البحث

التفاصيل

المتفائلون في زمن اليأس (سلمان بن فهد العودة)

الرابط المختصر :

التفاؤل هو توقع الخير، وهو الكلمة الطيبة تجري على لسان الإنسان. 

والتفاؤل كلمة، والكلمة هي الحياة! 

والتفاؤل هو الحياة، وعند الترمذي وابن خزيمة بسند حسن عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا". 

وهذا الحديث الشريف نص في أثر الكلمة واللسان والتفاؤل اللفظي على حياة الإنسان. ومن هنا يصحُّ أن نقول: ما تقولُه تكونه، وما تريد أن تكونَه فعليك أن تقوله على لسانك. 

فالذين يريدون أن يعيشوا حياة طيبة ناجحة سعيدة؛ عليهم أن يُجْرُوا هذا على ألسنتهم، ليكون عادةً لفظية لهم فلا يسأم الواحد منهم أن يردد: أنا مُوفَّق، أنا سعيد. 

النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل باللغة وألفاظها الجميلة؛ جاء إلى المدينة وهم يسمُّونها يثرب وهو اسم لا يخلو من إيحاءات سلبية، فسمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم "طابة" أو "طيبة" من الطيب والخير. 

وفي صحيح مسلم أنه سأل عن فتاة: ما اسمها؟ قالوا: عاصية. فقال صلى الله عليه وسلم: "لا، هي جميلة". 

وهنا لا يفوت الملاحظ أن يدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمّها مطيعة، وإنما سماها "جميلة"، وكلا الاسمين ذو دلالة إيجابية، لكنه صلى الله عليه وسلم أشاد هنا بالجمال، وأراد أن يبين أنه أحد الأوصاف الحسنة. 

والجمال يشمل فيما يشمل جمالَ الظاهر والباطن، وجمال الخَلق والشكل، وجمال الخُلُق والمعنى، وجمال الجسد وجمال الروح. 

وحين كان يسأل رجلاً عن اسمه؛ فقال: حَزْن. قال: "بل أنت سهل".كما في صحيح البخاري. 

وهذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب اليسر والسهولة، ويكره الحزونة والثقل والارتفاع. 

وعند أبي داود أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر اسْمَ الْعَاصِ وَعَزِيزٍ وَعَتَلَةَ وَشَيْطَانٍ وَالْحَكَمِ وَغُرَابٍ وَحُبَابٍ وَشِهَابٍ؛ فَسَمَّاهُ هِشَامًا، وَسَمَّى حَرْبًا سلْمًا، وَأَرْضًا تُسَمَّى عَفِرَةَ سَمَّاهَا خَضِرَةَ، وَشِعْبَ الضَّلاَلَةِ سَمَّاهُ شِعْبَ الْهُدَى، وبَنِي مُغْوِيَةَ سماهم بَنِي رِشْدَةَ. 

فغيَّر العاصي كراهية لمعنى العصيان، وإنما سمة المؤمن الطاعة والاستسلام. 

وأما عَفِرَة فهي نعت الأرض التي لا تنبت شيئًا؛ فسمّاها خضرة على معنى التفاؤل حتى تخضر. 

وتغييره اسم حرب دليل أيضًا على كراهيته للحرب وتداعياتها وأثرها إلا حين تكون فرضًا مفروضًا لا مندوحة عنه. 

وقمّةُ التفاؤل اتصال القلب بالرب جل وتعالى، فالصلاة تفاؤل والذكر تفاؤل؛ لأنه يربط الفاني بالحي الباقي، ولأنه يمنح المرء قدرات واستعدادات وطاقات نفسية لا يملكها أولئك المحبوسون في قفص المادَّة. 

الدعاء تفاؤل؛ فإن العبد يدعو ربه فيكمل بذلك الأسباب المادية المتاحة له.

 

وإني لأدعو اللَّهَ حتى كأنَّما *** أرى بجميلِ الظنّ ما اللَّهُ صانِعُ

 

إن الدعاء ليس عبادة فحسب ولكنه تربية؛ فالإنسان حين يدعو ويردد هذه الألفاظ يتربى على معانيها، يتربى على أن هذا الدعاء يستخرج طاقاته الكامنة وإمكاناته المذخورة وقدراته المدفونة، ويحرك فيه الإحساس بالمسئولية. 

الدعاء ليس تواكلاً ولا تخلصًا من التبعة وإلقاءً بها، وإنما هو تحمل للمسئولية ومشاركة فيها بكل الوسائل. 

حسن الظن بالله تعالى هو قمة التفاؤل؛ حسن الظن فيما يستقبل فيحسن العبد ظنه بربه. 

حسن الظن في الحاضر؛ فلا يقرأ الأحداث والأشخاص والمجتمعات قراءةً سلبية قاتمة، وإنما يقرؤها قراءة إيجابية معتدلة تُعنى بالجانب الإيجابي وإبرازه والنظر إليه والحفاوة به بقدر ما تعنى برؤية الجانب السلبي برحمة وإشفاق وسعي وتصحيح. 

فالتفاؤل إذن شعور نفسي عميق واعٍ، يوظف الأشياء الجميلة في أنفسنا ومن حولنا توظيفًا إيجابيًّا. 

حين تسمع أحدًا يصيح: يا سالم يا موفق يا سعيد... إلى آخره؛ تستشعر كأن القدر ساق إليك هذه الألفاظ والعبارات؛ لتفرح بها وتتفاءل وتقول: حياتي إذن سعيدة، ومسعاي موفق، وطريقي سالم. 

إن الشؤم تراث ضخم في حياة البشرية كلها، ولكل شعب من الشعوب -كما تحكي كتبهم- تاريخ طويل من التشاؤم؛ تشاؤم بالأرقام كما يتشاءم الإنجليز وغيرهم بالرقم ثلاثة عشر، ويستبعدونه حتى في الطائرات وغيرها. 

التشاؤم بالحيوانات، كالقطط السود والكلاب السود.. أو غيرها، أو بالنباتات كما كان العرب يتشاءمون بالسفرجل أو بالسوسن، أو بالأشكال كما يتشاءمون بلون السواد، وهذا نوع من العنصرية في الألوان!! 

أو كما يتشاءمون من الأعور أو الأعرج.. أو غيرهم. 

التشاؤم من الأسماء؛ حتى إن القلوب المريضة بالتشاؤم قد تقلب الاسم الجميل قبيحًا وتتشاءم به، كما يقال عن ابن الرومي أنه جاءه غلام يدعوه فقال: ما اسمك؟ فقال: إقبال. فتشاءم وقال: لا أذهب. قالوا له: لم؟ قال: لأن نقيض اسم إقبال وعكسه: لا بقاء! 

يتشاءمون من الأجواء.

 

قـال السمـاءُ كئيبـةٌ وتجهمـا *** قلت ابتسم يكفي التجهمُ في السما

 

يتشاءمون من الأحلام التي يرونها في المنام؛ فتسيطر على يقظتهم وتؤثر في نفسياتهم وفي قراراتهم. 

يتشاءمون من العقبات والعوائق التي قد تعترض طريقهم؛ فإذا وجد الإنسان مشكلةً في بداية عمله أو دراسته أو حياته الزوجية أو سكنه في المنزل الجديد أو علاقته الشخصية مع فلان أو فلان؛ تشاءم منها وظن أن الطريق كله طريق شائك شاق، ونسب الأمر إلى حسد أو عين أو سحر، وأي خلاص أو سعادة لإنسان يحسُّ بأن الشر ممنوح له ينتظره في كل مكان! 

ولو أن هذا الإنسان تدرب على الصبر والأناة وحسن الظن، وأدرك أن من طبع الحياة أنها لا تصفو أبدًا، وأن الذي يحاول الأشياء الجديدة يحتاج إلى صبر وأناة حتى يفهم سرها ويدرك سنتها ويعرف مفاتحها، لوجد أن من الأمر المألوف أن توجد العقبات في بداية الطريق.

 

سَهِرَت أَعيِنٌ وَنامَـت عُيـونُ *** فـي أُمـورٍ تَكـونُ أَو لا تَكـونُ
فَاِدرَأِ الهَـمَّ مـا اِستَطَعــتَ *** عَن النَفـسِ فَحِملانُكَ الهُمومَ جُنونُ
إِنَّ رَبًّا كَفاكَ بِالأَمسِ مـا كـا *** نَ سَيَكفيـكَ في غَـدٍ ما يَكـونُ

 

إن على المرء أن يدرك أن للحياة وجهين؛ فليكن له وجه واحد كما يقول المتنبي:

 

وَحالاتُ الزَمانِ عَلَيكَ شَتّى *** وَحالُكَ واحِدٌ في كُلِّ حالِ

 

وإذا كانت الحياة عندك في هذا المساء قد شابها بعض الكدر والعذاب، فانتظر الصباح فإن غدًا لناظره قريبُ.

 

بودادي عليك هون عليك الأمر *** لا بـد من زوال المصــابِ
سوف يصفو لك الزمانُ وتأتيك *** ظعـون الأحبــة الغيّـاب
وليـالي الأحـزان ترحــل *** فالأحزان مثل المسافر الجـواب

 

ثانيًا: إن التفاؤل يعين على تحسين الصحة العقلية؛ فالمتفائل يرى الأشياء جميلة يرى الأشياء كما هي؛ فيفكر باعتدال ويبحث عن الحلول ويحصد الأرباح والمكاسب، بعيدًا عن سيطرة الوهم والخوف والتشاؤم. 

يعين على تحسين الصحة النفسية؛ فالمتفائل سعيد يأكل ويشرب وينام ويستمتع ويسافر ويشاهد ويسمع ويبتسم ويضحك ويجدّ دون أن يمنعه من ذلك شعور عابر من الخوف أو التشاؤم. 

التفاؤل يعين على تحسين الصحة البدنية؛ فإن النفس تؤثر على الجسد، وربما أصبح الإنسان عليلاً من غير علة، ويا لها من علة؛ أن تكون النفس مسكونةً بهواجس القلق والتشاؤم وتوقُّع الأسوأ في كل حال.

المتفائل يعيش مدةً أطول، وقد أثبتت الدراسات أن المُعَمَّرين عادةًً هم المتفائلون في حياتهم، وفي نادٍ أقيم في كوبا حضره عدد من المُعَمَّرين الذين تجاوزت أعمارهم مائة وعشرين سنة، تبيَّن أن هؤلاء جميعًا تلقوا الحياة بقدر من التفاؤل. 

لكن واخيبتاه! المتشائم حين يقرأ أو يسمع مثل هذه الأخبار، يقول بأسفٍ: وأي حاجة لي في مائة وعشرين سنة أعيشها، يكفي ما عشته، يكفي أن أعيش هذه الأيام الكئيبة الحزينة. 

إنه قد حكم على نفسه بالموت البطيء، ووضع على عينيه نظارات سودًا؛ فهو لا يرى إلا القبيح.

 

أيهذا الشاكي وما بك داء *** كن جميلاً تر الوجود جميلا

 

التفاؤل يقاوم المرض، وقد ثبت طبيًّا أيضًا أن الذين يعيشون تفاؤلاً هم أقدر من غيرهم على تجاوز الأمراض وحتى الأمراض الخطيرة، فلديهم قدرة غريبة على تجاوزها والاستجابة لمحاولات الشفاء. 

المتفائل يسيطر على نفسه ويشارك في صناعة مستقبله بشكل فعَّال وكفء؛ فهو يؤمن بالأسباب ويؤمن بالحلول، كما يؤمن بالمشكلات والعوائق. 

المتفائل ليس أعمى ولا واهمًا يعيش في الأحلام، وإنما هو واقعيٌ؛ يدرك أن الحياة -بقدر ما فيها من المشكلات- يوجد إلى جوارها الحلول، وبقدر العقبات فهناك الهمم القوية التي تحوِّل أبدًا المشكلة والأزمة إلى فرصة جميلة. 

المتفائل ينجح في العمل؛ لأنه يستقبله بنفس راضية وصبر ودأب، ويعتبر أنه في مقام اختبار، وهو مُصِرّ على النجاح. 

وينجح في التجارة؛ لأنه يستقبل مشاريعه ومحاولاته برضا وثقة وطمأنينة، ويحسب خطواته بشكل جيد. 

ينجح بالزواج؛ لأن لديه القابلية الكبيرة على الاندماج مع الطرف الآخر والتفاهم وحسن التعامل، والاستعداد للاعتذار عند الخطأ، والتسامح عند خطأ الطرف الآخر. 

ينجح في الحياة؛ لأنه يعتبر أن الحياة بصعوباتها هي فرصة للنجاح، وإثبات الذات، وتحقيق السعادة. والناجح لا يتوقف عن العمل أبدًا بل هو في عمل دءوب، وقد قال الله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. 

فالمتفائل في عمل دائب قد يكون عمل البدن، وقد يكون عمل اللسان، وقد يكون عمل الروح، وقد يكون عمل العقل، ولا يمكن التقليل من أيٍّ منها. 

التفاؤل جملة في مواجهة الصعاب؛ فإن الحياة مطبوعة على الكدر:

 

طُبِعَتْ على كَدَرٍ وأنت تريدها *** صفوًا من الأقذاءِ والأكدارِ

 

لكن الذي خلق الصعاب هو الذي يعين العبد إذا استعان به, وهو الذي أودع بقوى الإنسان المذخورة القدرةَ على الصبر والتحمل عند الكثيرين من الناس. 

إن العبد قد يكون صبورًا بطبعه وقدرته على استخراج قوى النفس حتى لو كان بعيدًا عن هدي السماء, ولقد رأينا أبا جهل وهو يجندل صريعًا في المعركة كيف صبر! وقال: لمن الدائرة اليوم؟ فكان يسأل عن نهاية المعركة ونتيجتها -كما في البخاري- ويقول: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ! 

ونحن نجد اليوم ممن كانوا غير مؤمنين بالله تعالى, من زلّت بهم القدم, فوقعت أرجلهم في مصيدة: في تعذيب, أو قتل أو سحل, أو سجن؛ فأحسوا بالحاجة إلى الصبر والمصابرة, واستخرجوا قوى النفس؛ فحصلوا من ذلك على قدر جيد. فكيف لمن كان يستمد من قوة الله العظيم القادر جلَّ وتعالى, ويقبس من هديه, ويتلو كتابه, ويتلمس آثار محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصبر والمصابرة والرضا والتوكل! 

"إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي, ولكن عافيتك هي أوسع, أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات, وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ أن يحل عليَّ غضبك, أو ينزل عليَّ سخطك, لك العتبى حتى ترضى, ولا حول ولا قوة إلا بك!".


: الأوسمة



التالي
التدرج من الاستضعاف إلى الحوار ومنهما إلى التمكين 1 /2 (صلاح سلطان)
السابق
مفارقات بين علاج العرض والمرض في الفتنة الطائفية (صلاح سلطان)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع