البحث

التفاصيل

الغنوشي: لماذا يتخوّف الإسلاميون من الحكم وكأنّه مصيبة؟

"إسلام أون لاين"يحاور زعيم حركة النهضة التونسية
الغنوشي: لماذا يتخوّف الإسلاميون من الحكم وكأنّه مصيبة؟

 

بيروت/ موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

حاوره: 
علي بوراوي - إسلام أون لاين - تونس

دعا المفكر الإسلامي ورئيس حركة النّهضة الشيخ راشد الغنوشي الحركات الإسلامية إلى أن تتحمّل مسؤوليتها وتقود شعوبها، وألاّ تخشى من الحكم، وأن تتهيّأ إلى الانتقال من مرحلة الدّعوة إلى مرحلة الدولة، وأن تقدّم بركات الإسلام، وتجسّد عدل الإسلام في الحكم. 

واعتبر رئيس حركة النّهضة التونسية، أنّ المبالغة في التخوف من الغرب نوع من الشرك، ودعا إلى التخلّي عن فكرة "ما يريد الغرب هو الذي يكون" وقال إنّ ما يريد الله، ثم ما تريد شعوبنا هو الذي يكون، مستشهدا بسقوط كلّ من نظامي بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، رغم ما كانا يمثّلانه في الإستراتيجية الغربية، وما كانا يلقيانه من دعم خارجي. 

وتحدّث الشيخ راشد الغنوشي عن الوضع في تونس، ومخاوفه على الثورة، ورؤيته لأولويات حركة النّهضة، والحركة الإسلامية عموما في هذه المرحلة، وقال إنّ أولوية النهضة الآن وطنية وليست حزبية، تتمثّل في انتخاب مجلس تأسيسي وإقامة حكومة ائتلافية منتخبة، ومشروع تنموي يشرّف البلاد. 

كما تحدّث عن التيار السلفي في تونس، وقال إنّ شبابه أبناؤنا، وجدوا فراغا دينيا في تونس، وغيابا للمرجعيات الإسلامية في البلاد، بفعل قوّة قاهرة غيّبت حركة النّهضة، فتأثّر تديّنهم بأجواء تجريم التديّن، مؤكدا أن الإسلام أكبر من أن يستوعبه حزب. 

وحمل الشيخ راشد على العلمانيين الذين يحاربون الإسلام في تونس، وقال إنهم يخشون الديمقراطية والانتخابات، لأنها تكشف حقيقتهم. وعبّر عن خشيته من أن تدفع تونس ثمنا باهظا لتحقيق أهداف ثورتها "لأن هناك قوى مستعدّة لأن تحرق البلاد من أجل أن تحافظ على مواقع نفوذها". لكنه أكّد أنّ الثورة ستبلغ مداها وتحقّق غايتها لا محالة.

نص الحوار

- قلت في بعض خطبك "ما أجمل تونس بدون بن علي" فهل ما زالت تونس جميلة؟

-بدون شك تبقى تونس جميلة ما بقيت راية الحرية فيها مرفوعة، وما دام الشعب التونسي قد فكّ قيود الدكتاتورية، وفكّ عن رقبته شبكتها، وهو اليوم يمارس اليوم حريته، وينزل إلى الشّارع متى شاء، ويطرد أي مسؤول لا يريده، سواء كان واليا أو وزيرا. فتونس الآن في أشدّ حالات وعيها بالحرية، واستعدادها للنضال من أجلها، والتصدي لأعدائها.

الاستبداد عدو النهضة

- كيف ترى واقع الإسلاميين في تونس الحرية؟ وما هي أهم التحديات التي تواجههم؟

-  إذا كانت قيمة الحرية تمثل معنى وجوديا بالنسبة للمسلم، وشرطا في كونه مسلما، إذ إنّ الحرية كالعقل، شرط في الإسلام، فلا إسلام للمكره ولا إسلام للمجنون. الحرية طريق ضروري للإسلام. فالإسلاميّ لا يمكن إلاّ أن يكون سعيدا بالحرية، ولا يمكن إلاّ أن يكون عاملا مجاهدا من أجل إقامتها ومن أجل حمايتها ومن أجل استعادتها إذا فقدت. 

والحرية مقصد عظيم من مقاصد شريعتنا، ولا يمكن للمسلم أن يتم له الإسلام بدون حرية، ولا يمكن للإسلام أن يزدهر بدون حرية. لذلك فالحرية معنى يشرح الإسلام. الإسلام حرية، والاستبداد والدكتاتورية أعداء الإسلام ونقيضه. وقد ظلّ الرسول عليه الصّلاة والسلام يدعو الناس في مكة المكرّمة إلى الإسلام، ولمّا رفضوا دعاهم إلى خيار آخر، أن يخلّوا بينه وبين النّاس، وأن يجعلوا من مكّة فضاء حرّا، يتمتّع فيه الجميع بالحق في اختيار ما يريد من عقائد وأفكار وممارستها، ولكنّ قومه رفضوا. 

ولم يكن صدفة أن الله سبحانه اختار من بلاد العالم بلاد الحجاز لتكون منطلقا للإسلام، رغم ما فيها من مفاسد ووثنيات ومنكرات. ولكن بلاد الحجاز كانت خالية من الاستبداد. لم تكن فيها دولة قاهرة. الإسلام نشأ حرّا في أرض حرّة، وظلّ يزدهر أبدا بقدر ما يتوفّر له من حرية، وينكمش ويذوى بقدر ما ينتشر من استبداد. 

المشروع الإسلامي في تونس أوقفه الاستبداد سنة 1991، بقوّة قاهرة، بعد أن أثبتت الحركة الإسلامية أنّ الشعب ملتفّ حولها في انتخابات سنة 1989، وأعطاها ولاء عارما فاق كلّ توقّع. فتدخّلت قوّة رهيبة مدعومة بنظام دولي، لإيقاف تحوّل الشعب التونسي من حزب الدستور إلى النّهضة، وظلّ ذلك المدّ منحسرا بذلك السّدّ، وعاشت البلاد أسوأ مرحلة في تاريخها، وسجن أكثر من ثلاثين ألفا من أبناء الحركة الإسلامية، مئات منهم بين جريح وقتيل ومشرّد، وتوقّفت السياسة حتى قال الناس ماتت السياسة في تونس، ومات الفنّ، وقدّم ذلك على أنّه الثمن الضروري للازدهار الاقتصادي، ولكن تبيّن في النهاية أنه في غياب الحرية، لا فكر ولا ثقافة ولا تنمية، ولذلك قامت الثورة على الاستبداد. 

وبمجرّد ما سقط هذا السّدّ، حتى عادت المياه إلى مجاريها وعاد الشعب التونسي يعبّر عمّا كتمه طويلا أو اضطر إلى أن يتوارى به في القلوب. أفصح الشعب التونسي عمّا في قلبه من محبّة لهذا الدين ولأهله، واليوم لا أحد يشكّ أن الحركة الإسلامية هي القوة الأساسية التي لا منافس حقيقيّ لها في الساحة. وما ذلك إلاّ بفضل الله، ثم بفضل الحرية التي انتزعها شباب تونس بدمائه الزكية، وانطلقت القوى الإسلامية حرة طليقة ترمّم بناءها وتضمّد جراحاتها وتستعيد مواقعها. 

فزاعة النهضة

-هذه الحرية التي انتزعها التونسيون بدمائهم وجهودهم وجهادهم، مكّنت للإسلاميين وأظهرت حضورهم ودرجة تعاطف الناس مع مشروعهم، لكن غلاة العلمانيين لم يخفوا تضايقهم من هذه الأجواء، فظلّوا يكيدون للحرية كيدهم للإسلام والإسلاميين.

- هذا أمر مفهوم، فسنّة التدافع لم تتعطّل، بل إن الحرية تحرّك سنن التدافع، لكن الفرق بين حالنا اليوم وحالنا زمن الدكتاتورية، أنّ هذه القوى العلمانية كانت تعمل وحدها في تونس. كانت قد انفردت بالنّاس، وظنّت أنّ الأمر قد استتبّ لها نهائيا. لكن سقوط حاميها بن علي، جعلها تشعر بتوتّر شديد. وكانت قد حسبت أنّ الإسلام قد قضى نحبه، وأنّ الحركة الإسلامية توارت إلى البد، فإذا بالحركة الإسلامية تعود قوية في عنفوانها.

هؤلاء استنفروا كلّ طاقات العداوة، والتعبئة ضدّ الحركة الإسلامية، مستغلّين مواقعهم في الإعلام وهم نافذون فيه، وكذلك مواقعهم في الإدارة، وهم اليوم في حالة هلع من عودة الإسلام الذي حسبوا أنّه قضى نحبه إلى الأبد. هم يدركون بوضوح أنّهم غير قادرين على منافسة شريفة مع الحركة الإسلامية، لذلك تجدهم يلتجئون إلى أساليب شيطانية. يلتجئون إلى أساليب الكيد والتحريض واستعمال الفزّاعة الإسلامية. يخوّفون النساء من الإسلام والإسلاميين، يخوّفون السواح ورجال الأعمال ورجال الفنّ. يقدّمون الإسلاميين على أنّهم غول داهم على مكاسب الحداثة لمصادرتها، وكأنّ هؤلاء حداثيّون فعلا. 

بينما جوهر الحداثة هو العقل والحرية، ومواقف هؤلاء لا عقل فيها ولا حرية، ولكن فيها غرائز وشهوات. فيها دفاع محموم عن مكاسب حصلوا عليها في غيبة الناس. أموال نهبوها ومواقع احتلّوها. الآن هم يشعرون أنّهم غير مؤهّلين لمنافسة نزيهة حرّة مع الحركة الإسلامية، لذلك يستعملون الفزّاعات الخارجية. يخوّفون الغرب وكلّ من يظنون أنّ مصلحته تتناقض مع مصلحة الإسلام. ولكن سقط الخوف من قلوب الناس، ولم تبق إلاّ حقائق الأشياء، لم يبق اليوم من سبيل للحكم إلاّ عبر تفويض الشعب. الشعب اليوم استعاد سلطته ولن يقبل بوصاية جديدة لا باسم الحداثة ولا باسم الإسلام ولا بأيّ اسم آخر، فالشعب استعاد حرّيته بثمن غال وليس مستعدا لأن يقبل بوصاية تحت أيّ عنوان.

-  أعداء للحرية لا يتردّدون في استعمال أية وسيلة للكيد، من استفزاز ومؤامرات، وتوجيه تهم باطلة. كيف ترى الطريق الأنسب للحركة الإسلامية للتعامل معهم وتفويت فرصة نشر الفوضى عليهم؟

-  لن يفرّطوا في استخدام أيّة وسيلة من أجل المحافظة على منافعهم ومصالحهم التي انتزعت من خلال تواطئهم مع مافيا بن علي التي حكمت البلاد. معظم هؤلاء تواطؤوا بشكل أو بآخر مع النظام المنحل، ويستخدمون الآن في وسائل الإعلام فزّاعات إسلامية. أنصار حزب التجمع المنحل، الذي تشكّل في أحزاب كثيرة، يستخدمون الآن البلطجة، ويقطعون الطرقات والمياه عن السكان والمصانع، ويثيرون أصنافا من الشّغب، حتى في المساجد، من أجل تخويف التونسيين من الحرية، وإعطاء رسالة مفادها أنّ الحرية لا تصلح للتونسيين وهم لا يصلحون لها، وأنّ السبيل الوحيد للاستقرار، هو نظام بوليسي كالذي كان في تونس. 

يمكن التصدّي لهؤلاء بنشر الوعي بين الناس وفضح هؤلاء على الملأ وبطريقة موضوعية عقلانية، لأنّ الشعب لن يقبل عودة الاستبداد في أيّ صورة من الصّور. أنا ما كنت من أنصار حلّ الحزب الحاكم، لو بقي باسمه المعروف، ليواجه الشعب التونسي والجرائم التي ارتكبها ومناشداته للطاغية، لو كان الأمر كذلك، ما أتوقّع وجها واحدا من وجوه الحزب المنحلّ يمكن أن يحصل على نيابة في البرلمان. فالناس كرهوا هؤلاء ولا يمكن أن يثقوا فيهم مرّة أخرى.

الآن هؤلاء عائدون بعناوين أخرى، متنكّرين، ولكن يجب تعريتهم أمام الناس وفضحهم، فنحن في زمن المعلومات. الآن معظم المسؤولين في مختلف أجهزة الدولة من أرشيف الحزب المنحلّ. وكلّما اكتشف الشباب واحدا من هؤلاء وطردوه، أتى لهم بآخرين، وبلغ الأمر إلى حدّ توزير من كان مندوبا لنظام بن علي في الكيان الصهيوني، هو الآن يشغل منصب نائب وزير للخارجية. 

وهذا سبب من أسباب الغضب في الشّارع، عناصر تطبيعية وعناصر فاسدة تسمّى في الحكومة، بما يعطي رسالة تحدّ لشباب الثورة، أنّ الحكومة تستهتر بهؤلاء الشباب، وتقدّم ترضيات للخارج على حساب مبادئ الثّورة. وكأنّ الثورة قامت من أجل إعادة العلاقة مع إسرائيل. بينما كان ارتباط النظام بالكيان الصهيوني سببا من أسباب الثّورة. 

مخاوف على ثورة تونس

-  ماذا تخشى على الثّورة التونسية؟

-  أنا لا أخشى شيئا على الثورة التونسية، الثورة ستبلغ مداها وستحقّق غايتها في نظام ديمقراطي عادل يستوعب كلّ القوى التونسية الخيّرة، بعيدا عن كلّ قمع وكلّ إقصاء. الخشية فقط هي أن تدفع أثماناً باهظة أخرى من أجل تحقيق ذلك. الخشية من أن تطول الطريق قبل الوصول إلى تلك المرحلة، تدخل البلاد في مرحلة من الفوضى نتيجة وجود قوى تجذب إلى الوراء، ومستعدّة حتى أن تحرق البلاد من أجل أن تحافظ على مواقع نفوذها، وألاّ تنتقل البلاد إلى قوى يختارها الشّعب. 

الخشية أن تدخل البلاد مرحلة من الفوضى وتدفع البلاد أثمانا أخرى، ولكن تونس واصلة بإذن الله إلى ترجمة دماء الشهداء التي ظلّ التونسيون منذ أكثر من قرن ونصف يبذلونها من أجل برلمان تونسي وحكومة تونسية منتخبة، وحتى اليوم لم نصل إلى هذا، ونحن على أبواب ذلك إن شاء الله.

-  أهم ما سرّك في هذه الثورة؟

-  أنّها ثورة سلمية وجامعة، لم تفرّق التونسيين وإنّما جمعتهم، ورفعت من مستواهم الأخلاقي وأصبح التونسيون أكثر تضامنا وأكثر ثقة في أنفسهم وأكثر إيثارا، حتى إنّ نسبة حوادث الطرقات نقصت، رغم اختفاء البوليس من الشوارع، ونقصت نسبة الجرائم، ونسبة الطلاق انخفضت مقارنة بنفس الفترة من السنوات الماضية، العيادات النفسية قلّ زائروها، بركات السّماء نزلت، إذ تضاعف الإنتاج الزراعي هذه السنة أربع مرّات، هذا ما يدلّ على أنّ اقتلاع طاغوت من الأرض هو إذن بنزول بركات السماء. 

النهضة والسلفية التونسية

-  كانت حركة النهضة قبل الثورة مستأثرة بالساحة الإسلامية، لكن سجّل خلال السنوات الأخيرة حضور عدد من التيارات والقوى الإسلامية الأخرى. كيف ترى الطريق لأن تتعايش التيارات الإسلامية المختلفة لتخدم نفس المشروع؟

-  خلال تغييب حركة النّهضة بقوة قاهرة، حصل فراغ ديني في الساحة. فقد كان أداء الصلاة تهمة في تونس، وكذلك الحجاب للمرأة والكتاب الإسلامي ممنوعان، ولكن الشعب التونسي شعب مسلم ومتديّن. هذا الفراغ كان لا بدّ أن يملأ. ظهرت القنوات الفضائية، وشبكة الإنترنت، وبدأ الشباب يبحث عن مرجعيات دينية أخرى، لأنّ الساحة التونسية لم تبق فيها مرجعية دينية، فامتدت الأنفس إلى القنوات الفضائية تستمدّ منها زادها الديني. فتأثّرت مجموعات من الشباب بهذه القنوات، وهي قنوات سلفية بالخصوص، فنشأ في تونس تديّن ليس معتادا. الحكومة تصدّت له، وسجن بضعة آلاف من الجماعات السلفية.

وقد اعتبرت حركة النّهضة هؤلاء الشباب أبناءها الذين حرموا من مرجعيتها. حرمت النهضة من أداء واجبها تجاههم. اليوم وقد سقط الاستبداد، خرج هؤلاء من السّجون. فالحركة كانت الوحيدة التي طالبت بالإفراج عنهم. ومحامو الحركة هم الذين دافعوا عن هؤلاء. لما صدر العفو التشريعي العام في بداية الثورة، استثني الذين حوكموا بقانون الإرهاب، لكن النهضة رفضت هذا المشروع الذي يستثني هؤلاء ومجموعة أحداث سليمان وجماعة باب سويقة. فقد رفضت حركة النّهضة أيّ استثناء، وخرج كل هؤلاء من السجون. 

الساحة الإسلامية اليوم لم تبق كما كانت في السبعينيات والثمانينيات. أصبح خلال هذه العشرية تيارات إسلامية أخرى، غير تيار النهضة. الإسلام كبير ولا يمكن لأي حزب مهما تضخّم أن يستوعب الإسلام. الإسلام أوسع من أي حزب وحركة النهضة رغم أنّها أسّست للحركة الإسلامية الحديثة في تونس، لكنها ظلت تؤكد باستمرار أنّها ليست ناطقا رسميا باسم الإسلام ولا تحتكر النطق باسمه. 

هؤلاء إخواننا والإسلام جامع، ونحن ندعو إلى الحوار والتعايش وإلى أن تكون تونس لكل سكانها، سواء كانوا ممن يؤمنون بفهمنا للإسلام، أو لهم فهم آخر. أنا أرى في هؤلاء الشباب جزءا من شبابنا. نحن أيضا نشأنا على قدر من التشدّد نتيجة الظروف القاسية لكنّنا تأقلمنا مع البيئة التونسية. هؤلاء الشباب نشؤوا في ظروف مشابهة، وقع فيها تجريم التديّن وجرّمت الصلاة، فطبيعي أن ينشأ شباب على قدر من التشدّد، ويبدو لبعض الشباب الإسلامي وكأنهم فاتحون في هذا البلد. 

أحسّ أنّ استيراد تيارات سلفية على مذاهب أخرى لن يصمد طويلا. وكما أنّنا أثّرنا في بلادنا، فشذّبنا من التدين القائم، ومن قدر من الخرافات والبدع، ولا شكّ أنّ التدين التونسي اليوم أفضل مما كان عليه منذ قرن، أكثر صفاء وأكثر استقامة. وكما أثّرنا في نمط التديّن تشذيبا وتهذيبا، فإنّ نمط التدين التونسي أثر فينا. كانت هناك علاقة تأثر وتأثير بيننا وبين بيئتنا. أحسب أنّ شبابنا اليوم من الشباب السلفي، سيأخذ ويعطي، إلى أن نصل إلى قاعدة من التديّن المشترك الذي نشأت عليه أجيال شعبنا وارتضته.

أولويات النهضة

-  ما هي أولويات حركة النهضة في هذه المرحلة؟

-  الأولويات الكبرى هو تحقيق أهداف الثورة. فالثورة قامت من أجل إعادة الشرعية للشعب. شعبنا سلب شرعيته وسلبت أمواله، وقامت الثورة من أجل أن تعيد السلطة للشعب، وتعيد له ثروته، وتضع حدّا للاستبداد وحدّا للنهب. فتستعاد الأموال المنهوبة، ويعاقب المجرمون وينطلق نظام ديمقراطي يعيد السلطة للشعب. نظام يعبّئ طاقات الشعب من أجل منوال تنموي يحقّق العدالة الاجتماعية بين الفئات وبين الجهات. كلّ ذلك في إطار هوية الشعب العربية المسلمة. 

أولويتها هي أولوية وطنية وليست أولوية حزبية. أولويتنا الآن أن تنجح العملية الانتخابية في إفراز مجلس تأسيسي يضع دستورا ديمقراطيا عادلا. أولويتنا تأسيس حكومة ائتلافية منتخبة. أولويتنا إقامة مشروع تنموي جاد يقضي على البطالة، ويعيد البناء منوالا لتنمية حديثة وعادلة تفعّل طاقات شعبنا وهي طاقات كبيرة من أجل نموذج تنموي يشرّف تونس. كما نجحت تونس في تحقيق نموذج للثورة، ألهم العالم العربي، نقدّر أنّ تونس ستنجح في إيجاد نموذج تنموي متقدّم يلبي مطالب الشعب.

الإسلاميون والخوف من الحكم

-  دخل العالم العربي في وضع جديد تطبعه الثورات المنادية بالحرية والديمقراطية، وهو ما يدعو الحركات الإسلامية إلى تغيير برامجها واهتماماتها. كيف ترى تأثير ذلك على برامج وأولويات الحركات الإسلامية؟

-  الساحة الإسلامية تتهيّأ بوعي أو بغير وعي للانتقال من مرحلة الدّعوة إلى مرحلة الدولة، من مرحلة الجماعة المضطهدة إلى الجماعة الحاكمة أو المشاركة في الحكم. إذا أردنا أن يتحقّق في المنطقة العربية استقرار وأن تتحقق تنمية وديمقراطية، فليس هناك إلاّ أن تشارك الحركة الإسلامية في العملية. الحركة الإسلامية اليوم هي القوة الشعبية الأساسية، فما ينبغي أن تتأخّر عن أداء واجبها الديني وواجبها الوطني. 

ما ينبغي أن ترتجف أفئدتها من مسألة الحكم، وتعتبر أن غيرها من المجموعات العلمانية الصغيرة أولى منها بالقيام بهذا الواجب. ما ينبغي أن ترتجف القلوب هلعا من الحكم، وكأنّ الآخرين يملكون أسراره. وكأنّ الآخرين هم أهل الاختصاص في تحقيق أهداف الثورات في العدل والحرية. 

نحن لا ندعو إلى احتكار الحكم من طرف الحركة الإسلامية، ولكن ندعو الحركة الإسلامية ألا تكبكب أمام أداء الواجب في قيادة شعوبنا. إذا أعطيت الثقة من شعوبها، فالمفروض ألاّ تكبكب ولا تتأخّر ولا تجبن، وإلاّ فسنكون قد ساهمنا في تزييف الديمقراطية. يقول الطغاة إنّ هذه الشعوب غير واعية، ولا ينبغي أن نثق فيها لأنها لو اختارت لاختارت الإسلاميين. الإسلاميون أنفسهم يقولون إن هذه الشعوب التي أعطتنا ثقتها غير واعية، ولا يجب أن نصدّقها.

هذا فضيحة وهذه هي مقالة العلمانية. أنا أثق في وعي الشعوب أكثر من وعي النّخب، بما في ذلك النّخب الإسلامية. يجب أن نمضي مع الديمقراطية إلى نهايتها. كلّ حزب يدخل الانتخابات بنيّة أن ينجح. لكن بعض الحركات الإسلامية تدخل الانتخابات وهي واجفة من النجاح، وكأنها تسأل الله ألاّ يبتليها بالنجاح. لماذا يا أخي؟ ثقوا في شعوبكم وامضوا مع موجها إلى النهاية. 

العلمانيون لا يملكون السرّ المكنون. نخبهم تخرّجت من نفس الجامعات التي تخرّجت منها نخبنا، ونحن نتفوّق عليهم بأنّنا أهل دين، إما أن يقضي على الفساد، أو يحدّ منه إلى حدّ كبير. وهذا مهم جدا، لأنه تبيّن أنّ مصدر فشل مشاريع التنمية هو فساد الحاكمين، والإسلاميون يملكون الدواء، أو التقليل منه إلى حدّ كبير، لأننا مع بشر وليس مع ملائكة. 

الإسلاميون متفوّقون أيضا لأنّهم يملكون خطابا ينفذ إلى قلوب الناس، والتنمية تحتاج إلى تعبئة الشعب. العلمانيون كأنهم ينادون الناس من مكان بعيد. كأنّهم يخاطبون الناس باللغة الصينية، بينما الإسلامي يتكلّم لغة الناس، يصارح الناس. لو تمّت مصارحة شعوبنا بحقائق الأمور ووقعت تعبئتها، لكان ذلك كفيلا بأن تصبر كما صبر شعب غزّة رغم الحصار. إسماعيل هنية وإخوانه واجهوا الشعب وصارحوه بحقائق الأمور، فصبر معهم. إمكانيات مصر وإمكانيات تونس، أكبر من إمكانيات غزّة ولا شكّ، فلماذا يتخوّف الإسلاميون من الحكم وكأنّه مصيبة؟!

 أمّا النظام الدولي، والإسلاميون يتخوّفون من أنّ للعلمانيين ظهيرا دوليا، وأنّ العامل الدولي ضدّ الإسلاميين، فأوّلا ليس كل ما تريد أمريكا يكون. ما يريد الله هو الذي يكون، وأمريكا ليست إلهاً. الكثير من الأحداث حصلت في العالم لا تريدها أمريكا، بما في ذلك هذه الثورات، فقد حصلت بدون إرادة أمريكا، ونجحت بدون موافقتها وبدون إذنها. ينبغي أن نتخلّى عن فكرة أن ما يريد الغرب هو الذي يكون، فما يريد الله، ثم ما تريد شعوبنا، هو الذي يكون بإذن الله. 

ثانيا، الغرب تخلّى عن هؤلاء الدكتاتوريين، وهو الآن ليس في وضع قوّة، ومن أسباب اندلاع هذه الثورات ونجاح ما نجح وستنجح البقية إن شاء الله، هو ضعف الغرب. فالرأسمالية منذ سنتين أوشكت أن تنهار، ولو كان لها فائض طاقة ما تركت مبارك وبن علي يسقطان، بينما كان مبارك قطعة أساسية في الاستراتيجية الدولية في المنطقة. وقد وصفه وزير صهيوني بالكنز الاستراتيجي. كيف تركوا هذا الكنز الاستراتيجي يسقط لو كانت لديهم إمكانية للإبقاء عليه؟ فلا ينبغي لهذا الغول الدولي أن يتناقض مع العقيدة. هذا يتناقض مع العقيدة. 

الغرب الآن يريد أن ينظر في علاقاته، وهو صاحب مصالح، وهذا سبب من أسباب توتّر النخبة التونسية في تونس. تصريحات الغربيين تتوالى بأنّ الغرب يراهن على تحوّل ديمقراطي لا يقصي أحدا، وأنّ الإسلاميين ينبغي أن يكونوا جزءا أساسيا من كل عملية ديمقراطية، لأنه دون ذلك لن يتحقّق الاستقرار الضروري. الغرب يريد مصالحه، ومصالحه لن تتحقّق إلاّ بالاستقرار، والاستقرار لا يكون إلاّ باستيعاب كل الطيف السياسي وخاصّة أجزاءه الأساسية، والإسلامية هم الجزء الرئيسي. 

لذلك تكرّرت تصريحات فرنسية وأمريكية وغيرها، بأن الغرب لا يمانع من مشاركة التيار الإسلامي الوسطي. وانعقدت ندوات في أكثر من مكان، في إسبانيا وفرنسا بروكسل، شارك فيها الإخوان والنهضة والعدالة والتنمية وعدد من المفكّرين، وفي كلّ ذلك أكّد مسؤولون أنّ الحركة الإسلامية الوسطية ينبغي أن تكون جزءا من العملية الديمقراطية، وإلاّ فإن العملية ستفشل بإقصاء هذا الطرف منها. 

ينبغي أن نعزم أمرنا ونوفّر ما تقتضيه عملية انتقالنا من دعوة متظلّمة تئنّ، إلى حركة تحكم وتشارك في الحكم وتقدّم بركات الإسلام وتجسّد عدل الإسلام في الحكم، ولنا الكفاءة في ذلك، ولنتوكّل على الله سبحانه، ومن يتوكّل على الله فهو حسبه، إنّ الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا.


: الأوسمة



التالي
حوار للشيخ عبدالله بن بيه مع الشرق الوسط حول المجاعة في الصومال وواجب الدول والمنظمات الاسلامية
السابق
الصلابي: لا يمكن تجاوز إسلاميي ليبيا

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع