الرابط المختصر :
تدبرت آيات الصيام من زوايا عدة , بيد أني أقف عند زاوية واحدة – في هذه المقالة - ألا وهي زاوية : الغاية والوسيلة .
ولن تتجلي لنا هذه الغاية والوسيلة الموصلة إليها إلا إذا استشعرنا عظمة
هذا الشهر عند الله , فهو الشهر الوحيد – دون سائر الشهور - المذكور بصريح
الاسم في القرآن الكريم , وخصه الله بخير كتاب أنزل , وجعل ليلة نزوله خير
الليالي علي الإطلاق , فهي خير من ألف شهر .
ولأهمية هذا الشهر عند
الله خصه بجزاء لم يتوفر لشعيرة أخري – من شعائر الإسلام – بل تولي جزاء
الصائمين فيه بذاته – سبحانه وتعالي – دون سائر العبادات ,قال سيد الخلق -
صلى الله عليه وسلم - عن ربه - جل وعلا - : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم
فإنه لي وأنا أجزي به ) متفق عليه واللفظ للبخاري
ومن أجل هذا الشهر,
وما أنزل فيه من القرآن , فتحت الجنة أبوابها , وغلقت النار أبوابها .. كما
جاء في الحديث الصحيح :(إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار
وصفدت الشياطين ) متفق عليه.
إلي آخر ماجاء في فضل هذا الشهر وعظمته .
ومن أهم ما يجلي هذا المعني , موقف سيد الخلق – صلي الله عليه وسلم – في
الثلاثين من شعبان ( ليلة رمضان ) خطيبا في الناس , ووجهه يتهلل بالبشر
والسرور : ( جاءكم شهر رمضان شهر بركة ، يغشاكم الله فيه ، فينزل الرحمة ،
ويحط الخطايا ، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه ، فيباهي بكم
ملائكته ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله )
رواه الطبراني في الكبير
فإذا استشعرنا عظمة هذا الشهر , وفضله , فلا
بد أن نستقبله بوضع هدف أو غاية تليق بمكانته وجلاله , وأن نسلك الطريق
الذي يبلغنا هذه الغاية . ومن رحمة الله بنا أنه لم يتركنا لأنفسنا , في
تحديد الغاية والوسيلة إليها , بل حدد الغاية والوسيلة معا , وبينهما في
قوله – تعالي - :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُون) .البقرة١٨٣
إذن , الغاية هي التقوي والوسيلة إليها هي
الصيام : عندما يخرج الصائم وقد نال غاية ( التقوي ) بعد ما حبس نفسه لله –
ولله وحده - عن الحلال , مؤثرا مرضاته , مراقبا إياه , واجدا لذته وأنسه
في طاعته , مالكا ذاته , مستشعرا رجولته , مستعليا علي أعتي شهوات الأرض ,
متحررا من سلطان شهوته , ومن سجن غرائزه .. ومن مثله ؟! وقد أصبح عبدا لله –
ولله وحده – وسيدا لما بعده , شفت نفسه وعلت روحه , مبصرا موضع قدمه في
الظلمات , سالكا طريقه بين الأشواك , شأنه كما قال ابن المعتز :
خل الذنوب صغيرها وكبيرها , ذاك التقي
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يري
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصي
هذا غيض من نضح فيض التقوي ( الغاية ) , والوسيلة ( الصيام ) الموصلة
إليها , لكن لما كانت الوسيلة يحتاج سالكها إلي نور وهدي ليبلغ غايته , بين
الله ذلك في قوله – تعالي - : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.. ).البقرة ١٨٥
فنحن نصوم
هذا الشهر احتفاء بالقرآن الذي أنزل فيه , ليكون هدي , وبينات من الهدي
والفرقان , نبصر به طريقنا , ونهتدي به في كل أمور حياتنا , فلا نضل بعده
ولا نشقي , وتلك هي الحقيقة التي استقرت مع نبي الله آدم في الأرض
.(..فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى *وَمَنْ أَعْرَضَ
عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا.. ) طه ١٢٣ـ١٢٤
إن ملكة
الفرقان , والتمييز بين الحق والباطل , والخروج من التيه لا يكون إلا بهدي
القرآن . عن علي كرم الله وجهه , قال : سمعت رسول الله – صلي الله عليه
وسلم – يقول : ( ستكون فتن كقطع الليل المظلم , قلت : وما المخرج منها
يارسول الله , قال : كتاب الله , فيه نبأ ماقبلكم ، وخبر مابعدكم ، وحكم ما
بينكم .. من تركه من جبار قصمه الله , ومن ابتغي الهدي في غيره أضله الله .
هو حبل الله المتين , وهو الذكر الحكيم , وهو الصراط المستقيم. وهو الذي
لا تزيغ به به الأهواء و لاتلتبس به الألسنة ولايشبع منه العلماء , ولايخلق
علي كثرة الرد , ولاتنقضي عجائبه ..من قال به صدق , ومن عمل به أجر , ومن
دعا إليه هدي إلي صراط مستقيم ) . أخرجه الترمذي والدارمي , وذكره الألباني
في سلسلة الأحاديث الضعيفة . بيد أن معناه صحيح .
وهذا هو السر العجيب
في ربط الرسول – صلي الله عليه وسلم – الصيام بالقرآن كما جاء في الحديث :
عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الصيام والقرآن
يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام أي رب منعته الطعام والشهوات
بالنهار فشفعني فيه . ويقول القرآن : منعته النوم بالليل ، فشفعني فيه ،
فيشفعان ) رواه أحمد بسند صحيح.
فإذا استعلت الأمة – أفرادا وجماعات –
علي شهواتها بالصيام , وأضاءت ليلها بالقرآن , وبددت ظلمات جهلها بتدبر آي
الفرقان , أتم لها فرحتها , وأجاب لها دعوتها , وأنار لها بصيرتها , وبلغها
غايتها .. ولذا ختمت آيات الصيام بقوله - تعالي - .. وَلِتُكْمِلُواْ
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ*وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ
بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة ١٨٥ـ١٨٦
لقد التحمت الأرض بالسماء بعد ما اهتدي أهلها بهدي السماء. !