البحث

التفاصيل

الوطن والمواطنة في الشريعة (3)

الرابط المختصر :

لقد شهدت الدولة العربية والإسلامية كغيرها من دول العالم محطاتتحول وتغيير متسارعة ، أدت إلى التأثير في بعض القيم والمعتقداتوالمبادئ والعادات والتقاليد ، كما شملت بعضاً من جوانب الحياةالاجتماعية ، والثقافية ، والمعرفية ، والاقتصادية ، والسياسية ؛ مما أثرعلى كيان المجتمع ، واستقراره ، وتماسكه ، وبالتالي نتج عن ذلكاتجاهات معينة ، وأنماط تفكير تهدد القيم ، والعادات ، والتراث ،والهوية الوطنية للدول والموروث الاجتماعي ، وبروز قيم جديدة لا تتفقمع سلوك وطبيعة مجتمعاتنا ، وبالتالي تضعف الانتماء للوطن ، وتعملعلى تفتيت الموروث التاريخي والاجتماعي للشعوب الإسلامية.
كما وتلقي هذه التغيرات بظلالها على مجالات الحياة العامة للمجتمع، ويتطلب الأمر تحركاً سريعاً من قبل الدولة ، ومؤسساتها خاصة فيالمجال التربوي ، وذلك من خلال إعداد وتزويد الطلبة بالمعارف العلمية، والتربية على فهم التراث ، والاعتزاز بالموروث التاريخي ،والاجتماعي ، والديني ، وإتقان اللغة ، ومهارات التواصل اللغوي ،والانفتاح على الثقافات الأخرى ، وبالتالي نكون قادرين على التفاعلمع حاجات المجتمعات ، ومن هنا يجب ـ على الدول العربية والإسلاميةـ السعي للحفاظ على هويتها باعتبارها من أهم موروثها الديني ،والاجتماعي ، والتاريخي ؛ الذي يعتبر من القيم والمبادئ الأساسيةللمجتمع ، ومن خلال غرس وتنمية مفهوم المواطنة بين المواطنين فيالمجتمع ، وإعدادهم للمواطنة الصالحة[(1)].

* المواطنة كما يقرأها الآخرون:
أ ـ المواطنة بمفهومها السياسي:
هي عقد اجتماعي بين المواطن الفرد والدولة تحمله من مؤسساتتشريعية وتنفيذية وقضائية وإدارية ، وبذلك تكون العلاقة علاقةمشاركة بين الطرفين بأسلوب حضاري وتنظيمي.. و يعني انتسابالفرد لكيان معين ، يكون مندمجاً من خلاله شاعراً بالأمان فيه ومعتزاًبهويته ، ، وفي ذات الوقت منشغلاً بقضاياه ، وعلى إدراك بمشكلاته ،وملتزماً بقوانينه وقيمه ، ومراعياً للصالح العام ، ومحافظاً علىمصالحه وثرواته ، غير متخلٍّ عنه في أوقات الأزمات والمحن[(2)].
والمفهوم الحديث للمواطنة يعتمد على الاتفاق الجماعي القائم علىأساس التفاهم من أجل تحقيق ضمان الحقوق الفردية والجماعية ،كما أن المواطنة في الأساس شعور وجداني من خلال الارتباطبالأرض ، وبأفراد المجتمع الاخرين الساكنين على الأرض ، وهي –بهذا المعنى - لا تتناقض مع الإسلام ؛ لأن المواطنة عبارة عن رابطةبين أفراد يعيشون في زمان ومكان معين ، أي: جغرافية محددة ،والعلاقة الدينية تعزز المواطنة.
كما أن المفهوم الحديث للمواطنة تطور مع الدولة الحديثة ؛ التي تعتبربنفسها المطلقة داخل حدودها ، وأن أوامرها نافذة على كل من يقطنداخل تلك الحدود الجغرافية ، ولكن ومن أجل منع استبداد الدولة ،وسلطاتها ، فقد نشأت فكرة المواطن ؛ الذي يمتلك الحقوق غير القابلةللأخذ ، أو الاعتداء عليها من قبل الدولة ، فهذه الحقوق هي حقوقسياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي ، وحقوق جماعيةترتبط بالشؤون الاقتصادية ، والاجتماعية ، والثقافية[(3)].
ب ـ المواطنة في العلوم الاجتماعية:
يعرف بعض المتخصصين في العلوم الاجتماعية المواطنة على أنهامجموعة الالتزامات المتبادلة بين الأشخاص والدولة ، فالشخصيحصل على بعض الحقوق السياسية والمدنية نتيجة انتمائه إلىمجتمع سياسي معين ، وعليه في الوقت نفسه أن يؤدي بعضالواجبات[(4)].
بمعنى أنها تشتمل على العلاقة بين الأفراد والدولة ، مع الامتثالللحقوق والواجبات ، وهي تشمل كذلك على صفات المواطن ومسؤولياته، وتتميز المواطنة بوجه خاص بالانتماء إليه وخدمته ، والتعاون معالاخرين من أجل تحقيق الأهداف للدولة ، وتتضمن مستوى عالياً منالحرية مصحوباً بالعديد من المسؤوليات[(5)].
ج ـ المواطنة في الموسوعة السياسية (1990م):
تعرف الموسوعة السياسية المواطنة بأنها: صفة المواطن الذي يتمتعبالحقوق ، ويلتزم بالواجبات التي يفرض عليه انتماؤه إلى الوطن[(6)].
د ـ المواطنة في موسوعة الكتاب الدولي:
المواطنة من خلال تعريف موسوعة الكتاب الدولي بأنها: عضوية كاملةفي دولة ، أو في بعض وحدات الحكم ، وأن المواطنين لديهم بعضالحقوق ، مثل حق التصويت ، وحق تولي المناصب العامة ، وكذلكعليهم بعض الواجبات مثل: دفع الضرائب ، والدفاع عن بلدهم[(7)].

هـ. وجهة نظر بعض المفكرين الإسلامين في الوطن والمواطنة:
كان الشيخ محمد عبده مع ثورة عرابي المصرية التي قامت ضدالخديوي ، وبعد ذلك كانت عنايته بالمجتمع المصري أكثر من غيره ،عن طريق إصلاح التعليم العام ، وخصوصاً إصلاح الأزهر ، وقالكلمته الشهيرة: «يستحيل بقاء الأزهر على حاله ، فإما أن يعمر ، وإماأن يتمَّ خرابه» ، وسمَّاه الأستاذ عباس العقاد في كتابه عنه «رائدالفكر المصري الحديث».
ولكنهم جميعاً يؤمنون بوطنهم الأكبر: دار الإسلام ، ولهذا عملوا علىتحريرها من كل سلطان أجنبي ، وتوحيدها ، والسعي في عودتها إلىالرقي والتضامن والقيادة من جديد. وهكذا رأينا عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «أم القرى» الذي تصوَّر فيه مؤتمراً إسلامياً عالمياًيعقد في «مكة المكرمة أم القرى» ليبحث مشكلات الأمة الإسلاميةجمعاء ، ويقترح لها الحلول المناسبة.
كما ظهر مفكرون آخرون في أقطار شتَّى ، اتَّفقت مقاصدهم ،واختلفت طرائقهم، ومن هؤلاء: أ ـ حسن البنا وموقفه من الوطنيةوالمواطنة:
فقد تحدث عن مفهوم الوطنية في رسالة «دعوتنا» من رسائلهالشهيرة ، وبين المعاني والمقاصد التي يمكن أن تفهم من هذه الكلمة ،وأن منها ما هو مقبول في منطق الإسلام وشريعته ، ومنهاما هو مردود ومرفوض ، وذلك بسبب ظهور وانتشار هذهالمصطلحات الجديدة في المجتمعات الإسلامية ، وولع بعض الناس بها، وفهم كلِّ فريق لها بحسب هواه ، أو هوى من يسير خلف فلسفتهم.
*ـ الوطنية المقبولة والوطنية المردودة عند أ. البنا:
في رسالة «دعوتنا» يفصِّل القول في الوطنية تفصيلاً ، فقد كانالرجل حريصاً على تحديد المفاهيم الغامضة ، أو المحتملة لاختلافالأفهام ، وعلى تفصيل المعاني والمصطلحات المجملة ، وضبط الكلماتالهُلامية التي يفسِّرها كلُّ فريق بما يمليه عليه هواه ، أو تبعيته لفكرةمعينة.
قال: افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة ، والقومية تارة أخرى ، وبخاصةفي الشرق ، حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءةنالت من عزَّتها ، وكرامتها ، واستقلالها ، وأخذت من مالها ، ومن دمها، وحيث تتألم هذه الشعوب من هذا النِّير الغربي الذي فُرض عليهافرضاً ، فهي تحاول الخلاص منه بكلِّ ما في وسعها من قوَّة ، ومنعة ،وجهاد ، وجلاد ، فانطلقت ألسن الزعماء ، وسالت أنهار الصحف ،وكتب الكاتبون ، وخطب الخطباء ، وهتف الهاتفون باسم الوطنيةوجلال القومية ، حسن ذلك وجميل ، ولكن غير الحسن وغير الجميل: أنك حين تحاول إفهام الشعوب الشرقية ـ وهي مسلمة ـ أن ذلك فيالإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين ،وكتابات الأوربيين ؛ أبوا ذلك عليك ، ولجُّوا في تقليدهم يعمهون ،وزعموا لك أن الإسلام في ناحية ، وهذه الفكرة في ناحية أخرى ، وظنبعضهم أن
ذلك مما يفرق وحدة الأمة ، ويُضعف رابطة الشباب[(9)].
وقد تحدث الأستاذ البنا عن وطنية الحنين والعاطفة ، ووطنية الحرية ،ووطنية المجتمع وخدمته ، ووطنية المجد والفتح ، وأشاد بها[(10)].
ثم يقول الأستاذ البنا: وأحبُّ أن أنبِّهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل: إن الجري على هذا المبدأ يمزق وحدة الأمة التي تتألف من عناصردينية مختلفة ، فإن الإسلام ـ وهو دين الوحدة والمساواة ـ كفل هذهالروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: َ {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِالَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْوَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *} [الممتحنة: 8]. فمن أينيأتي التفريق إذاً[(11)]؟!.
_خ مصر في نظر حسن البنا:
يقول: إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض ؛ التي نبتنا فيها ،ونشأنا عليها ، ومصر بلد مؤمن ، تلقَّى الإسلام تلقياً كريماً ، وذاد عنه، وردَّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ ، وأخلص في اعتناقه ،وطوى عليه أعطف المشاعر ، وأنبل العواطف ، وهو لا يصلح إلابالإسلام ، ولا يُداوى إلا بعقاقيره ، ولا يطبُّ له إلا بعلاجه ، وقد انتهتإليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية ، والقيام عليها ،فكيف لا نعمل
لمصر وخير مصر؟ وكيف لا ندافع عن مصر بكلِّ ما نستطيع؟ وكيفيقال: إنَّ الإيمان بالمصرية لا يتَّفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجلينادي بالإسلام ، ويهتف بالإسلام؟
إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب ، عاملون له ، مجاهدونفي سبيل خيره ، وسنظل كذلك ما حيينا ، معتقدين أن هذه الحَلْقةالأولى في سلسلة النهضة المنشودة ، وأنها جزء من الوطن العربيالعام ، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام ، وليسيضيرنا في هذا كلِّه أن نُعْنى بتاريخ مصر القديم ، وبما سبق إليهقدماء المصريين الناس من المعارف والعلوم ، فنحن نرحب بمصرالقديمة ، كتاريخ فيه مجد ، وفيه علم ومعرفة ، ونحارب هذه النظريةبكل قوانا كمنهاج عملي ، يراد صبغ مصر به ، ودعوتها إليه ، بعد أنهداها الله بتعاليم الإسلام ، وشرح له صدرها ، وأنار به بصيرتها ،وزادها به شرفاً ومجداً فوق مجدها ، وخلّصها بذلك مما لحق هذاالتاريخ من أوضار الوثنية ، وأدران الشرك ، وعادات الجاهلية[(12)].
ب ـ عبد الحميد بن باديس «الجزائر»:
قال الشيخ عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء بالجزائر: بهاتين الجملتين منذ نيف وعشر سنين توَّجنا جريدة «المنتقد» الشهيرة، وجعلناها شعاراً لها تحمله في رأس كل عدد منها ، هذه أيام كانتكلمة الوطن والوطنية كلمة إجرامية، لا يستطيع أحد أن ينطق بها،وقليل جداً من يشعر بمعناها ، وإن كان ذلك المعنى دفيناً في كوامنالنفوس ككلِّ غريزة من غرائزها ، لا سيما فيأمة تُنسب إلى العروبة،وتدين بالإسلام مثل الأمة الجزائرية ذات التاريخ المجيد.أما اليوم وقدصارت كلمة الوطن والوطنية سهلة على كل لسان ، وقد يقولها قوم ولايفقهون معناها ، وقد يقولها اخرون بألسنتهم ، ولا يستطيعون أنينتسبوا لها في المكتوب من رسمياتهم ، ويفزع منها من يتخيَّلون فيهاما يعرفون من وصيَّاتهم ، وينكرها اخرون زعماً منهم أنها ضدإنسانيَّتهم وعمومياتهم ، فكان حقاً لقرَّاء «الشهاب» علينا أن نقول لهمكلمة مختصرة نبين لهم حقيقة هذه الكلمة وأقسامها ، وأقسام الناسإزاءها ، ومن أي قسم نحن من تلك الأقسام من نواميس الخليقة حبالذات للمحافظة على البقاء ، وفي البقاء عمارة الكون ، فكل ما تشعرالنفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها ، واستمداد بقائه منهم، وما البيت إلا الوطن الصغير ، فإذا تقدَّم شيئاً في سنه اتسع أفقحبه ، وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه ، فإذا دخل ميدان الحياة ،وعرف الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره ، وما ينظر إليه من مستقبله، ووجد فيهم صورته بلسانه ، ووجدانه ، وأخلاقه ، ونوازعه ، ومنازعةشهور نحوهم من الحب بمثل ما كان يشعر به لأهل بيته في طفولته ،ولما فيه ـ كما تقدم ـ من غريزة حب الذات ، وطلب البقاء ، وهؤلاء همأهل وطنه الكبير ، ومحبته في العرف العام هي: الوطنية» [(13)].
_________________
1/المواطن والمواطنة ، د. علي الدوسري ص (16).
2/ المصدر السابق.
3/ المصدر السابق.
4/مصطلحات العلوم الاجتماعية ، محمد عاطف ص (56).
5/معجم العلوم الاجتماعية ، أحمد زكي بدر ص (60).
ـ6/المواطن والمواطنة ، د. الدوسري ص (19).
ـ7/المصدر السابق ص (21).
ـ8/الوطن والمواطنة ، للقرضاوي ص (51).
ـ9/من رسالة دعوتنا ص (19 ـ 20) رسائل الإمام.
10/الوطن والمواطنة ، للقرضاوي ص (53).
ـ11/رسالة دعوتنا ص (20 ـ 22) من مجموع رسائل الإمامالشهيد.
12/الوطن والمواطنة ، للقرضاوي ص (54).
13/اثار ابن باديس (3/366).


: الأوسمة



التالي
صراع!
السابق
كيفية التخلص من المال الحرام

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع