البحث

التفاصيل

صلاح ذات البين هو الثمرة المرجوة من أداء شعائر الإسلام

أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كلمات جامعة، وأنوار مضيئة ساطعة، وهي تندرج تحت قوله تعالى: { وما ينطق عن الهوى، إنْ هو إلا وحْيٌ يُوحى }، ولذلك حين يتأمل المرء هذه الكلمات الجامعة، يجد لها أنواراً كبيرةً، وآثاراً عظيمة على الفرد والمجتمع. واليوم نعيش مع كلمة من هذه الكلمات الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع نور من هذه الأنوار المتلألئة، وحكمة من هذه الحكم التي عطشت قلوبنا إلى الاستقاء منها، ومع كلمة جامعة ترشدنا إلى الحق والنهج الصحيح.

جاء في الحديث الصحيح، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: { أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ " ، قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ } فما أحوجنا إلى مثل هذه الكلمة المباركة، التي ترسم أساساً من أسس المجتمع القائم على الود والمحبة والاحترام، وإذا ما تأملنا هذا الحديث النبوي الشريف، سنلاحظ تغييراً كبيراً في أفكارنا، وتغييراً جذرياً في تصوراتنا. فالنبي صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى أمر عظيم قد نغفل عنه، وننشغل عنه بغيره، ويوجهنا إلى أهمية المعنى مع الاهتمام البالغ بحسن المبنى؛ إذ الغاية هي التأثر بما يقوله صلى الله عليه وسلم، وبما شرع الله تعالى من عبادات.

ثلاثة أركان من أركان الإسلام تأتي دون هذا العمل في الأهمية الاجتماعية، وإن كانت لا تخلو من فضائل وأجر وثواب، وما ذلك إلا أن هذه الأركان نفعها فردي يعود على القائم بها، ولا يتعدى إلى غيره، بينما إصلاح ذات البين، ذو نفع ذاتي واجتماعي، فالنفع الذاتي فيه هو إصلاح الذات، ويصبح المرء فعالاً ومؤثراً في مجتمعه، أما النفع الذي يتعدى إلى الآخرين، ففي الإصلاح الفردي الذاتي لكل شخص، صلاح المجتمعات، لأن الفرد ركن في مجتمعه، وصلاحه ركيزة أساس في إصلاح المجتمعات، لذلك جاء { إصلاح ذات البيت } في الفضل والأجر أعلى من درجة الصدقة والصلاة والصيام.

ولقد قال بعض العلماء وشراح الحديث: إن المقصود بالصيام والصلاة والصدقة الواردة في هذا الحديث هي النوافل والتطوع"، ولكن الأصل فيها أن تحمل على حقائقها ومعانيها المتبادرة إلى الذهن عند الإطلاق، إذ المتبادر إلى الذهن أول سماعنا لمثل هذه الألفاظ ـــــ الصيام، الصلاة، الصدقة ـــــ هو الفرض، وليس التطوع والنفل. وبالنظر إلى المآلات والنتائج والآثار، نجد أن صلاح ذات البين هو الثمرة المرجوة من أداء تلك الشعائر، والالتزام بها، جاء في الحديث الصحيح، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:{ أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ فَقَالَ إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ }.

فقضية الإصلاح مرتبطة بهذا المعنى، فحين يكون المرء في تنازع بمعناه الشامل مع النفس والآخرين، يترتب على ذلك أن يتشاحن ويتباغض ويغتاب وينم، ويفسد ولا يصلح، ويدخل في دائرة السب والشتم والظلم والجور والعدوان، ومنع الحقوق، وأكل أموال الناس بالباطل، ويتحول هذا العداء إلى سد مانع من الإصلاح والصلح، مما يأخذ بيده إلى باب الإفلاس، الذي شرحه ووضح النبي صلى الله عليه وسلم. فالمعنى الذي يشير إليه الحديث النبوي الشريف، أن الذي يصلي الفريضة، ويؤدي الزكاة المفروضة، ويصوم شهر رمضان الواجب عليه، وهو يحمل في قلبه الحقد والحسد والكراهية والعداء والبغضاء والتدابر والتنازع، ويسارع إلى هضم حقوق الآخرين ، سواء أكان ذلك على المستوى الشخصي كالأسرة والأبناء ومن يعول من خدم وسائق، أم على المستوى الاجتماعي كالعمال والأجراء والجيران والمرؤوسين، بعيد كل البعد عن المقاصد التي شرعت من أجلها تلك العبادات، ومخل بالإصلاح والصلح، ومتسارع إلى الدخول في عالم الإفلاس الحقيقي، الذي بينه النبي صلى اله عليه وسلم في حديث: { أتدرون من المفلس؟ }.

هكذا تترابط الآيات والأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم الآمرة بالإصلاح، والداعية إلى الصلح بالمعنى الشامل، والتي تبين أن الغرض من تلك التشريعات هو إرضاء الله تعالى أولاً، ثم ترك الفحشاء والانتهاء عن المنكر بكل ما تحمل الكلمة من معنى، وبالجمع بين رضاء الله تعالى والتحلي بما في التشريع من مقاصد وغايات يكون التعبد الحق لله رب العالمين. إن هذا الحديث يرسم طريق الفوز والنجاة لمن أراده، وهو طريق واضح المعالم، يتجلى ذلك من خلال الالتزام بآثار العبادات التي فرضها الله تعالى، وتحقيق مقاصدها؛ إذ لا قيمة لصور تلك العبادات، ولا لعبرة بكثرتها إذا غدت أشكالاً صورية تؤدى، وإذا خوت من غاياتها تحولت إلى عادات، وحينئذ ليس لمؤديها حظ في القبول، ولا يجني من صلاته إلا التعب والسهر، ولا من صيامه إلا الجوع والعطش، ولا من إنفاقه إلا التبذير والتلف.

 حصر الله تعالى الخيرية في ثلاثة أشياء، في قوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}. فالخير كله في الأمر بالصدقة تعاوناً مع أفراد المجتمع، وفي الأمر بالمعروف صوناً للمجتمع من الانحراف، وفي الإصلاح بين الناس ترابطاً وتقوية لأواصر المحبة بين المجتمع. وعكس الإصلاح هو فساد ذات البين، ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه، وسماه الحالقة، وفسر ذلك بقوله: { فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ: هي تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ }، وتذهب بالحسنات والخير والأجر، و يأتي المتصف بها يوم القيامة صفر اليدين، مفلساً، ثم يؤمر به فيرمى في نار جهنم وبئس المصير. إن إصلاح ذات البين اليوم فريضة شرعية، وضرورة اجتماعية للأمة الإسلامية كلها، والأمة العربية بالذات؛ إذ لم تجنِ الأمة من تفرقها وتنازعها سوى الخراب والدمار، وضياع الذات والهوية، وفقدان القيمة، وذهاب الكرامة واندثار العزة، ولقد بين الله تعالى خطورة ذلك { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }.

 أصبحت الأمة الإسلامية والعربية بما ينتابها من رياح التنازع والتخاذل تعصف بها النكبات من كل جانب، ولا تكاد تدمل جرحاً حتى ينكت لها جرح آخر، ولا تشرف على الشفاء من بلوى إلا وتحدق بها أخرى من كل جانب. أدعو كل الأمة ــــ حكاماً وعلماء ومفكرين وأدباء ـــ الأمة بمجموعها، وكل من موقعه، وبما أوتي من وسائل، أن يسعى إلى إصلاح ذات البين، حتى تحقق الأمة الخيرية التي أرادها الله تعالى لها، وحتى ينال الفرد فيها ثواب درجة أفضل من درجة الصائم المصلي المتصدق.

 وصيتي لكم جميعاً أن تتصالحوا مع الله تعالى، ومع ذواتكم، ومع من تعولون، وترعون، ومع الناس، وأن تكونوا خير الناس. أناشدكم الله أن تصفوا قلوبكم من الحقد والحسد والكراهية و البغضاء والإحن، وأن تملؤها بالحب، حب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وحب الخير لكل الناس، حتى يسلم القلب، وتفوزوا { يوم لا ينفع مال ولا ينون، إلا من أتى الله بقلب سليم }.

 من دواعي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن لا ننسى الصلاة على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم العظيم، وأن نكثر من ذلك، فهي تكفي الهَمَّ، وسبب لمغفرة الذنب. ومن دواعي محبتنا للناس أن لا ننسى إخواناً لنا يطرق الشتاء أبوابهم، وهم لا يجدون ما يتقون به برده، ولا ما يردون به قسوته وشدته، إن وجدوا الكساء فقدوا الغذاء، وإن وجدوا الغذاء فقدوا الوقاء، يلتحفون السماء ويفترشون الأرض، فلنكن عوناً لهم، ونمد إليهم يد المساعدة، بما تجود به أنفسنا، وتطيب به خواطرنا.

اللهم أصلح ذات بيننا، وأذهب فساد قلوبنا. آمين -


: الأوسمة



السابق
أسبوعان من المجازر يمنحان النظام تقدماً واسعاً شرقي حلب

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع