم: ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل؟
إنه نموذج للإنسان المؤمن، الذي نذر نفسه لله، وللإسلام، ولفلسطين، ولمقاومة العدو الباغي الآثم، ومقاومة الصهيونية العالمية، عاش عمره لهدف ولرسالة، ليس كأولئك الذين يعيشون لبطونهم وفروجهم، أو أولئك الذين يعيشون لمناصبهم وكراسيهم، يعبدون شهواتهم، ومن أجلها يقدمون تنازلات وراء تنازلات، ومثل هؤلاء العبيد لا يستطيعون أن يقولوا: لا. مرة واحدة، إلا من رحم ربك منهم، وقليل ما هم.
كان صاحب إرادة، قادرًا على أن يقول : لا. كان في السجن صابرًا مصابرًا مرابطًا، وكان بعد السجن صابرًا مصابرًا مجاهدًا، مصممًا على أن يحرر أرضه من هذا الرجس الذي لوثها.
قال مناحم بيجن في كتابه (التمرد): أنا أحارب إذن أنا موجود ! فقال الشيخ أحمد ياسين: وأنا أقاوم إذن أنا موجود. الذي يدل على وجودي هو المقاومة، والمدافعة والتحرير لأرض المقدسات والنبوات، لأرض الإسراء والمعراج، لأرض المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.
كان رجلًا بأمة، قد عاش سنين طويلة في سجون الصهاينة، فما وهن، ولا ضعف، ولا استكان، ولا خضع، ولا لان، كالذين قال الله فيهم: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]. طالما عرض عليه الإسرائيليون أن يتنازل بعض الشيء ليطلقوا سراحه، ويفكوا أسره، ويخلوا سبيله، ولكنه أبى.
لم يمدّ يديه إلى إسرائيل، ولم يحن هامته ذُلًا لهم، ولكنّه صبر على بلائه، وبقي في سجنه كالأسد الهصور، حتى جاءه هذا الإفراج. وحينما جاءه هذا الإفراج قال: إنّه لا يرضيني إلا أن يفرج عن جميع المعتقلين والأسرى في سجون إسرائيل! وقال: إن الإفراج عنه لا يعني أن يقف الجهاد، بل سيظلُّ الجهاد مستمرًّا مرفوع اللواء
زارنا في قطر في شهر إبريل 1998م، وخطبت في حضوره وحييته، وحييت المقاومة، واستمع الناس لكلمته بعد صلاة الجمعة، وزار عددًا من البلاد العربية من أجل قضيته.
عاش الشيخ ياسين معلمًا مجاهدًا عابدًا، يعلم الناس الدين، ويجمع الشباب على الإيمان، ويربيهم على أخلاق الإسلام، ويملأ صدورهم حماسة للجهاد، ويشعل جذوة المقاومة في قلوبهم، ليعيشوا حياة الجهاد والمقاومة. عاش معلمًا ومربيًا، وعابدًا قانتًا، حتى أتاه اليقين.
تعب كثيرًا من أمراض ألمت به، فاضطر أن يدخل المستشفى، ورأى الأطباء أن الشيخ في حاجة إلى أن يبقى في المستشفى عدة أيام، فأبى، فقد يعلم الصهاينة بوجوده في المستشفى، فيحاولون أن يضربوه فيه، فيموت أعداد من الناس لا ذنب لهم!
نقول في أدعيتنا التي علمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وموت الشهداء، والفوز في القضاء، والنصر على الأعداء" . وقد عاش الشيح سعيدا، لم يكن من الأغنياء ولا المترفين، ولكنه كان سعيدًا بإيمانه، سعيدًا برسالته، سعيدًا بأبنائه؛ أبنائه من صلبه الأحد عشر، وأبنائه الروحيين وما أكثرهم! رباهم على الجهاد، ورآهم يقدمون أرواحهم، ويضعون رؤوسهم على أكفهم، ويفجرون أنفسهم في عدو الله وعدوهم. ألا يعيش سعيدًا من رأى ثمرة عمله في حياته؟ كان من أسعد السعداء رغم ضيق عيشه، ولو أراد الملايين لجاءته، ولكنه آثر أن يعيش في بيته المتواضع، إلى أن مات شهيدًا، وأي شهادة؟!
إن استشهاد الشيخ أحمد ياسين بهذه الصورة المروعة، وهو خارج من مسجده بعد أداء صلاة الفجر، ومعه ثمانية آخرون استشهدوا، وآخرون جرحوا، إن هذا الحادث الجلل ليحمل إلينا وإلى الأمة دروسا يجب أن نعيها:
أولها: أن الرجل باستشهاده قد حقق أمنية كان يطلبها لنفسه من ربه، يطلبها في سجوده، ويطلبها في حياته كلها، كما يطلبها كل مجاهد مخلص: أن تختم حياته بالشهادة، في سبيل الله، وهل هناك ختام أغلى وأعظم من هذا الختام؟
سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول: اللهم آتني أفضل ما آتيت عبادك الصالحين. فقال له: "إذن يعقر جوادك، وتستشهد في سبيل الله" . هذا أفضل ما آتى الله عباده الصالحين، أن يضحي بنفسه وماله في سبيل الله، حتى جواده يعقر.
لو كان أحمد ياسين ينشد السلامة، ويحرص على الحياة، أي حياة، لاستطاع أن يترك بيته، وأن يغير مكانه من بيت إلى بيت، ويعمي على الطغاة الصهاينة، ويتجنب الصلاة في المساجد، ولا سيما صلاة الفجر، ولكنه وصمم على أن يبقى في بيته، وأصرَّ أن يؤدي الصلوات الخمسة كلها في المسجد حتى الفجر، وأن يصلي في المسجد القريب منه!
مات بعد أدائه لصلاة الفجر في جماعة، وقبل الفجر طلب بعض اللقيمات ليتسحر للصيام، فقيل له: إن صحتك لا تساعدك. فصمم على أن يصوم، فجاء مقتله بعد أن أدى فرضه، وأرضى ربه، وبهذا لقي ربه متوضئا مصليا، مسبحا صائما راضيا مرضيا!! ما أعظمها من نفس! وما أكرمها من نفس! تصمم على ما عاشت له، لتعيش عليه وتموت عليه، وقدر الله له أن يموت هذه الميتة الشريفة، ليختم له بالشهادة، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4-6].
وإنا لنرجو وندعو ربنا أن يختم لنا بما ختمه لأحمد ياسين.
وثاني الدروس: أن موت أحمد ياسين لن يضعف من المقاومة، ولن يطفئ شعلتها، كما يتوهم (شارون) وعصابته في دولة الكيان الصهيوني، بل سيرون بأعينهم: أن النار ستزداد اشتعالا، وأن أحمد ياسين ترك وراءه رجالا، وأن كل الفصائل ستثأر لأحمد ياسين، وكلها توعدت إسرائيل: كتائب القسام، وسرايا القدس، وكتائب شهداء الأقصى، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى، ومناضلو الجبهة الشعبية، وكل أبناء فلسطين: وحدتهم المحنة، ووقفوا صفا واحدا ضد المجرمين السفاحين.
قال أحد الأخوة : لن يشفي غليلنا في الشيخ أحمد إلا قتل شارون. قلت له : وهل شارون كفء للشيخ أحمد؟ نحن نقول له: بُؤْ بشسع نعل أحمد. كما قال المهلهل ابن ربيعة - وقد قتل أحد أبطال بكر بن وائل، فقالوا له: هذا بأخيك كليب. قال: ليبؤ بشسع نعل كليب! ونحن نقول: شارون بشسع نعل أحمد ياسين. أحمد ياسين رجل في زمن عز فيه الرجال، بطل من أبطال هذه الأمة، لا يكفينا فيه ألوف من هؤلاء، ولسنا طلاب ثأر، ولكنا طلاب حق. والذي يكفينا فيه أن تتحرر فلسطين، كل فلسطين، وأن تتطهر من رجس الغاصبين الظالمين. هذا هو الذي يشفي غليلنا.
إن دم الشيخ ياسين لن يذهب هدرا، بل سيكون نارا ولعنة على إسرائيل، وحلفاء إسرائيل، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
ولقد جربت إسرائيل القتل والاغتيال للقادة من قديم: جربته في لبنان (أبو يوسف النجار ورفاقه)، وجربته في تونس (أبو جهاد وأبو إياد)، وجربته في فلسطين: قتلت يحيى عياش، وفتحي الشقاقي، وأبو علي مصطفى، وصلاح شحادة، وإسماعيل أبو شنب، وغيرهم وغيرهم، فلم تتوقف المقاومة، ولم تسكن ريح الجهاد، بل حمي الوطيس أكثر مما كان.
وكيف لا وقد علمنا القرآن أن المسلم لا يقاتل من أجل شخص، ولو كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يقاتل من أجل مبدأ ورسالة، ولهذا حين أشيع نبأ قتل الرسول الكريم في غزوة (أحد) وفت ذلك في عضد كثير من المسلمين نزل قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
وضرب لهم مثلا بما حدث لأصحاب الدعوات قبلهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، وفي قراءة: {قُتِلَ}. إن الشعب الفلسطيني البطل شعب ولود، كلما فقد بطلا، ولد بطلا آخر، بل أبطالا يخلفونه ويحملون رايته، ولن تسقط الراية أبدا، وما أصدق ما قاله الشاعر العربي قديما:
إذا مات منا سيد قام سيد * قئول لما قال الكرام فعول!
وثالث الدروس :أن إسرائيل قد طغت واستكبرت في الأرض بغير الحق، وأمست تقترف الجرائم البشعة كأنما تشرب الماء، فهي في كل صباح ومساء، تعيث في الأرض فسادا، وتهلك الحرث والنسل، تسفك الدماء، وتقتل الأبرياء، وتغتال النجباء، وتذبح الأطفال والنساء، وتدمر المنازل، وتجرّف المزارع، وتقتلع الأشجار، وتنتزع الأرض من أصحابها بالحديد والنار، وتقيم الجدار العازل على الأرض الفلسطينية عنوة، جهارا نهارا، وقد توجت جرائمها المستمرة بهذه الجريمة النكراء، أم الجرائم، اغتيال الرجل القعيد المتطهر المصلي بتخطيط من شارون وإشراف منه. فهي تجسد إرهاب الدولة بأجلى صوره.
إن الشيخ أحمد ياسين ليس كأي شهيد، إن عصابة شارون المجرمة أبت إلا أن تنتقم من الشيخ ياسين فتقتله - فيما زعموا - شر قتلة، فضربوه بثلاثة صواريخ أمريكية الصنع من طيارة الأباتشي كما يسمونها، تحميها مقاتلة أمريكية (F16)، فتمزق جسده شَذَرَ مَذَر. هل رأيتم الشيخ أحمد ياسين؟ هل رأى أحد له وجها؟ هل رأى أحد له جسدًا؟! لقد تمزق هذا الجسد الشريف الطيب الطاهر الطهور، مزقته صواريخ أمريكا، ولذلك قالوا في الأخبار: دفنوا ما بقي من جثمانه. خطط لذلك شارون بنفسه، وأشرف على العملية بنفسه، وظل يتابعها حتى تمت، ثم هنأ القائمين عليها!! علام تهنئون بعضكم أيها الأنذال الجبناء؟ على قتل رجل قعيد بهذه الترسانة الحربية والإمكانيات الهائلة، هل في هذا شجاعة أو بسالة؟!
هذا نذير ببداية النهاية للطغاة، فإن ساعتهم قد اقتربت، فإن الطغيان إذا تفاقم، والظلم إذا تعاظم: يسوق أصحابه إلى الهلاك وهم لا يشعرون، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44، 45].
ورابع الدروس :أن أمريكا شريكة في المسؤولية عن هذه الجريمة وما سبقها من جرائم، فإسرائيل ترتكب مجازرها بسلاح أمريكا، ومال أمريكا، وتأييد أمريكا. وهي لا تقبل أن تؤدب إسرائيل، أو تدان أو توجه إليها كلمة لوم، وإلا فإن (الفيتو) الأمريكي بالمرصاد.
ولو كنت قاضيا يحكم في هذه الجريمة، ويحاكم القتلة والجناة فيها، لكان المتهم الأول عندي فيها هو الرئيس (بوش). فهو المحرض الأول على الجريمة، وهو الذي أعطى المجرم السلاح، وهو الذي يعتبر المجرم القاتل مدافعا عن نفسه.
بوش هو الذي أفتى شارون وعصابته بأن (المقاومة الفلسطينية إرهابية) وفي مقدمتها حماس والجهاد، ومعنى أنها إرهابية: أنها تستحق القتل، وأن لا عقوبة على من قتل الإرهابيين. وهكذا قال نائب وزير الدفاع الإسرائيلي: إن أحمد ياسين كان ممن يستحق القتل.
هذا هو منطق أمريكا وإسرائيل، أو منطق بوش وشارون: أحمد ياسين إرهابي مجرم يستحق القتل؛ لأنه يدافع عن حقّه، عن حرماته ومقدساته، وعن وطنه وأرضه، وعن أهله ومنزله، وعن شرفه وعرضه، وعن مزرعته وشجرة زيتونه.
أما شارون القاتل السفاح، فهو ضحية مسكين، لا يمكنه الفلسطينيون الأشرار أن يلتهم كل ما يريد من أراضيهم. كل ما تريده إسرائيل أن يضرب الجهاد الذي تسميه الإرهاب، وألّا تبقى له باقية، ولا تقوم له قائمة. تريد تعربد وتصول يمينًا وشمالًا، ولا تريد لأحد أن يردَّ عليها، وليست هي إرهابيّة.
وخامس الدروس : أن لا أمل فيما سموه (مسيرة السلام) و(مفاوضات السلام) فإن كل راصد للأحداث بحياد وإنصاف: يستيقن أن إسرائيل لا تريد سلاما حقيقيا: سلاما عادلا شاملا، يرد الحق إلى أهله، ويقف كل امرئ عند حده. إنها لا تعترف إلا بمنطق القوة، ولا تفهم إلا لغة الحديد، ولا تتكلم إلا بلسان النار. وإنما تلهي الفلسطينيين والحكام العرب بهذه الوعود الكاذبة، والأماني الزائفة، والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
لقد عرفنا بالممارسة والتجربة: أن ما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة، وأن الخيار الوحيد للفلسطينيين هو خيار المقاومة، والبديل عن المقاومة هو الاستسلام الخاضع لإسرائيل، ولا حد لأطماع إسرائيل. البديل للمقاومة هو الموت.
وسادس الدروس: أن على الفلسطينيين جميعا أن يتحدوا: وطنيين وإسلاميين، سلطة ومقاومة، فإن عدوهم يضرب الجميع، ويتحدى الجميع، ولا تدري الضربة القادمة إلى من توجه؟ قد يكون الضحية القادمة عرفات، وقد يكون غيره من القادة، فليضع كل منهم يده في يد أخيه. وليكن شعارهم قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].
لقد كان الشيخ أحمد ياسين رجلًا مباركًا في حياته، ومباركًا في مماته، ولعل من بركاته أن تتحد الفصائل الفلسطينية كلها، وأن تقف صفا واحدا، كما أعلنوا جميعا: سنثأر للشيخ أحمد ياسين. وحق لهم، والثأر ليس لشخص الشيخ أحمد ياسين، ولكن للمعنى الذي يمثله أحمد ياسين، فقد كان رمزًا لقضية.
ومنها: أن تحيا هذه القضية في غمرة الأحداث، التي تنزل بالمسلمين، والتي في غمرة أحداثها نسي الناس قضيتهم المحورية الأولى قضية فلسطين، فأتى موت الشيخ أحمد يأتي مذكرًا بهذه القضية الحيوية المركزية، لتصبح حديث كل لسان، وموضوع الخطباء على منابرهم، والكتاب في صحفهم، والزعماء في لقاءاتهم. ويجب أن تظل قضية فلسطين مذكورة لا تنسى، حية لا تموت، قوية لا تضعف، هذا هو الذي يجب على أمة العرب والإسلام.
وسابع الدروس: أن على العرب أن يصحوا من سكرتهم، وأن يخرجوا من كهفهم الذي ناموا فيه طويلا، ليؤدوا ما عليهم نحو إخوانهم، بل نحو أنفسهم، فقضية فلسطين قضية الأمة كلها، للأسف الشديد، لم يعد الصراع عربيا إسرائيليا كما كان، بل أصبح فلسطينيا إسرائيليا، أما العرب فغائبون، {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر72]. دافع العرب عن فلسطين سنة 1948م، وكانت الجامعة العربية وليدة عمرها ثلاث سنوات، مكونة من سبع دول، فلما قارب عمرها السنين، وزاد عددها على العشرين دولة، تخلت عن دورها، ونكصت على عقبها. وتركت الفلسطينيين وحدهم يقاومون بصدورهم وأيديهم أكثر ترسانة عسكرية في الشرق الأوسط، مؤيدة بالإمكانات الهائلة القاتلة.
وثامن الدروس :يتعلق بالأمة الإسلامية حينما ارتفعت المآذن معلنة بالتهليل والتكبير: أن على الأمة الإسلامية واجبا نحو أرض الإسراء والمعراج، نحو القدس الشريف، ونحو المسجد الأقصى، الذي بارك حوله، أن الأقصى ليس ملك الفلسطينيين وحدهم، حتى يكلفوا بالدفاع عنه دون سائر الأمة.
لقد اغتصبت المسجد الأقصى قديما أمام الصليبيين، وبقي أسيرا في أيديهم نحو تسعين عاما، وكان الذين هبوا لنجدته وتحريره من أجناس وألوان شتى من المسلمين: عماد الدين زنكي التركي، وابنه نور الدين محمود، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي الكردي، والظاهر بيبرس المملوكي، وغيرهم. والمسلمون (أمة واحدة) يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. وفرض عليهم أن يتضامنوا ويتلاحموا حتى يحرروا أرض الإسلام. ومقدسات الإسلام، ويدافعوا عن حرمات الإسلام.
وإن استشهاد الشيخ أحمد ياسين لهو نذير لهم: أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا: وأن يسمعوا صوتهم، واحتجاجهم بالبرقيات والمسيرات وصلاة الغائب.
إننا ننادي العرب والمسلمين جميعا: أن يقفوا بجانب إخوانهم في أرض النبوات، يمدونهم بكل ما يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم وذراريهم، وما يقدرهم على العيش بالحد الأدنى، فحرام على العربي، وعلى المسلم: أن يأكل ملء بطنه، وينام ملء جفنه، وإخوانه لا يجدون ما يمسك الرمق. إن الصهاينة وحلفاءهم الأمريكيين أرادوا أن يجففوا كل المنابع التي تمدهم بالقليل من المال، وعلينا أن نفشل خططم، ونحبط كيدهم، ونوصل إليهم ما يعينهم على البقاء والجهاد.
وتاسع الدروس وآخرها: يتصل بالأحرار والشرفاء في أنحاء العالم، هؤلاء الذين خرجوا بالملايين في مسيرات غاضبة من أجل الحرب على العراق، يتحدون أمريكا وحلفاءها، هؤلاء الشرفاء مطالبون أن يعلنوا سخطهم على الجرائم الصهيونية الشنيعة، التي تصابح الفلسطينيين وتماسيهم، ولا تدع لها زرعا ولا ضرعا، وآخرها اغتيال الشيخ القعيد على كرسيه بلا رحمة ولا شفقة. كما ننادي المؤسسات والهيئات العالمية وعلى رأسها مجلس الأمن: أن يقوموا بواجبهم في فرض الشرعية الدولية على الصهاينة الذين يضربون عرض الحائط بكل بالأخلاق والأعراف والقيم والقوانين.
وختاما نقول للصهاينة: لقد ارتكبتم الفعلة التي لا يغفرها أحد لكم، وإن في ذلك لبشرى لنا، وتدميرا لكم، ورب ضارة نافعة. وعلى الباغي تدور الدوائر. وإن مع اليوم غدا، وإن غدا لناظره قريب. "وإن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].

المصدر: مقال نشر بتاريخ 22/3/2015 - صفحة الشيخ القرضاوي الرسمية على فايس بوك


: الأوسمة



السابق
القره داغي لـ موقعنا: تربية الأبناء تحتاج للحوار القائم على الرحمة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع