إن العمل الصالح في حقيقته تجرد وتضحية , لأنه انتصار علي ما تحبه
النفس من حب الراحة والدعة والكسل , ومن ثمّ فهو حركة وهمة ونهوض لما هو
مطلوب .
وتعظم قيمة العمل الصالح كلما تجاوز الأثرة والأنانية , إلي التجرد والتضحية , من أجل سائر الخلق وعامة الناس .!
وما تنعم به البشرية اليوم من إمكانات , وتقنية اختصرت الأزمنة وقربت
الأمكنة , وساهمت في إسعاد الإنسان ورفاهيته , وتَمتّعِهِ بحياة مادية
عالية , ماهو إلا من جهد أناس كرّسوا حياتهم , وأفنوا أعمارهم في العمل
والإبداع..!
ولا عجب , إذا كان من خير الناس ومن أحبهم إلي الله (
عز وجل ) أنفعهم للناس , وكان من أحب الأعمال إلي الله : سرور تدخله علي
مسلم , أو تكشف عنه كربة , أو تقضي عنه دينا , أو تطرد عنه جوعا , أو تمشي
في قضاء حاجته .. وكل ذلك وغيره ثابت في أحاديث نبوية شريفة .
إن من
أكبر سوء الفهم , وأكثر المفاهيم المغلوطة , قصر العمل الصالح علي عبادات
فردية – علي ضرورتها وشدة أهميتها – لا تنفع إلا صاحبها – أوعلي شؤون دينية
بحتة دون شؤون الدنيا.
فالعمل الصالح - علي نحو ما ذهب الشيخ
الغزالي رحمه الله – : (تصنعه فأس الفلاح , وإبرة الخياط , وقلم الكاتب ,
ومشرط الطبيب , وقارورة الصيدلي , ويصنعه الغواص في بحره , والطيار في جوه ,
والباحث في معمله , والباحث في معمله , والمحاسب في دفتره , يصنعه المسلم
صاحب الرسالة وهو يباشر كل شيء , ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته ) .
إن العمل الصالح يستوعب كل ما يعود علي البشرية بالصالح العام في الدنيا
والآخرة , و تزداد أهميته , وتعظم قيمته , بقدر ما يتعدّي نفعه , ويعمّ
خيره ..!
إن ما يحدث اليوم في بعض وسائل الإعلام من صخب ومراء ,
وتبادل الاتهامات بلغة هابطة تصل إلي حد التسفل والإسفاف , وما يحدث بين
بعض القوي السياسية من مشاحنات , وجدل دون عمل , وانشغال باللغو عن البناء ,
ومحاولة إقصاء بعضها لبعض , عمل غير صالح .!!
بل هو من المراء
المذموم الذي لا يأتي بخير , ومن الضلال بعد الهدي ..كما جاء في الحديث
الشريف : "عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ
رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ
هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ ، ثُمَّ قَرَأَ : مَا
ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) [الزخرف:58]"
[صحيح سنن الترمذي 3-3253].
إن العمل الصالح يدعو أصحابه إلي الوحدة
لا الفرقة , والحب لا البغض , والتآلف لا التنافر, والتكامل لا التضاد ,
والعمل لا الجدل , والبناء لا الهدم , والتعمير لا التدمير , والتقدم لا
التأخر , والاحتواء لا الإقصاء ، والستر والنصيحة لا التشهير والفضيحة ,
والتجرد والتضحية لا الأثرة والأنانية..!!
في ضوء هذا أفهم قول
النبي – صلي الله عليه وسلم - : ( مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ
فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى الله مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ الله ! وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله ؟! فَقَالَ رَسُولُ
الله صلى الله عليه وسلم: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله ، إِلا رَجُلٌ
خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ) [صحيح
سنن الترمذي :757].
تأمل سر سمو النبي ( صلي الله عليه وسلم )
بالعمل الصالح – في الأيام الأول من شهر ذي الحجة – علي سائر أنواع الجهاد
في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء , ليتأكد لنا
أن الأمة لا تُبني ولا تُسترد كرامتها , ولا يُعاد لها عزها وسيادتها , إلا
إذا تجاوز أبناؤها الانتماءات الضيقة , والولاءات الخاصة , والمصالح
الذاتية , وسموا بالعمل الصالح إلي مستوي التجرد والتضحية .!!
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة فَيُنَبِّئُكُمْ
بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) [التوبة :105].
-------------------
(*) باحث أكاديمي في الفكر الإسلامي