البحث

التفاصيل

رمضان والمصالحة

بيروت/ موقع الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]. شهر رمضان شهر تجديد الإيمان، شهر تدارك المسلم ما فاته من تفريط في جنب الله. فيه يحاول كلّ مسلم أن يتطهر من سيّئاته، وأن يضاعف من حسناته..... فهذا الشهر فرصة ليشحن المسلم بطاريته الروحيّة والإيمانيّة التي فرغت، أو أوشكت أن تفرغ من الغفلات واتّباع الشهوات وإضاعة الصلوات.

فيه فرصة ليخرج المسلم مغفور الذنوب من هذا الشهر الكريم، فـ"من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه". إنّها فرصة للتطهّر والغفران..

ويا خيبة مَنْ أتاه هذا الموسم ولم يظفر منه بمغفرة، هذا هو الشقيّ.. الشقيّ من جاءه رمضان ولم يُغفر له، دعا جبريل، وأمَّن عليه محمّدٌ : "بُعدًا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له". هكذا قال جبريل، وقال محمد : "آمين". فيا ويل مَنْ دعا عليه جبريل وأمّن على دعائه محمّدٌ عليه الصلاة والسلام، أمين السماء وأمين الأرض! شهر رمضان فرصة للتطهّر والغفران، وقد ورد في حديث: أنّ النبي قال يومًا وقد حضر رمضان: "أتاكم رمضان شهر بركة، يغنيكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل". فتنافسوا في الخيرات، لمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.. الشقيّ مَنْ حُرِم رحمة الله في رمضان.

>>بين استعداد السلف واستعدادنا<<

ولذلك كان السلف الصالح إذا أقبل رمضان يقولون: مرحبًا بالمطهِّر! الذي نتطهّر فيه من الذنوب والخطايا؛ ولذلك كانوا يتأهّبون لرمضان، أمّا نحن فنتأهب لرمضان ونستعدّ له بإحضار ما لذّ وطاب من الطعام والشراب. انظر إلى الناس في الأسواق والجمعيّات ماذا يعدُّون لرمضان؟! المسلمون يأكلون في رمضان وينفقون في رمضان أضعاف ما ينفقون في الشهور الأخرى، فليس هو شهرًا للإعداد للتقوى كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. لعلكم تتهيّئون للتقوى بهذا الصيام، وتتعلمون فيه مراقبة الله . فالمسلم يصوم عن الطعام والشراب كما في الحديث القدسيّ: "يدع الطعام من أجلي، ويدع الشراب من أجلي، ويدع لذّته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي".

>>الصيام الحقيقي<<

الذي يفطم نفسه عن الشهوات التي كانت حلالاً له أولى به أن يفطم عن الحرام في شهر رمضان. ليس الصيام أن يصوم بطنك وفرجك، وكلّ جوارحك مفطرة: لسانك يفطر على الكذب والغيبة والنميمة والسّبّ والشتيمة، وعينك تفطر على رؤية الحرام في الطرقات أو في التلفزيون، وكذلك أُذُنُك تفطر على سماع الأغاني الخليعة والكلمات البذيئة.. لا بدّ أن يصوم كلّك عمّا حرّم .

فرمضان شهر لتربية الإرادة: شهر الصبر، الصبر يعني قوّة الإرادة، فلا بدّ أن نتعلم من رمضان كيف..؟ كيف تقوى إرادتنا؟ لا بدَّ أن نهيِّئ أنفسنا لتقوى الله في شهر رمضان؛ لنرتقي بأرواحنا.. بأنفسنا، لننافس الملائكة ويباهي الله بنا الملائكة.

>>الفهم الخاطئ عن رمضان<<

أرى المسلمين أساءوا فهم شهر رمضان، فهناك من ظنُّوا أنّ شهر رمضان شهر الكسل والبطالة، وهناك من ظنّوا أنّ شهر رمضان هو شهر الأكل والشرب طول الليل، والنوم طول النّهار، وهناك من اعتقدوا أنّ شهر رمضان شهر السهرات المباحة (النّعنشة والفرفشة) شهر الفوازير المائعة، وهناك من اعتقد أنّ شهر رمضان شهر السّباب والشّجار، يسبّ الإنسان صاحبه ثمّ يقول الناس: اعذروه؛ فإنّه صائم! كأنَّ الإسلام شرع الصيام ليفسد الأخلاق، والنبي يقول: "والصيام جنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إنّي امرؤ صائم" يقولها في نفسه، ويقولها لصاحبها، إنّي صائم فلا ينبغي أن أخرق الصيام وأن أجرح الصيام.. حتى إنّ بعض علماء السلف قالوا: إنّ مثل هذه الأشياء -من السّباب والغيبة والنّميمة والكذب- تفطِّر الصائم، أي كأنّما أكل أو شرب، وعليه أن يعيد يومًا بدل هذا اليوم. وقال جمهور العلماء: لا، هي لا تفطِّره، ولكنّها تضيّع أجره. فما أحمق هذا المسكين الذي يظلُّ جائعًا عطشان يومًا كاملاً ثم لا ينال من الأجر مثقال ذرّة!! ضيّع ثوابه وأجره بهذا الهُراء.

>>فاستبقوا الخيرات<<

نحن في حاجة إلى أن نستبق الخيرات، وأن نفطم النّفوس عن الشهوات، وأن نسابق في عمل الصالحات، وأن نصوم فنحسن الصيام، ونقوم فنحسن القيام.. أنا أسمِّي رمضان: ربيع الحياة الإسلاميّة، فيه تتجدد العقول بدروس العلم والمعرفة، وفيه تتجدّد القلوب بالإيمان والعبادة، وفيه تتجدّد الأسرة بالتلاقي والترابط، ويتجدّد المجتمع كلّه بحسن الصلة والبحث عن الفقراء والمساكين وإطعام الجائعين. فلا بدّ أن نستفيد من هذا الرَّبيع وبالحياة الإسلاميّة الإيمانيّة. وما أحوجنا، ثمّ ما أحوجنا، إلى أن نستفيد من رمضان وروحانيّة رمضان والجوّ الرباني في رمضان، ما أحوجنا إلى ذلك في أيامنا هذه، والإسلام يُهاجم من كلّ جانب، وأمّة الإسلام في أسوأ أحوالها، تمزُّق وتشرذم وضياع وهوان واستخذال أمام الأعداء.

الأمّة التي كان لها ماضٍ مزدهر، الأمّة التي كان خليفتها يتحدى السّحابة في السماء، هذه الأمّة أصبحت تستخذل وتستسلم أمام الأعداء، هذه الأمّة أصبحت في مرحلتها الغثائيّة: ".. ولكنّكم غثاء كغثاء السّيل"، الغثاء الذي يجمع أشياء غير متناسبة وغير متناسقة: خشبٌ وحطبٌ وقشّ وورق وعيدان، ولا تناسق بينها، وكلّها خفيفة سطحيّة، لا تنزل إلى الأعماق، وليس لها هدف تسعى إليه ولا مجرى معلوم تمشي فيه.

هذه هي الأمّة في مرحلة الغثاء، ليس لها هدف واضح، ولا طريق معلوم.. الأمّة في هذه المرحلة في حاجة إلى أن تتلقّى دروسًا من رمضان، وتستفيد من هذا الشهر الكريم، الذي وقعت فيه وقائع بين المسلمين وأعدائهم، انتصر فيها هذا الدين، وعلتْ كلمة الإيمان وارتفعت راية القرآن..

بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]. وفتح مكّة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنه كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1-3]. ومعركة عين جالوت: التي انتصر فيها المسلمون على التتار في الخامس والعشرين من رمضان سنة 658هـ. ومعارك شتّى طوال التاريخ الإسلاميّ، حدثت في شهر رمضان. فعلينا أن نستفيد من شهر رمضان.. أن نغذِّي فيه أرواحنا بالإيمان واليقين.. أن نقوِّي الصلة فيه بربنا.. أن نستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

لقد هانت هذه الأمّة على نفسها، فهانت على ربّها، فهانت على أعدائها فما عادوا يقيمون لها وزنًا، ولا يرعون لها حُرمة، ولا يرقبون فيها إلاًّ ولا ذمة. الأمّة في حاجة إلى أن تضع يدها في يد الله، الأمّة في حاجة إلى أن تتداوى من داء الغفلة؛ فشرّ ما أصاب أمّتنا في هذه الفترة هو: الغفلة، والغفلة داء وبيل، وداء عُضال. الله تعالى يقول لرسوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205] لا تغفل عن ربك. {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. لا يمكن أن تنتصر هذه الأمّة وقد نسيت ربّها، فأنساها أنفسها {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]. فلا بدّ أن تذكر الأمّة ربّها ولا تيئس من روح الله.. في ساعات الشدائد لا يذكر الإنسان إلاّ ربّه، ويقول ما قال ذو النّون حينما التقمه الحوت: {أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] نادى في الظلمات: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. هل يظنّ أحد ابتلعه الحوت أن ينجو؟ ولكنّ يونس -ذا النّون- لم ييئس وقد التقمه الحوت وأصبح بطن الحوت قبرًا له، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88، 89]؛ ولذلك جاء في الحديث: "دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين، فإنّه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قطّ إلاّ استجاب الله له".

لا تيئس من روح الله

لا تيئس من روح الله، مهما نزل بك من الشدائد، ومهما أحاط بك من المصائب، اعلم أنّ هناك ربًّا يسيّر هذا الكون، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، خلق الأسباب، ولكن لا تحكم عليه الأسباب، يستطيع أن يفعل بسبب، ويستطيع أن يفعل بغير سبب، ويستطيع أن يعطِّل الأسباب، فيجعل النّار لا تحرق، ويجعل البحر لا يغرق، إنه الله . يجب أن نتعلّم من رمضان: أن نضع أيدينا في يد الله وأن نقول: يا ربّ.. يا ربّ الأرباب، ويا مسبِّب الأسباب، ويا مالك الملك، يا مَنْ تعزُّ مَنْ تشاء وتذلُّ مَنْ تشاء، اقهر أعداء الإسلام، ونجِّ هذه الأمّة من الغمّ والهمّ والكرب العظيم. ما أحوجنا في شهر رمضان إلى أن نبسط أكفّنا بالضراعة إلى الله، شاعرين بالحاجة والاضطرار، وهو يجيب المضطرّ إذا دعاه، إذا دعوناه مضطرّين أجابنا.

رمضان والمصالحة

ما أحوجنا إلى أن نستفيد من شهر رمضان لنصطلح مع الله، لا بدّ من مصالحة مع الله، ولا بدّ أن نعقد مصالحة مع أنفسنا، لا بدّ أن تتصالح هذه الأمّة المتصارعة فيما بينها، التي مزّقتها الفرقة ومزّقها التشرذم. هذه الأمّة قوّة كبيرة! ولكنّها قوّة مقطّعة الأوصال، قطّعتها العصبيّات والأيديولوجيّات والأهواء والشهوات.

يجب أن يتصالح الحكّام بعضهم مع بعض، (وأن ينسوا آثار حرب الخليج التي مزّقت الأمّة)، ويجب أن يصطلح الحكّام مع الشعوب، وأن يردموا هذه الهوّة التي جعلت الحكّام في وادٍ والشعوب في أودية.

يجب أن تصطلح الأمّة، تصطلح النّخب والجماهير، ويصطلح الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، الإسلاميّون والقوميّون، الإسلاميّون بعضهم مع بعض. هذا أوان التلاحم بين الجميع، وأن يكونوا كالبنيان المرصوص؛ لأنّنا في وقت معركة، ووقت المعركة لا مجال فيها للخلاف والتفرّق {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. لا بدّ أن نصطلح مع أنفسنا، لا بدّ من مصالحة عامّة تجنِّد الأمّة كلّها في المعركة. ولا بدّ من مصالحة بعد ذلك، وقبل ذلك، مع (الله) ؛ فهو مصدر قوّتنا، وهو الذي نلجأ إليه عند الشدائد والكربات، فيقوِّي الضعيف، ويأخذ بأيدي الفقير، ويمدّ بالنّصر والقوّة ويُنْزل الملائكة {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9].

من شر أمراض الأمة

شرّ ما أصيبت به هذه الأمّة في فترتها الأخيرة: الغفلة، الغفلة عن الله، والغفلة عن الآخرة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناس لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7]. الغفلة عن الآخرة: أن يعيش الإنسان في يومه وينسى غده، ينسى مستقبله، ينسى قضيّته المصيريّة الأولى: أهو من أهل الجنّة أم من أهل الناّر؟ النّاس غفلوا عن الآخرة، واستغرقتهم الدنيا، عاشوا في وَحَلِ الدنيا وفي طين الدنيا، أذهلهم الطين عن الدين، وأذهلتهم الأولى عن الآخرة، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38]،{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

الغفلة عن الآخرة، والاستغراق في الدنيا، والركون إليها هي الآفة. اتّخذنا الدنيا ربًّا فاتّخذتنا الدنيا عبيدًا لها، خدمنا الدنيا فجعلتنا خُدّامًا لها. والواجب أن يملك المؤمن الدنيا ولا تملكه، أن يعيش فيها ولا تعيش فيه، أن يجعل الدنيا في يده ولا يجعلها في قلبه، أن يكون أكبر همِّه ومبلغ علمه (الآخرة) وليست الدنيا {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 29، 30]، {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعـات: 37-39]. ثمّ الغفلة عن سنن الله في الآفاق والأنفس، في الكون والمجتمع. غفلنا عن هذه السنن، عمل بها أعداؤنا فكسبوا الدنيا، وأهملناها فأضعنا الدنيا وأضعنا الدين. عمل أعداؤنا بمراعاة سنن الله في الأسباب والمسببات، فتقدّموا وتخلّفنا، وتعلّموا وجهلنا، ونظّموا أمورهم وأصبحت أمورنا فوضى. ومن سنن الله: ألاّ ينتصر الجهل على العلم، ولا الفوضى على النّظام، ولا القوّة على الضعف، ولا التلاحم على التفرُّق. فينبغي أن ننظر في سنن الله I.. لماذا قوي أعداؤنا ولماذا ضعفنا؟ هذا ليس عبثًا، إنه يجري وفق قوانين لا تتبدّل ولا تتخلّف. نقول: أعداؤنا يخطِّطون ضدَّنا، ويفعلون كذا وكذا! فإلى متى نظلُّ نقول هذا؟ إلى متى يخطِّط لنا أعداؤنا ولا نخطِّط نحن لأنفسنا؟

الغفلة

إنّ هذه الغفلة هي التي خرّبت القُوى العقليّة، وخرّبت الحواس التي نطلّ بها على الكون والحياة، وهي أدوات تعليمنا؛ ولذلك يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]. هؤلاء حطب جهنم لهم قلوب لكنّهم عطّلوها {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. إنّها الغفلة التي تجعل أصحابها كالأنعام بل أضلّ من الأنعام سبيلاً؛ لأنّ الأنعام لم تؤتَ ما أوتوا من عقول ومواهب وقوى روحيّة وعقليّة. ثم إنّ الأنعام تؤدِّي وظائفها، هل رأيت بقرة تمرّدت أن تُحلب، أو رأيت حمارًا تمرّد على أن يُركب؟ هي تؤدِّي وظائفها.

ولكن الإنسان -الذي خلقه الله تعالى لعبادته تعالى ولعمارة الأرض ولخلافته في هذه الأرض- لم يؤدِّ وظيفته؛ لذلك كان هؤلاء كالأنعام بل هم أضلّ من الأنعام سبيلاً {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. نحن على أبواب رمضان، شهر القرآن.. شهر تجديد الإيمان.. ربيع الحياة الإسلاميّة.. الشهر المطر؛ فعلينا أن نستفيد منه، أن نشحن البطاريات فيه، أن نتزود بالتقوى، أن نخرج من هذا الشهر الكريم وحظّنا منه: الرحمة والمغفرة والعتق من النار.


: الأوسمة



التالي
القرضاوى رمز للاعتدال.. فلماذا ترفضونه؟
السابق
مفارقات بين الديمقراطية الحقيقية والمزيفة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع