البحث

التفاصيل

الكليات القرآنية: إيجاز وإعجاز[1]

مدخل حول عنوان المؤتمر: التشريع الإسلامي الملاذ الآمن للبشرية…

لا شك أن هذا العنوان الجميل والموفق يعبر عن الحقيقة التي لا تخفى على أي دارس للشريعة الإسلامية وخصائصها ومقاصدها.

غير أني أريد أن أوضح أن التشريع الإسلامي ليس منحصرا في التشريعات المتوقفة على اعتماد الدولة ومؤسساتها، وعلى التطبيق الرسمي لها. بعبارة أخرى: التشريع الإسلامي ليس مجرد أحكام قانونية تتبناها الدولة وتعمل بها في محاكمها. التشريع الإسلامي أوسع من ذلك بأضعاف مضاعفة. وهو الملاذ الآمن للبشرية بهذا المعنى الواسع الشامل لكل جوانب الحياة: الفردية والجماعية، الخاصة والعامة، المادية والروحية، الأخلاقية والاجتماعية…

ولذلك فالتشريع الإسلامي يشتغل ويسير بمحركين اثنين:

محرك أصلي أساسي، وهو المحرك الإيماني الدياني الإرادي،

ومحرك تكميلي احتياطي، وهو المحرك السلطاني الإلزامي.

وأنا أتحدث عن التشريع الإسلامي وعن كليات القرآنية بكل هذه المعاني والأبعاد

الكليات القرآنية: إيجاز وإعجاز.

في القرآن الكريم أحكام كلية جامعة، وفيه أحكام ووقائع جزئية مفصلة. وهو في كل ذلك يتسم بالإيجاز والإعجاز.

وموضوع هذه الورقة يتناول الصنف الأول؛ صنف الكليات وما فيها من إيجاز جامع معجز. فالكليات القرآنية يمكن وصفها بأنها: عبارة عن نصوص ذات كلمات محدودة، ومعانٍ لامحدودة. أو هي معان كثيفة، بعبارات خفيفة.

فهي من جملة “جوامع الكلِم”، التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي الصحيحين عن أَبِى هُرَيْرَة قَال، قَال رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ… »

وفي رواية لمسلم: «وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِم …».

فما معنى جوامع الكلم؟ وما المراد بجوامع الكلم التي أوتيها — أو بُعث بها — النبي صلى الله عليه وسلم؟

الكلِمُ جمع كلمة، قاله الطبري وابن عطية في تفسيريهما[2].

وفي لسان العرب: “والكِلْمَة: لغةٌ تَميمِيَّةٌ، والكَلِمَة: حجازيةٌ، وَجَمْعُهَا كَلِمٌ، تُذَكَّرُ وَتُؤَنَّثُ. يُقَالُ: هُوَ الكَلِمُ وَهِيَ الكَلِم”.

وتطلق الكلمة، أو الكلم، على الكلام المختصر القصير…

ولفظ “جوامع”، جمع مفرده جامعة.

ومعنى جوامع الكلم: الكلام القليل، أو الكلِم القليل، الجامع للمعاني الكثيرة الواسعة المتشعبة.

قال الإمام البخاري في صحيحه: “وبلغني أن جوامع الكلم: أن الله يجمع الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك”.

ولعل البخاري يقصد بقوله “وبلغني”، قولَ الإمام ابْن شهَاب الزهري، “فِيمَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ: بَلغنِي أَن جَوَامِع الكَلم: أَن الله تَعَالَى يجمع لَهُ الْأُمُور الْكَثِيرَة الَّتِي كَانَت تكْتب فِي الْكتب قبله فِي الْأَمر الْوَاحِد أَو الْأَمريْنِ أَو نَحْو ذَلِك“[3]

وَقَالَ الْخطابِيّ: “مَعْنَاهُ: إيجاز الْكَلَام فِي إشباع المعَانِي“[4].

ما هي جوامع الكلم التي خُص بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟

للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

الأول: هو أن جوامع الكلم هي أقواله وأحاديثه الجامعة، كقوله: إنما الأعمال بالنيات، وقوله: كل مسكر خمر وكل خمر حرام، وقوله: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد.

وهذا هو القول السائد والمتبادر، فلا أطيل فيه ولا فيما يدل عليه.

الثاني: أن المراد بها القرآن الكريم.

قال ابن بطال: “وأما جوامع الكلم فهو القرآن؛ لأنه تأتي منه الآية في معان مختلفة ولها تأويلات مختلفة، وكل يؤدى إلى [.…] والأخذ به. يدل على ذلك قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء). فهذا يدل أن القرآن جوامع، وقوله: (خذ العفو واؤمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). فلو أن هذا نزل في تدبير الدنيا والآخرة لكفاهما“[5].

وقَالَ ابْن التِّين: “جَوَامِع الْكَلم الْقُرْآن؛ لِأَنَّهُ يَقع فِيهِ المعَانِي الْكَثِيرَة بالألفاظ القليلة، وَكَذَلِكَ يَقع فِي الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة الْكثيرُ من ذَلِك”.[6]

وقال ابن الأثير في حديث «أوتيت جوامع الكلم»: “يعني القرآن، جمع الله بلطفه في الألفاظ اليسيرة منه معاني كثيرة، واحدها جامعة: أي كلمة جامعة“[7].

وقال الحافظ ابن حجر: “وجزم غير الزهري بأن المراد بجوامع الكلم القرآن، بقرينة قوله بعثت. والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني“[8].

الثالث: وهو القول الأشمل الأعدل، مضمنه أن “جوامع الكلم” التي أوتيها النبي صلى الله عليه شاملة للقرآن الكريم أولا وأساسا، وشاملة كذلك للأحاديث النبوية الكلية الجامعة.

وإلى هذا ذهب ابن رجب جازما، حيث قال: “فجوامع الكلم التي خُص بها النبي صلى الله عليه وسلم نوعان:

أحدهما: ما هو في القرآن، كقوله عز وجل: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} (النحل: 90). قال الحسن: لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به، ولا شرا إلا نهت عنه.

والثاني: ما هو في كلامه صلى الله عليه وسلم، وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم. وقد جمع العلماء جموعا من كلماته صلى الله عليه وسلم الجامعة؛ فصنف الحافظ أبو بكر بن السني كتابا سماه: ” الإيجاز وجوامع الكلم من السنن المأثورة “. وجمع القاضي أبو عبد الله القضاعي من جوامع الكلم الوجيزة كتابا سماه: ” الشهاب في الحكم والآداب “. وصنف على منواله قوم آخرون، فزادوا على ما ذكره زيادة كثيرة. وأشار الخطابي في أول كتابه ” غريب الحديث ” إلى يسير من الأحاديث الجامعة. وأملى الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح مجلسا سماه ” الأحاديث الكلية “، جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال: إن مدار الدين عليها، وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا…“[9].

وإلى هذا القول الثالث مال الحافظ ابنِ حجر في تعقبه للإمام البخاري. قال في الفتح:“يؤخذ من إيراد البخاري هذا الحديثَ عقب الذي قبله أن الراجح عنده أن المراد بجوامع الكلم القرآن، وليس ذلك بلازم؛ فإن دخول القرآن في قوله بعثت بجوامع الكلم لا شك فيه، وإنما النزاع هل يدخل غيره من كلامه من غير القرآن. وقد ذكروا من أمثلة جوامع الكلام في القرآن قولَه تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) وقوله (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) إلى غير ذلك“[10].

بين الإيجاز والإعجاز

لعل أول من ربط بين الإيجاز والإعجاز، ووضع لذلك كتابا خاصا، هو الأديب اللغوي المؤرخ أبو منصور الثعالبي (350هـ /​429ه)، في كتابه الممتع (الإعجاز والإيجاز).

وقد جعل أول أبوابه العشرة “في بعض ما نطق به القرآن من الكلام الموجِز المعجز”، وجعل “الباب الثاني في جوامع الكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم…”.

وأنقل فيما يلي نموذجا مما قاله في الباب الأول، وهو الباب الذي يدخل في موضوعنا: قال رحمه الله: “من أراد أن يعرف جوامع الكلم ويتنبه على فضل الإعجاز والاختصار، ويحيط ببلاغة الإيماء، ويفطن لكفاية الإيجاز، فليتدبر القرآن، وليتأمل علوه على سائر الكلام.

فمن ذلك قوله عز ذكره {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]. استقاموا: كلمة واحدة، تفصح عن الطاعات كلها في الائتمار والانزجار. وقوله: فلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، أُدرج فيه ذكر إقبال كل محبوب عليهم، وزوالَ كل مكروه عنهم. ولا شيء أضر بالإنسان من الحزن والخوف، لأن الحزن يتولد من مكروه ماض أو حاض، والخوف يتولد من مكروه مستقبل. فإذا اجتمعا على امرئ لم ينتفع بعيشه، بل يتبرم بحياته. والحزن والخوف أقوى أسباب مرض النفس، كما أن السرور والأمن من أقوى أسباب صحتها. فالحزن والخوف موضوعان بإزاء كل محنة وبلية. والسرور والأمن موضوعان بإزاء كل صحة ونعمة هنية“[11]. اهـ.

ومن نوادر التفطن لما في القرآن من الإيجاز المعجز الباهر، ما وقع للأصمعيِّ إمامِ اللغة والبلاغة (122 — 216 هـ)، مع فتاة بدوية حين سمعها تنشد وتقول:

أستغفر الله لأمري كلهِ … قتلت إنسانا بغير حلهِ

مثل غزال ناعماً في دَله … انتصف الليل ولم أصله

فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك. فقالت له: أوَ يُعَدُّ هذا فصاحة مع قوله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فجمع في آية واحدة خبرين، وأمرين، ونهيين، وبشارتين).

فالخبران هما {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} وقوله {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ}، لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه.

والأمران هما: {أَرْضِعِيهِ} و (ألقيه).

والنهيان: {وَلا تَخَافِي} و {وَلا تَحْزَنِي}.

والبشارتان {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} .

من الكليات العلمية إلى الكليات العملية

في “كتاب العلم” من صحيح البخاري نجد الباب العاشر، الذي قال المؤلف رضي الله في ترجمته وبدايته: “باب العلم قبل القول والعمل، لقول الله تعالى {فاعلم أنه لا إله إلا الله} فبدأ بالعلم”.

ومعنى هذا أن العلم سابق على أي قول، وسابق على أي فعل. ومعنى هذا أن الإيمان، وهو علم، مقدم على التشريع المتعلق بالأقوال والأفعال.

وإذا كانت الكليات سابقة على الجزئيات، فإن الكليات العلمية والعقدية سابقة على الكليات العملية والتشريعية، بل هذه مبنية على تلك. وهذا ما عناه الإمام البخاري، وهو المشار إليه في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 24 ـ 25].

قال ابن القيم رحمه الله: “فشَبَّه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع، وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة، الظاهرة والباطنة… ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها،ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقها، ومراعاته حق رعايتها.…

… فالمؤمن دائمٌ سعيه في شيئين: سقي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها، فبسقيها تبقى وتدوم، وبتنقية ما حولها تكمل وتتم”([12]).

وتشبيه الإيمان وما يتفرع عنه من أحكام وأحوال، وأقوال وأفعال، بالشجرة وما يتفرع عنها من أغصان وأوراق وثمار متجددة، هو ما تمثله واستوحاه، وجسده وبينه، الإمامُ عز الدين بن عبد السلام في كتابه الفذ (شجرة المعارف والأحوال وصالحِ الأقوال والأعمال).

فالكتاب من أول كلمة في عنوانه قائم على فكرة الشجرة، الواردة في الآية سالفة الذكر من سورة إبراهيم. والشجرة عند ابن عبد السلام هي شجرة معارف عقلية قلبية وأحوالٍ نفسية شعورية. وعن هذه الشجرة تتولد وتنبثق الصالحات من كافة الأقوال والأعمال.

وقد اختار المؤلف من تلك الشجرة غصنا واحدا، ركز عليه وأبرز ما أمكن من ثماره وآثاره، وهو غصن “الإحسان”. وما الإحسان إلا كلمة كلية من كليات القرآن.

وابن عبد السلام منذ بداية الكتاب يقول: “وبعد، فإن الله فضل الإنسان بالنطق والبيان، والعقل والعرفان، ثم أدبه بالقرآن، وأمره بكل بر وإحسان…“[13].

ثم يضيف: “فانحصر الإحسان في جلب المصالح الخالصة أو الراجحة، وفي دفع المفاسد الخالصة، وانحصرت الإساءة[14] في جلب المفاسد الخالصة أو الراجحة، وفي دفع المصالح الخالصة والراجحة[15]

وقد جعل البابَ الثاني “في التخلق بصفات الرحمن على حسب الإمكان”، وختمه ولخصه بالقول: “من أفضل التخلقات أن تحسن إلى عباد الله بمثل ما أَحسن به إليك، وأن تُنعم عليهم بمثل ما أَنعم به عليك. قال تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10]، أي: عامل السائلَ بمثل ما عاملناك، فإنا وجدناك عائلا فأغنيناك، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، أي: حدثهم بما أنعمنا به عليك من هدايتنا، فإنا وجدناك ضالا فهديناك“[16]

وأما الباب السابع فهو “في الإحسان العام…”.

وقد بدأه بالقول: “كل من أطاع الله فهو محسن إلى نفسه بطاعته، فإن كان في طاعته نفعٌ لغيره فهو محسن إلى نفسه وإلى غيره. وإحسانه إلى غيره قد يكون عاما وقد يكون خاصا. والإحسان عبارة عن جلب مصالح الدارين أو إحداهما،، ودفع مفاسدهما أو إحداهما…“[17].

وأما الباب الثامن فجعله “في ضروب الإحسان المذكور في كتب الفقه”.

يليه الباب التاسع، وهو “في الإحسان بإسقاط الحقوق”،

فالباب العاشر، “في الإحسان ببذل الأموال”،

ثم الباب الحادي عشر “في الإحسان بالأخلاق والأعمال”،

والباب الثاني عشر “في الإحسان بالأقوال”،

والباب الثالث عشر “في الإحسان بالدعاء القاصر والمتعدي”،

ثم يأتي الباب السابع عشر بعنوان “في الإحسان المتعلق بالجهاد”،

وحتى حين تخلو عناوين بعض الأبواب من كلمة “الإحسان”، فإننا نجدها بكثافة في عناوين الفصول، فضلا عن تفاصيلها.

ومن الواضح أن ابن عبد السلام قد جعل من كتابه هذا تشجيرا بيانيا للآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [النحل: 90].

وهي الآية التي قال عنها الحافظ ابن عبد البر: “وقد قالت العلماء: إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق، قولُه عز وجل: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان…)…“[18].

وللفقيه الحنبلي العلامة مرعي المقدسي (1033هـ) رسالة خاصة في تفسير هذه الآية ويان مضامينها، سماها: (قلائد العقيان في قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان)[19].

ومن المعاصرين قال عنها الشيخ محمد عزة دروزة “والآية من جوامع الكلم القرآنية الرائعة فيما يجب أن يفعله المؤمن وينتهي عنه، تجاه مجتمعه أفرادا كانوا أو هيئات، وتجاه أقاربه.

فالمتبادر أن العدل في الآية لم يقصد به العدل في القضاء أو لم يقصد به ذلك وحسب، بل قصد به العدل المطلق الذي يتناول معاني الإنصاف وعدم الإجحاف وعدم تجاوز الحق قولا وفعلا في كل موقف ومناسبة“[20].

يحل الطيبات ويحرم الخبائث

وهذه قاعدة كلية أخرى من الكليات التشريعية في القرآن الكريم، يأتي ذكرها في كلمات معدودة، بل حروفها معدودة، ولكن مشمولاتها التشريعية لامتناهية.

وقد ذكرت الطيبات وحدها في عدة آيات، ولكن الطيبات بمفهومها تدل على حكم ضدها.

قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4].

وقال: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5].

وقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51].

وأما الآية التي نصت بمنطوقها على الوجهين معا، فهي قوله عز وجل — يصف رسالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم — : {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157].

فهذه الآيات ـ بمفردها وبمجموعها ـ تعطينا حكما كليا مفاده، أن كل ما هو طيب فهو في الأصل حلال، وكل ما هو خبيث فهو في الأصل حرام. ” فصار هذا أصلا كبيرا وقانونا مرجوعا إليه في معرفة ما يحل ويحرم من الأطعمة)) ؛ كما قال الفخر الرازي في تفسيره للآية .

وأما معنى ( الطيبات ) ومعنى ( الخبائث )، فللعلماء والمفسرين في تحديده وجهتان مختلفتان:

الوجهة الأولى تربط معناهما بدلالة الحكم الشرعي، فما أباحه الله فهو طيب، وما حرمه فهو خبيث. ومعنى هذا أن الطيبات هي ما نص الشرع على إباحته، وأن الخبائث هي ما نص الشرع على تحريمه، قال الإمام الطبري: “الطيبات، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح”([21]).

وقال عن الخبائث: ((وذلك لحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله))([22]).

الوجهة الثانية لفريق آخر من العلماء لم يرتض هذا التفسير، لأنه لا يفيد شيئا جديدا في حكم الآيات الناصة على تحليل الطيبات وتحريم الخبائث، فالأشياء المنصوص على إباحتها وكذلك المنصوص على تحريمها، قد عرفت بأعيانها وأسمائها، ولذلك ذهب هؤلاء إلى أن الطيبات والخبائث هي على عمومها ومعناها اللغوي، فتشمل تحليل كل طيب بصفته طيبا، وتحريم كل خبيث بصفته خبيثا، سواء كان منصوصا عليه أو لم يكن. قال الفخر الرازي: “واعلم أن الطيِّب في اللغة هو المستلَذ. والحلال المأذون فيه يسمى طيبا، تشبيها له بما هو مستلذ، لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة. فلا يمكن أن يكون المراد بالطيبات هنا المحلَّلات، ومعلوم أن هذا ركيك. فوجب حمل الطيبات على المستلذ المشتهَى. فصار التقدير: أُحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى”([23]).

وقال ابن عاشور: ((والمراد بالطيبات في قوله {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} معناها اللغوي، ليصح إسناد فعل ( أحل ) إليها…))([24]).

فظهر أن الطيبات المباحة هي أوسع مما جاءت النصوص بتعيينه وتسميته والتصريح بإباحته، وأن الخبائث المحرمة هي أوسع مما جاء التنصيص على تحريمه باسمه، فما أحله الله تعالى بعينه فهو من الطيبات لا شك، ولكنه ليس هو كل الطيبات المباحة، وما حرمه الله بعينه، فهو من الخبائث لا شك، ولكنه ليس هو كل الخبائث المحرمة.

فهناك طيبات لا حصر لها غير منصوص على إباحتها بعينها وباسمها، فهذه تباح وتحل بمقتضى النص العام على إباحة الطيبات، وهناك خبائث لا حصر لها لم ينص على تحريمها بعينها وباسمها، فهذه محرمة بالنص العام على تحريم الخبائث.

فالحاصل أن المباحات والمحرمات في الشرع صنفان:

صنف وقع تحليله وتحريمه بأعيانه وأسمائه، كما في قوله تعالى {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1]، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187]، وقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].

وصنف وقع تحليله أو تحريمه بصفاته، كما في موضوعنا {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ}.

فالتحليل والتحريم قد يكونان بالنص الخاص، وقد يكونان بالوصف العام.

وفي قوله تعالى {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] ذُكر الصنفان معا، ففيه تحليل عام غير معين، وهو تحليل الطيبات. وفيه تحليل شيء بعينه وهو طعام أهل الكتاب. ففي الآية تحليل كلي بالوصف، وتحليل جزئي بالاسم.

والذي يعنينا الآن ـ ونحن في موضوع الكليات ـ هو الحكم الكلي بتحليل الطيبات وتحريم الخبائث. وهذه القاعدة تعتبر موضحة ومقيدة للقاعدة الكلية السابقة ( الأصل الإباحة والتسخير )؛ فالإباحة والتسخير قائمان ساريان فيما هو طَيب، وفيما هو باقٍ على طِيبه، وأما الأشياء التي تحولت أو حولت إلى خبائث، فهي داخلة في دائرة التحريم.

ومعلوم أن كل ما خلقه الله تعالى وسخره لعباده طيب نافع، عدا استثناءات طارئة، لا تخرج عن حد الندرة والضآلة.

وأكثر هذه الاستثناءات ليست خبيثة بأصلها وإنما تصير خبيثة، بفعل الإنسان وبسوء استعماله، كما هو الحال في الخمر، وفي السموم، وفي المكاسب المحرمة لما فيها من ظلم وغصب وفساد. وهذا يقودنا إلى مسألة أساسية في موضوعنا، وهي المعايير التي تعرف بها الطيبات والخبائث التي ليست منصوصا على تعيينها وتسميتها.

لقد تقدم في قول بعض المفسرين أن المعنى المراد بالطيبات والخبائث هو المعنى اللغوي المتعارف عليه، وهذا مهم ومفيد، ولكنه لا يغني عن تحديد معايير موضوعية لمعرفة ما هو طيب وما هو خبيث، خاصة مع تعدد الاستعمالات وتطور المفاهيم اللغوية والعرفية.

يقول العلامة ابن عاشور: ((وأصل معنى الطِّيب: معنى الطهارة والزكاة والوقعِ الحسن في النفس، عاجلا وآجلا، فالشيء المستلذ إذا كان وخِما ( أي وخيم العاقبة ) لا يسمى طيبا، لأنه يُعقب ألما وضررا))([25]).

فالطيب بالإضافة إلى كونه مستلذا ومحببا إلى النفوس يجب “أن يكون غير ضارٍّ ولا مستقذر ولا منافٍ للدين، وأن يكون مقبولا عند جمهور المعتدلين من البشر.…))([26]).

وبالمقابل يحدد أوصاف الخبائث المحرمة، بما يضر تناولُه العقل أو البدن، وما هو نجس بالشرع، وما هو مستقذر بالطبع))([27]).

ويضيف ابن تيمية صنفا آخر من الخبائث، حيث يقسم الخبائث إلى نوعين: ((ما خبث لعينه))([28])، لمعنى قام به كالدم والميتة ولحم الخنزير، وما خبث كسبه، كالمأخوذ ظلما، أو بعقد حرام كالربا والميسر))([29]).

ومعنى هذا أن خبث الأشياء ـ وكذلك طيبها ـ قد يكون ذاتيا حسيا، وهذا يعرف بالطبع والتجربة، وقد يكون معنويا حُكميا، وهذا يعرف بالشرع ودلائله، وكل ذلك ينبني عليه التحريم أو التحليل.

*******************

[1] ورقة مقدمة للمؤتمر الدولي السادس للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، في موضوع: التشريع الإسلامي الملاذ الآمن للبشرية، المنعقد بمدينة تطوان المغربية، بتاريخ:29 – 30 أبريل 2016

[2] — انظر: جامع البيان للطبري (8/​432) ، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية (4/​431)

[3] — عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني (14/​235)

[4] — عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني (14/​235)

[5] — شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/​143)

[6] — عمدة القاري شرح صحيح البخاري، للعيني (14/​235)

[7] — النهاية في غريب الحديث والأثر (1/​295)

[8] فتح الباري لابن حجر (13/​247)

[9] — جامع العلوم والحكم (1/​55).

[10] — فتح الباري12/​248 .

[11]- الإعجاز والإيجاز، ص 10÷11− الطبعة الأولى بمصر 1862م

[12] الأمثال في القرآن 35 ـ 39.

[13] — شجرة المعارف والأحوال، 11.

[14] — التي هي ضدُّ الإحسان. وعلى هذا الأساس، ولكون تَوَقي الإساءة هو نوع من الإحسان، اعتنى الإمام بشتى أنواع الإساءات الظاهرة والباطنة، وخصص لها البابين السادس والرابع عشر. فحديثه عن الإساءة هو حديث عن وجه من وجوه الإحسان.

[15] — شجرة المعارف والأحوال، 12 – 13.

[16] — شجرة المعارف والأحوال، 42.

[17] — نفسه، ص112.

[18] — التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (24\ 463 — 334)- نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية — 1387ه.

[19] — حققها عبد الحكيم الأنيس، ونشرتها دار البحوث والدراسات الإسلامية — الطبعة الأولى: 1426هـ/​2005م.

[20] — التفسير الحديث (5/​168)

[21] عند تفسيره الآية 4 من سورة المائدة.

[22] عند تفسيره الآية 157 من سورة الأعراف.

[23] عند تفسره الآية 4 من سورة المائدة

[24] عند تفسره الآية 5 من سورة المائدة.

[25] التحرير والتنوير , تفسير الآية 5 من سورة المائدة.

[26] المرجع نفسه.

[27] نفسه.

[28] وتدخل فيه الأنواع الثلاثة التي ذكرها ابن عاشور.

[29] مجموع الفتاوى 4304.


: الأوسمة



التالي
مؤتمر فلسطينيي أوروبا بالسويد
السابق
إعدامات بنغلاديش.. ماذا وراء الأكمة؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع