البحث

التفاصيل

البطانة

الرابط المختصر :

د.سعيد حارب.. عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

في أحد المؤتمرات بدولة عربية، ألقى مدير إحدى المنظمات العربية كلمته الرسمية التي تمثل منظمته، وبعد المقدمات انتقل المدير لمدح المسؤول الذي كان حاضرا، وكال له المديح بصفة فاقت ما يمكن تصوره، بينما كان المسؤول مطأطئاً رأسه إلى الأرض، وحين جاء دوره لإلقاء كلمته، بدأها بشكر من مدحه، لكنه أضاف: «الآن عرفت لماذا يصاب كثير من المسؤولين العرب بالغرور والكبرياء!»، وكأنه يوجه رسالة إلى ذلك المتحدث، وفي الاستراحة بعد جلسة الافتتاح لم يكن من حديث للمشاركين سوى ذلك الموقف حتى قال أحدهم مازحا: «لو قيل لي نصف ما قيل للمسؤول لظننت أني نبي يوحى إليَّ!»، فكيف يمكن لمدير منظمة تتولى شأنا مهما أن ينزل إلى هذا المستوى من المديح الذي لا يناسب الموقف، كما أنه ليس بحاجة إلى ذلك، ولم يطلب منه أحد أن يفعل ذلك؟

تذكرت هذه الحادثة التي شهدتها قبل سنوات وأنا أتابع -كغيري- ما آل إليه حال بعض المسؤولين المصريين والتونسيين الذين تمت «جرجرتهم» إلى التحقيق والمحاكم والسجون، فقد شارك هؤلاء في الحالة التي وصل إليها النظام السابق، حين كانوا يرسمون صورا «وردية» عن أوضاع بلادهم، وقاموا بعملية تضليل لحكامهم ولشعوبهم حتى تراكمت الأخطاء وأدت إلى تلك النهاية، وهي حالة تتكرر في أكثر من موضع في البلاد العربية، ويبدو أنها جزء من ثقافة «المديح» العربية التي شاعت في الأدب العربي، فقد كان المديح جزءا مهما من أغراض الشعر العربي خلال تاريخه الطويل، فكُتب الأدب تصف كيف كان الشعراء يقفون أمام الخليفة يصفونه بما فيه وبما ليس فيه، حتى قال قائلهم وهو «محمد بن هانئ الأندلسي» للخليفة المعز لدين الله الفاطمي:

ما شئتَ لا ما شاءت الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهار!

جلّت صفاتك أن تُحدَّ بمِقولٍ ما يصنعُ المِصداقُ والمِقدار؟

واللهُ خصك بالقُرَانِ وفضله وا خجلتي ما تبلغُ الأشعار!


فالشاعر يعتذر بعد هذا «النفاق» عن عجز شعره عن بلوغ ما يريد من مدحه، وفي العصر الحديث يقف من يقول لأحد الزعماء: «لولاك ما سقط المطر.. لولاك ما طلع الشجر.. لولاك ما بزغ القمر.. لولاك يا «....» ما خُلق البشر)!.

وإذا كان الدجالون قديماً يتمثلون في صور الشعراء والأدباء والبطانة، فإن حالهم اليوم قد اتسعت وتعددت صورها، وقد أسهم تطور الحياة في إيجاد نماذج من هذه البطانة التي لا تتردد عن فعل أي شيء طلبا لرضا المسؤول ولو كان ذلك على حساب المبادئ والقيم. لقد ألف أحد الزعماء كتابا أخضر يعبر فيه عن أفكاره، ويتحدث فيه عن أن المرأة تحيض والرجل لا يحيض! ومن حق أي إنسان أن يكتب ما يشاء ويطرحه على الناس ليقرروا مدى استحسانهم لما كتب أو رفضهم له، لكن الذي لا يمكن أن يتصوره الإنسان أن ينبري علماء وأساتذة جامعات ليناقشوا الأفكار «العظيمة» التي جاءت في الكتاب، فهناك العشرات من الدراسات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياسية عن «النظريات» التي جاءت في هذا الكتاب، بل هناك أقسام في بعض الجامعات عن الدراسات التي تمت حول هذا الكتاب، وحين كتب رواية اسمها «الفرار إلى جهنم!» جُمع الروائيون والنقاد والأدباء من أنحاء العالم العربي ليناقشوا «الإبداع» الأدبي الذي تضمنته هذه الرواية، ومن لم يتمكن من الحضور تمت مشاركتهم على الهواء مباشرة عبر الأقمار الصناعية ليسهموا في «إثراء» الحوار حول هذا الإبداع!

واليوم تتكرر بعض صور هؤلاء على شاشات التلفزيون وعبر وسائل الإعلام والاتصال, وهم يقومون بدور المروّج للجرائم التي يقوم بها بعض الزعماء من قتل وسحق لشعوبهم التي تطالب بالحرية والكرامة، فقد شاهدت أحدهم يعلق على مشاهد لبعض الجنود وهم يقومون بضرب وإهانة المعتقلين وإلقائهم على الأرض ودوسهم والوقوف على بطونهم وظهورهم، وحين جاء دور المتحدث -وهو أستاذ جامعي- أنكر أن يقوم رجال أمنه بذلك, وقال إن من شاهدتموهم إنما هم جنود البشمركة الأكراد! إن هؤلاء وأمثالهم يسهمون في تقصير عمر أنظمتهم لأنهم يعملون على زيادة التوتر الاجتماعي والمشكلات السياسية في بلدانهم، خاصة إذا كان هؤلاء قريبين من متخذي القرار أو كانوا من البطانة التي تقوم بدور المساندة لهم، فإن دورهم يزداد خطورة حين «يحسِّنون» الواقع ولا ينقلون الحقائق، بل ربما حجبوها عن المسؤول، مما يزيد التباعد بينه وبين شعبه حتى تتحول الشقة إلى شقاق، والاختلاف إلى خلاف، ثم يأتي صراع تكون نتائجه كارثة على الأوطان، إننا نُعَظِّم من دور المسؤول، لكننا نتجاهل البطانة التي تصنع بيئة حول هذا المسؤول تحقيقا لمصالحها أو استمرارا في مناصبها ومواقعها، أو محاولة لكسب رضاه ولو كان ذلك بإخفاء الحقائق عنه أو تحريفها أو تزويرها، وحين تقع الكوارث يتم «التلاوم» ويلقي كل طرف بالمسؤولية على الآخر.

إن مسؤولية البطانة لا تقل عن متخذي القرار, فهم شركاء في صنع الواقع بإيجابياته ومشكلاته، لقد كان البعض يظن أن «الدعاء» بالبطانة الصالحة للمسؤول نوع من الممارسة الدينية أو الوعظية، لكن الواقع أثبت أن هذه البطانة إما أن تقود مجتمعاتها على الاستقرار والأمن وإما أن تقودها إلى عواصف هوجاء تعصف بالجميع.


: الأوسمة



التالي
كلمات نبوية لبناء الدولة الإسلامية
السابق
الوحدة تحمي الأمة من التهديدات الخارجية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع