البحث

التفاصيل

يا للهول.. إننا أمة بلا دولة!!

يا للهول، ويا للفظاعة، ويا للغرابة، ويا للحزن، ويا للفاجعة، ويا للعار.. إننا أمة بلا دولة! أكاد أجزم وأؤكد بأني مهما استخدمت من أدوات وألفاظ التهويل والتعجب والتحسر والتأوه، على تلك المقولة السابقة لما وفيت الموضوع حقه؛ بسبب خطورته وأهميته وتأثيره على حياتنا المعاصرة.

 

عند استعراض تاريخ الأمم الحية نجد أن إقامة دولة تعبر عن شخصيتها، وتمثل وحدتها الثقافية والفكرية والعقلية والنفسية والتربوية، وتعكس اهتماماتها، وتنفذ مشاريعها وآمالها وتطلعاتها، أمر ضروري وملحّ ومهم؛ لأن تلك الدولة تأتي تعبيرًا عن هذه الوحدة الثقافية من جهة، وتحافظ عليها من جهة ثانية، وتكون مدخلاً لها في البناء الحضاري من جهة ثالثة.

 

وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وجسَّده في سيرته، فبعد أن نزل عليه الوحي في غار حراء، بَنَى أمرين:

 

الأول: الفرد المسلم الموحد، وذلك من خلال توجيه قلبه إلى عبادة الله -وحده- تعظيمًا وخضوعًا وخوفًا ورجاء وحبًّا، ومن خلال صياغة عقله صياغة سليمة تتعامل مع عالمي الغيب والشهادة بمقتضيات الحكمة، وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بكل ذلك تنفيذًا لقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

 

الثاني: الأمة المسلمة، وذلك من خلال ارتباط الأشخاص الموحدين الذين بناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقيادته، واتباع أوامره، والجهر بالدعوة إن جهر، والإسرار إن أسر، والهجرة إن هاجر، والعيش معه في مكان واحد معتزلين الآخرين كما حدث معه عندما حاصره المشركون في شعب أبي طالب، وفرضوا عليه المقاطعة.

 

وبعد أن حقق الرسول صلى الله عليه وسلم الهدفين السابقين تطلع إلى دولة تكون ثمرة ونتيجة لهما من جهة، وتكون سببًا لحفظهما ورعايتهما وتنميتهما من جهة ثانية؛ لذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يبحث في القبائل المحيطة به عن حاضنة لهذه الأمة، وكانت زيارته للطائف ضمن هذا الاتجاه، ثم اتفق في النهاية مع ثُلَّة من أهل المدينة فكانت بيعة العقبة الأولى، ثم بيعة العقبة الثانية، التي تعهد فيها الأنصار على أن يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وتعهدوا أن يحموه وينصروه ويدافعوا عنه.

 

وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وأقام دولته في المدينة، استمر يرسخ الأمور الثلاثة التي كانت عماد الكيان الإسلامي: الفرد المسلم، والأمة الإسلامية، والدولة المسلمة.

 

ويمكن أن نأخذ عدة أمثلة في العصر الحديث على أهمية الدولة عند الأمم الحية التي أرادت أن تحافظ على كيانها من جهة، وأن يكون لها دور حضاري من جهة ثانية، وستكون هذه الأمثلة من أمريكا وألمانيا وإسرائيل.

 

لقد واجهت أمريكا بعد قيام دولتها في نهاية القرن الثامن عشر خليطًا من الأجناس والأعراق التي جاءت من أوربا، كالإنجليز والفرنسيين والإيطاليين، ومن آسيا كاليابانيين والصينيين، ومن إفريقيا: كالسود، وكان على الدولة أن تنتبه إلى هذا الخليط من الأجناس والأعراق وتضع الخطط والتشريعات اللازمة لصهره في بوتقة الأمة الأمريكية؛ لئلا يجنح بها في اتجاه خاطئ. وكان آخر تلك التشريعات التي صدرت في الستينيات من القرن الماضي لمعالجة قضية السود، والتي ألغت كل مظاهر التمييز العنصري ضد السود في الحافلات والمنتديات العامة والوظائف، والتي كان ثمرتها اغتيال الزعيم الأسود مارتن لوثر كنج.

 

كما واجهت الأمة الألمانية في القرن التاسع عشر تجزئة البلاد الألمانية إلى عشرات الكيانات السياسية، ومن ثَمَّ اعتبر قادة الأمة الألمانية أن توحيد الأمة الألمانية في دولة واحدة هو أبرز وأول واجباتهم؛ لذلك عمدوا إلى استخدام مختلف الوسائل الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية من أجل تحقيق هذه الوحدة، إلى أن تحققت في القرن التاسع عشر، وكان من الأسماء البارزة التي قامت بدور ثقافي الشاعر جوته، ومن الأسماء البارزة التي قامت بدور عسكري بسمارك.

 

أما عن مثال إسرائيل، فمن الواضح أن القرن التاسع عشر هو القرن الذي أعطى اليهود حقوقهم لأول مرة، وساواهم مع سكان أوربا الآخرين على أساس المواطنة، بعد الثورة الفرنسية التي اجتاحت مبادئها عموم القارة الأوربية. وقد نعم اليهود بفضل المناخ الحضاري الجديد بوضع اقتصادي وعلمي واجتماعي لم ينعموا به في أية فترة من تاريخهم في أوربا، ومع ذلك فإن هرتزل اعتبر هذه الأوضاع غير كافية لتحقيق الطمأنينة لليهود، وأنه لن يتحقق ذلك إلا بوجود دولة لهم، واعتبر أن هناك أمة يهودية ولا دولة لها؛ لذلك عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا عام 1897م من أجل تحقيق هذا الهدف، ووضع "إقامة دولة في فلسطين" الهدف الرئيسي لصهاينة العالم.

 

ثم توصلت القيادات اليهودية إلى إقامة دولة إسرائيل عام 1948م، بعد أن طردوا شعبها الفلسطيني، المالك الأصلي والحقيقي للبلاد، واعتبروها دولة جميع اليهود في كل العالم، وأنها مدافعة عن حقوقهم؛ لذلك نجد أنها تتابع شئونهم، وتخطط لتحسين أوضاعهم، وكان آخر ملامح هذا الاهتمام نقل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل في ثمانينيات القرن الماضي.

 

والآن، على ضوء تلك الحقائق التي قدمناها في أهمية الدولة عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعند الأمم المعاصرة، فما هي الصورة في حال أمتنا العربية الإسلامية؟

 

لم يخل تاريخ المسلمين خلال ثلاثة عشر قرنًا من دولة تحمل رسالة الإسلام، وتحفظ كيان الأمة الإسلامية، وتتابع شئونها الدينية والدنيوية، وكانت آخر دولة هي الخلافة العثمانية التي سقطت عام 1924م، وقد أحسَّ المسلمون بالفاجعة؛ لذلك أنشد أحمد شوقي فقال:

يا أخت أندلس عليك سلام *** هوت الخلافة عنك والإسلام

 

وقد اهتم المسلمون بالتأصيل لأهمية الدولة، فكتب محمد رشيد رضا كتاب (الإمامة العظمى) موضحًا ضرورة إعادة تلك الدولة، وقامت حركات متعددة في كل أرجاء العالم الإسلامي من أجل تحقيق هذا الهدف، فكان الإخوان المسلمون في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، وجماعة النور في تركيا، وجماعة أمة الإسلام في إندونيسيا...، لكن لم تستطع أية جماعة أن تحقق هذا الهدف.

 

فماذا كانت نتائج عدم تحقيق دولة؟

 

كانت نتائج ذلك مريعة ومهولة، وهو ما نراه من تقسيم للسودان، وتقسيم للعراق، وتغوُّل من إسرائيل على دول المنطقة، ونهب لثروات أمتنا، واستخفاف بدمائها.

 

ولا يتوقف الأمر عند وجود أضرار لا حصر لها من عدم قيام دولة تعبر عن أمتنا، لكنه يتعدى إلى ظهور مخاطر تهدد كيان الأمة، وكلما تأخرت الدولة ازدادت المخاطر التي تهدد كيان الأمة ووجودها، ومن أبرز المخاطر:

 

أولاً: أن تتحول الأقطار الجديدة إلى أمم جديدة، فهناك تقسيمات سياسية لم تكن معروفة في أية مرحلة من مراحل تاريخنا الماضي، ومع ذلك فإن الخطر أن تتحول هذه التقسيمات السياسية ذات الحدود الجديدة إلى تقسيمات نهائية، فيتحول الأردن إلى أمة أردنية، ومصر إلى أمة مصرية، وسوريا إلى أمة سوريا، واليمن إلى أمة يمنية...، وبذلك تتحول الأمة الإسلامية إلى عشرات الأمم.

 

ثانيًا: أن تتشظى هذه الأمة إلى دول طائفية ومذهبية وعرقية من مثل: دولة للمسيحيين، وأخرى للدروز، وأخرى للأكراد، وهذا ما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه بمعاونة المحافظين الجدد في واشنطن، وتجسدت في عدة خطط رسمتها تلك الدوائر، وكان احتلال العراق هو التنفيذ العملي لهذا المخطط.

 

ثالثًا: تهوين بعض الكُتَّاب الإسلاميين من أهمية وضرورة قيام هذه الدولة، من مثل: الدكتور محمد عمارة، وقوله إن قيام الحكم الإسلامي من الفروع وليس من الأصول، مستدلاًّ على ذلك ببعض أقوال لابن تيمية والغزالي، وعند تعريض أقواله للمناقشة الدقيقة ننتهي إلى أنه استخدم مقولات العلماء السابقين في غير سياقها، واستدل بها على غير ما ذهبت إليه.

 

رابعًا: من المخاطر التي تهدد قيام هذه الدولة، وتضع عراقيل أمامها وقوع بعض الأحزاب والقيادات والشخصيات في ممارسات خاطئة، فتعطي الفرصة للأعداء المتربصين بالأمة أن يستغلوا هذه الأخطاء ويضخموها، ثم تدفع الأمة جميعها الثمن، فتتأخر المعرفة الدينية، ويزداد حجم التشكيك بحقائق الدين، ويُضيَّق على الدعاة ويُحجر عليهم، كما حدث بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م، فلم يقف الاتهام عند القاعدة فحسب، بل اتُّهم الإسلام بأنه دين إرهاب، واتُّهم جميع المسلمين بأنهم إرهابيون، وشُنت حرب دولية باسم (مكافحة الإرهاب) على جميع أبناء الأمة الإسلامية، وسُخِّرت معظم المؤسسات الدولية لخدمة هذا الهدف، مع أنه يفترض أن تُستهدف الجهة التي فعلت أحداث 11 سبتمبر وهي القاعدة، لكن شيئًا من هذا لم يُفعل.

 

خامسًا: من المخاطر التي تهدد قيام هذه الدولة استهداف الأمة بالتفتيت الثقافي من أجل تدميرها وإضعاف فاعليتها، وإن أبرز محاولتين قامتا لتفتيت الوحدة الثقافية وتدميرها في القرن العشرين هما:

 

الأولى: قامت بها الدول القومية في سوريا والعراق ومصر والجزائر والسودان، من خلال اعتبار الدين عدوًّا للنهضة، وعاملاً أساسيًّا في توليد الانحطاط والتأخر؛ لذلك حاولت اقتلاعه من وجود الأمة، سواء أكان ذلك في المرحلة الليبرالية بعد الحرب العالمية الأولى، أم في المرحلة الاشتراكية بعد الحرب العالمية الثانية في الستينيات.

 

والثانية: تقوم بها إيران -الآن- بنشر المذهب الشيعي في مناطق ذات وجود سني طاغ من مثل مصر والمغرب العربي وغيرها؛ مما يؤدي إلى الاصطراع المذهبي الذي يفتت وحدة الأمة الثقافية. ومما يؤسف له أن إيران تتعاون مع أمريكا في هذا المجال، وخير مثال يوضح ذلك ساحة العراق، فهي قد تعاونت مع أمريكا في احتلال العراق، ودفعت القيادات الشيعية في العراق إلى التعاون مع أمريكا، وكانت ثمرة ذلك تدمير العراق، وتأجيج الصراع الطائفي، وتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات: كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب.

 

الخلاصة: إن كون أمتنا بلا دولة جعلها تعيش ضياعًا وخسارات ومتاهات وتهديدات مستمرة، وإن جماهير هذه الأمة بدون هذه الدولة أضيع من الأيتام على مآدب اللئام، وإن قيام هذه الدولة التي تعبر عن هذه الأمة هو الذي يحفظ للأمة كيانها وثرواتها وثقافتها، ويجعلها ذات شأن من أجل أن تؤدي دورًا حضاريًّا إيجابيًّا كما فعلت ذلك في السابق.


: الأوسمة



التالي
تأملات في سقوط الأندلس (محمد شعبان أيوب)
السابق
ثورة من نوع آخر

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع