البحث

التفاصيل

إعدامات بنغلاديش.. ماذا وراء الأكمة؟

"لقد عشت ثلاثة وسبعين عاما، ومصاب بأمراض مختلفة، ويمكن أن ألبي نداء الموت في أية لحظة، ولكن الله أكرمني بالشهادة في سبيله، فلا تجزعوا ولا تطلبوا العفو من أحد سوى الله، ولا تدعوا لي بالحياة بل ادعوا لي بالثبات والقبول عند ربي، فالشهادة في سبيله أسمى أماني"، هذا ما قاله الشيخ مطيع الرحمن نظامي أثناء لقاء الوداع مع أسرته ونقله إلينا نجله الدكتور نعيم الرحمن نظامي.

فمن هو الشيخ نظامي؟ ومن أعدمه ولماذا؟ وماذا تجنيه بنغلاديش بإعدام الشيخ نظامي وأمثاله من العلماء والقادة السياسيين؟

عجيب أمر هذا الرجل، انتخبته دائرته الانتخابية ممثلا عنها في البرلمان مرتين متتاليتين عام 1991 وعام 2001 بأصوات تجاوزت 58%، وانتخبه حزبه (الجماعة الإسلامية) رئيسا له في أربع دورات متتالية منذ عام 2001 إلى وقت شهادته، وقبل ذلك انتخبته كبرى الجمعيات الطلابية (الجمعية الإسلامية للطلبة) بشطريها (باكستان الشرقية والغربية) رئيسا لها لدورتين متتاليين (1969-1971)، واختارته حليفته السياسية خالدة ضياء وزيرا للصناعة والزراعة في حكومتها (2001-2006)، وكثيرا ما كانت تضرب به المثل في اجتماعات مجلس الوزراء بحسن الأداء والسمعة الحسنة.

احترمه كل من التقى به أو رآه أو تعامل معه؛ إذ براءة الطفولة وطيبة أهل التقى تعلوان وجهه؛ ورغم ذلك فقد اتهمته غريمته السياسية رئيسة الوزراء البنغالية حسينة واجد بست عشرة تهمة منها قتل مئات الناس في قريته واغتصاب 54 امرأة والسطو والإرهاب وقيادة منظمة إرهابية وحثها على قتل مئات الآلاف من البنغاليين، وتهريب السلاح.

والسؤال الأهم أمام كل هذه الاتهامات أنه إذا كان فعلا رجلا إرهابيا وشريرا إلى هذه الدرجة فلماذا لم تسجل قضية واحدة ضده طوال حياته، خاصة منذ انفصال بنغلاديش عن باكستان عام 1971؟ ولما ذا فشل كل معارضيه أصحاب المليارات وأصحاب السلاح والأبهة في كل الانتخابات أمامه واختاره أهل دائرته رغم كل الدعايات الإعلامية الكبيرة ضده؟ وحتى بالأمس بعد استشهاده انتظره عشرات الآلاف من دائرته طوال الليل حتى يصلوا عليه.. والسؤال الأكبر هو لما ذا تحالفت رئيسة الوزراء حسينة واجد مع هذا "المجرم" ومع جماعته عام 1988عندما كانت تخوض غمار حملة شعبية ضد حكومة الجنرال إرشاد الرحمن العسكرية.

الحقيقة المرة أن حسينة واجد استأنفت سياستها الانتقامية منذ نهاية عام 2008 بعد فوزها في الانتخابات البرلمانية وبأغلبية أذهلت الأصدقاء قبل الخصوم، حيث تعالت أصوات الانتقام وأعلنت تشكيل محكمة خاصة سميت محكمة الجنايات الدولية، وبدأت حملة اعتقالات فمحاكمات وإعدامات.

استغرب المتخصصون القانونيون والمراقبون الحقوقيون من مجرد التسمية، كيف أصبحت محكمة خاصة محلية لا ترتقي حتى إلى مستوى المؤسسات القضائية الدستورية في البلاد، محكمة دولية؟ إذا كانت دولية فعلا فلماذا رفض كل من تقدم بطلب المشاركة أو المراقبة أو الحضور من القانونيين الدوليين خاصة المهتمين بقضايا جرائم الحرب؟ وإذا كانت المحكمة دولية فلماذا لم يسمح للمؤسسات الإعلامية العالمية كقناة الجزيرة بالدخول إلى البلاد ومراقبة مسار المحاكمة والاعتقالات؟ وإذا كانت المحكمة قانونية فعلا فما مصير تلك الاتفاقية الدولية الثلاثية التي وقعت عليها كل من بنغلاديش والهند وباكستان ونصت على إغلاق ملف أحداث عام 1971 وعدم التطرق إليها في أي حال من الأحوال؟

ولكن ما دخل الدولة الثالثة (الهند) إذا كانت الصراعات والخيانات التي أدت إلى تقسيم البلاد داخلية بين شطري باكستان؟ هنا تأتي قصة الدول الثلاث، ومن المهم أن نمر سريعا على أهم محطات ذلك الصراع لأن له تأثيرا كبيرا على مجريات الأحداث الآن.

في انتخابات 1970 أدت النعرات العرقية والدعايات العصبية إلى فوز حزبين رئيسيين فقط لا ثالث لهما؛ حزب عوامي بزعامة مجيب الرحمن الشيخ الذي اكتسح الساحة في باكستان الشرقية، وحزب الشعب بزعامة ذو الفقار علي بوتو (والد بينظير بوتو) في باكستان الغربية، وبدلا من أن يعترف أحد الفريقين بالآخر ويفتح له مجال تشكيل الحكومة هدّد كل منهما الآخر بتكسير الأرجل لو حاول تشكيل الحكومة.

وانتهى بهما الأمر إلى ارتكاب الخيانة العظمى أي تقسيم البلاد من أجل السلطة وإلى قول: "أنتم هناك ونحن هنا".. هنا وجدت الهند فرصتها وشنت حربا عسكرية شعواء على باكستان وأدخلت قواتها العسكرية في باكستان الشرقية، وجد شعب باكستان الشرقية نفسه أمام خيارين: الوقوف إلى جانب الغزاة الهنود وتأييد تقسيم البلاد، أو الوقوف مع وحدة بلادهم، وبعد أن استمرت الحرب الهندية الباكستانية 17 يوما وأهلكت الحرث والنسل، أعلن الانفصاليون تأسيس بنغلاديش.

أصبحت العاصمة دكا معسكرا هنديا واعترفت باكستان بهزيمتها وألقى الجنرال الباكستاني عبد الله خان نيازي سلاحه أمام الجنرال الهندي أروره سنغ، ووقع تسعون ألفا من الجنود الباكستانيين أسرى حرب في يد القوات الهندية.

هنا لا بدّ من ذكر معلومة حساسة أخرى، فالصورة التذكارية التي التقطت في أحد الميادين العامة في دكا تضم القائدَين العسكريين الهندي والباكستاني يوقعان على وثيقة الهزيمة ويقف وراءهما جنرالات هنود، أبرزهم الجنرال اليهودي في الجيش الهندي الجنرال جاكوب، الذي مات في شهر يناير/كانون الثاني الماضي معترفا في مذكراته أنه كان صاحب دور أساسي في ذاك الملف وحقق ما كان يصبو إليه؛ هذه الصورة التذكارية هي التي أهدتها رئيسة الوزراء حسينة واجد إلى رئيس الوزراء الهندي الحالي نارندرمودي في أول زيارة له إلى بنغلاديش. وقال مودي في حديثة عند استلام الصورة "أفتخر بأنني كنت من ضمن من أتى من الهند لمساعدتكم في حرب التحرير".

كلمة "حرب التحرير" هي الأخرى يجب التوقف عندها؛ فجميع الأدبيات البنغالية رسخت في عقول الأجيال هناك أنها كانت حرب تحرير، أي أن باكستان كانت تحتل تلك الأراضي، وتم تحريرها منها بمساعدة الهند.

والحقيقة أن مسلمي البنغال كانوا على رأس من سعى وبذل لنيل الحرية من الاستعمار البريطاني والاستقلال من الهند عام 1947، حتى إن إقرار إنشاء باكستان قدمه أبو القاسم فضل الحق من البنغال، كما أن حسين شهيد سهروردي وخواجة ناظم الدين كانوا من أبرز الزعماء السياسيين البنغاليين المؤسسين لجمهورية باكستان الإسلامية.

نترك ذاك التاريخ التي يفتح ملفات حساسة أخرى ونعود إلى التطورات الأخيرة، حيث أصبحت هذه المحاكمة مضحكة إلى درجة أن رئيس المحكمة العليا شريندرو كمارسنها وهو هندوسي، استقبل السفير الهندي في بنغلاديش بتاريخ 4 مايو/أيار، أي قبل ساعات من النطق بالحكم النهائي.

وقد عرف البنغاليون أن اللقاء كان بهدف التأكيد على حكم الإعدام بحق الشيخ نظامي.. أي بلد حر في العالم يلتقي فيه أعلى رأس قضائي بالقيادات السياسية والممثلين الدبلوماسيين في مثل هذه اللحظات الحرجة؟ ولم كل هذه العداء مع المعارضة السياسية؟

يرى المراقبون أن بنغلاديش أصبحت محمية هندية بامتياز؛ فقد استطاعت الهند أن توقع معها اتفاقيات تمنحها من الامتيازات الاقتصادية والسياسية ما لم تكن تحلم بها في أي عهد مضى. وتتفق القيادتان البنغالية والهندية الحاليتان على إزالة جميع العوائق التي قد تهدد هذه المصالح والامتيازات.

لقد أعدم خمسة من القادة البارزين من الجماعة الإسلامية ومن حزب خالدة ضياء، كما حكم على عدد كبير من القادة بالمؤبد وبالإعدام؛ منهم شيخ ثمانيني آخر هو الشيخ عبد السبحان عضو البرلمان سابقا ونائب أمير الجماعة الإسلامية، والسيد مير قاسم أحد أبرز الشخصيات الإعلامية والخيرية وغيرهما كثير.

المضحك المبكي أن المحاكم البنغالية نفسها قد اعترفت بعدم إثبات التهم ضدهم، فهذا رئيس المحكمة العليا يسائل الادعاء: "كيف أحكم بإعدام سيد مير قاسم وقد اتهمتموه (الادعاء) بقتل طفلة في مدينة تشيتاغونغ والوثائق الرسمية تؤكد أنه كان موجودا وقتها في العاصمة دكا التي تبعد مئات الكيلومترات؟

وفي يوم مشهود آخر صرخ رئيس المحكمة مخاطبا الادعاء: لم تقدموا لي دليلا دامغا واحدا تثبت إدانة الشيخ نظامي فكيف أصدر حكما بالإعدام؟ وعندما ردت إليه بضاعته هذه يوم النطق بالإعدام قال: لا أحتاج إلى دليل أو إثبات، يكفيني أنه وقف مع باكستان.

لقد مضى الشيخ الرباني مطيع الرحمن وقد يتبعه آخرون رافعين رؤوسهم مبتسمين يعانقون المشانق؛ ولكن ما تحفره حكومة حسينة واجد من أخاديد الدماء القانية سيعمق هوة الخلافات في المجتمع البنغالي إلى عقود طويلة.

أخيرا، لعل من المفيد هنا التذكير بأن كل من ساهم في تفتيت وحدة باكستان عام 1971 لقي حتفه بصورة مأساوية ومؤسفة؛ فوالد حسينة مجيب الشيخ اغتيل على يد أخلص ضباطه، وبقيت جثته على سلم القصر ثلاثة أيام، ورئيسة وزراء الهندية إنديرا غاندي اغتيلت على يد حراسها الأوفياء، وذوالفقار علي بوتو أعدم شنقا علي يد ضياء الحق.

ومن عجيب القول للشيخ أبي الأعلى المودودي عند سماعه نبأ اغتيال مجيب الشيخ "إنا لله.. أخشى أن إراقة الدماء هذه ستستمر في بنغلاديش إلى أمد طويل" فهل تتوقف عجلة الانتقام هذه حتى لا تهدر العقود القادمة كذلك في هذا التناحر؟ ألا يكفي هذا القدر من دماء الأبرياء؟ هل تقوم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالامتثال لقول نبيها: "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما".. تنصر المظلوم وتأخذ على يد الظلمة أينما كانوا ومن كانوا؟


: الأوسمة



التالي
الكليات القرآنية: إيجاز وإعجاز[1]
السابق
استراتيجية إيران حتى عام 2036… فما استراتيجيتنا نحن؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع