البحث

التفاصيل

دراسة أصوليّة فقهيّة

الرابط المختصر :

قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة": دراسة أصوليّة فقهيّة
إعداد: د. حسن بن إبرهيم الهنداوي 


   من المقرر أنّ الشريعة الإسلاميّة جاءت شاملة لمصالح الناس الدنيويّة والأخرويّة الأمر الذي يجعلنا نقول أنّ أحكام الشريعة كلّها سواء أكانت أوامر أو نواهي أو مباحات إنما تقصد إلى المحافظة على مصالح الناس بجلب كلّ ما فيه منفعة لهم أو دفع كلّ ما فيه مضرّة عنهم. فالأوامر الشرعيّة كلّها مصالح لأنها تجلب للمذعن لها منافع دنيويّة، وأخرى أخروية، بينما المناهي الشرعيّة كلّها مفاسد تدفع عمن اجتنبها مضارّ في العاجل والآجل. والحاصل أنّ "استقراء أدلةٍ كثيرة من القرآن والسنّة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأنّ أحكام الشريعة الإسلاميّة منوطة بحِكَم وعلل راجعة للصلاح العام للمجتمع والأفراد" . ثم إنّ المصلحة تتكون من جزأين يكمّل أحدهما الآخر، ولا يستغني جزء عن آخر وأعني بذلك جلب المنفعة، ودفع المضرّة، فالجلب مصلحة كما أنّ الدفع مصلحة أيضاً.


   والناظر في أهمّ الأمور التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها سواء بجلب مصلحة إليها أو بدفع الفساد عنها والتي تعرف بالكليّات الخمس ، فإنّ "الحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها، ويثبّت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم" . فيعدّ درء المفسدة مقصداً شرعيّا لا يمكن الاستغناء عنه إذ إنّ المصلحة لا تتحقق بجلب المنفعة فحسب. بل إنّ درأ المفسدة مقدّم على جلب المصلحة في حال التعارض والتزاحم. وهذا الأمر يظهر واضحا جليا في قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" المستمدة من آي القرآن المجيد، وأحاديث البشير النذير، وعليها عوّل الفقهاء في جملة من الاجتهادات والفتاوى وراعوها في ذلك تأسِّيا بمراعاة الشارع لها. ولقد بدا لي أنّ هذه القاعدة بحاجة إلى مزيد من البحث والدّراسة، إذ الملاحظ أنّ ما سبق من حديث عن هذه القاعدة كان في الغالب عبارة عن شرح بسيط لمفرداتها، والتمثيل لها دون التوسع في بحثها، وبيان مغزاها، والتأصيل الشرعي لها، فضلا عن ذكر تطبيقات معاصرة لها.


   ولعلّ سبب ذلك أنّ الكتب التي اهتمت بالقواعد الفقهيّة كانت كتبا الغالب عليها استقصاء كلّ القواعد وتتبعها وهذا أمر لا يستطاع معه التوسّع في بيان المسائل المتعلقة بكلّ قاعدة وإعطائها حقّها من التأصيل والتفريع عليها. ولذا، فإنّ هذا البحث سيتناول هذه القاعدة تناولا مفصلا فضلا عن الاهتمام بالجانب التطبيقي لها في بعض القضايا الفقهية المعاصرة. وعليه، فسيتم الاعتناء بهذه القاعدة من حيث بيان معناها وفحواها، والتأصيل لها تأصيلا شرعيا، والحكمة في تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، وعلاقتها بدليل سدّ الذرائع، ومكانتها في حماية مقاصد الشريعة، وغيرها من مهمّات المسائل المتعلقة بها، ونذكر قبل الخاتمة بعض التطبيقات المعاصرة لها حتى يقع الاهتمام بهذا الأمر في الاجتهاد المعاصر، فضلاً عن ذكر بعض التوصيات التي أراها في غاية الأهميّـة، وجديرة بالاهتمام والاعتناء.


معنى قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" وفحواها
    يتعرّض العلماء للحديث عن هذه القاعدة في كتب القواعد الفقهيّة وكتب الأشباه والنظائر، لاسيما أثناء الحديث عن قاعدة "الضرر يزال"  باعتبار أنّ قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" من القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة الكليّة ، وهي إحدى القواعد الخمس الكبرى. وهذه القواعد الكلية الكبرى هي: الأمور بمقاصدها، والضرر يزال، والعادة محكمة، والمشقة تجلب التيسير، واليقين لا يزول بالشك . وأما اعتبار قاعدة "درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة" متفرعة عن قاعدة "الضرر يزال"، فسببه أنه عند الموازنة بين المصلحة والمفسدة، ودفع الضرر وإزالته لابد من التعرض للموازنة بين المصالح والمفاسد عند التعارض وأيهما أولى بالتقديم دفعا وجلبا. ناهيك عن أن دفع المفسدة عبارة عن إزالة ضرر المعبّر عنه في القاعدة الكليّة "الضرر يزال" المنتزعة من قول الرسول  "لا ضرر ولا ضرار" .


   وأما بالنسبة لمعاني الألفاظ الواردة في هذه القاعدة فأهمها لفظتي المفسدة والمصلحة. وبما أنّ هذه الدِّراسة ليس من غرضها التفصيل في معنى المفسدة والمصلحة، ولكن أذكر من معناهما ما يكون عونا في فهم المقصود بالقاعدة التي بصدد بحثها. ولذا، فالمصلحة عبارة عن "وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع منه دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد. فقولي "دائماً" يشير إلى المصلحة الخالصة المطردة، وقولي "أو غالباً" يشير إلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال، وقولي "للجمهور أو للآحاد" إشارة إلى أنها قسمان" ، ويقصد بذلك المصلحة العامة والمصلحة الخاصّة. وأما الشيخ البوطي فقد عرّف المصلحة تعريفا اعتبره معبِّراً عن اصطلاح علماء الشريعة بقوله:"المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده، من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم، طبق ترتيب معيّن فيما بينهم" . وهذا التعريف مختصر من تعريف الإمام الغزالي للمصلحة، إلا أن تعريف الإمام الغزالي كان أشمل لأنه ذكر قسمي المصلحة وهما جلب المنفعة، ودفع المفسدة، فقال:"أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفع أو دفع مضرة. لسنا نعني به ذلك...ولكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشارع من الخلق خمسة؛ أنْ يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم. فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكلّ ما يفوّت هذه الأصول فهو مفسدة دفعه مصلحة" . وهذا المعنى قد ذكره الغزالي أيضا في كتابه "شفاء الغليل" حينما قال:"المعاني المناسبة ما تشير إلى وجوه المصالح وأماراتها، وفي إطلاق لفظ المصلحة أيضا نوع إجمال، والمصلحة ترجع إلى جلب منفعة أو دفع مضرّة، والعبارة الحاوية لها أنّ المناسبة ترجع إلى رعاية مقصود الشارع" . 


    "وأما المفسدة فهي ما قابل المصلحة، وهي وصف للفعل يحصل به الفساد، أي الضرّ، دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد" . وهذا المعنى الذي أشار إليه ابن عاشور، وأعني بذلك استعمال المفسدة مقابل المصلحة قد كثر استخدامه في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى:وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(البقرة:220)، وقوله تعالى:وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ(الأعراف:56)، وقوله تعالى:وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(الأعراف:85). وقد ورد هذا الأمر أيضاً على لسان الرسول  في قوله:"... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب" .


   ولقد تعرض ابن عاشور لمزيد من البيان لمعنى الفساد حيث يقول:"والإفساد فعل ما به الفساد والهمزة فيه للجعْل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض. والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مستعملا على مضرة، وإن لم يكن فيه نفع من قبل. يقال فسد الشيء بعد أن كان صالحا، ويقال فاسد إذا وجد فاسدا من أول وهلة، وكذلك يقال أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه...فالإفساد في الأرض منه تصيير الأشياء الصالحة مضرة كالغشّ في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق والقتل للبرآء، ومنه إفساد الأنظمة كالفتن والجور، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين والمصلحين..." . 

   
   والحاصل أنّ المصلحة التي يقصدها حملة الشريعة هي المصلحة التي اعتبرها الشارع نصا أو أو استنباطا من مقاصد الشارع، واعتمادا على الوقوف على أسراره في تشريع أحكامه، أو أيّ مصلحة كانت ملائمة لتصرّفات الشارع، ومحققة لمقاصده. فيدخل في ذلك المصلحة المرسلة وهي "كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع دون أنْ يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء" . و"معنى كونها مرسلة أنّ الشريعة أرسلتها، فلم تنُط بها حكماً معيّناً، ولا يُلفى لها في الشريعة نظير معيّن له حكم شرعي فتقاس هي عليه" . ناهيك عن أنّ الشارع الحكيم قد راعى المصلحة والمفسدة جلبا ودفعا في سائر أحكامه، ولم تكن مراعتاهما مقصورة على أحكام دون أخرى. ولذا، فالأحكام المتعلقة بالعبادات والمعاملات والمناحكات والجنايات وغيرها قد شرعت من قبل الشارع جالبة للنفع، دافعة للضُرِّ.       

 
    فإذا تقرر ذلك، فأقول إنّ الشارع الحكيم قد راعى المصالح والمفاسد جلبا ودفعا في تشريعه لمختلف الأحكام، وحكمه في شتى تصرّفات العباد ومعاملاتهم. و"معرفة حِكَم الشرع وما اشتمل عليه من مصالح العباد في المعاش والمعاد، فإنّ ذلك مما يزيد به الإيمان والعلم، ويكون أعونَ على التصديق والطاعة، وأقطع لشُبه أهل الإلحاد والشَّناعة" ، لاسيما إذا تمت الموازنة الشرعية المعتبرة بين المصالح والمفاسد. ومن بين هذه القواعد الواردة في هذا الصدد قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة". ويقصد بها أنّ الشريعة قد آلتفتت إلى اجتناب المفاسد بدرئها، وإلى تحصيل المصالح بجلبها، وفي حال وقوع تعارض بين المفاسد المستدفعة، والمصالح المجتلبة، فإنّ حكمة الشارع اقتضت أن تتقدّم درء المفسدة على جلب المصلحة، وسيأتي بيان الحكمة من ذلك لاحقاً. وعليه، فإذا وقع تعارض بين المصلحة والمفسدة، واقتضى الأمر ترجيح أحدهما على الآخر، فإنه يرجّح دفع المفسدة على جلب المصلحة، ويكون الدفع أولى بالتقديم من الجلب. وهذا الترجيح والتقديم ليس على إطلاقه، بل له ضوابط ينبغي توفرّها حتى يتم الحكم بكون درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة، وهذا أمر سنفرغ لبيانه في موضعه من هذه الدِّراسة. 


التأصيل الشرعي لقاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة"
    لقد وردت جملة من الأدلة الدالة على أنّ الشارع قد راعى تقديم دفع المفاسد على جلب المصالح، فضلا عن طائفة من اجتهادات أئمة الفقه الذين راعوا ما راعته الشريعة من أولوية درء المفسد حين تزاحمها مع جلب المنفعة. ولقد حاولت أنْ أقف على أهمّ الأدلة التي يمكن الاعتماد عليها لتأصيل هذه القاعدة، وقد بدأت بآي الكتب المجيد، وأتبعتها بذكر جملة من أحاديث البشير النذير.  


    فمن الآيات التي تدّل على اعتبار الشارع لهذه القاعدة قوله تعالى:كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَفَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌفَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(البقرة:180-182). في هذه الآيات دلالة صريحة على مراعاة الشارع لتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة، إذ يعدّ تغيير ما ورد في الوصيّة، وتبديل محتواها خِـطْئاً عظيما، ومن اجترح ذلك فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. ولاشكّ أنّ من مقصد هذه الآية أن تتمّ المحافظة على الوصيّة كما صدرت من الموصي، لاسيما إذا التزم الموصي في وصيته بما أمر به الشارع وهي أن تكون بالمعروف. "والمراد (بالمعروف) هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوّة قرابة أو شدّة حاجة، فإنه إن توخى ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه، ومن المعروف في الوصيّة ألا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب" .


    ثم جاءت الآية التي تليها محذرة من تبديل الوصيّة وتغييرها لما في ذلك من الظلم للموصى له، والحيلولة دون وصول الحقوق إلى أصحابها وكفى بذلك إثما. وهذا الإثم يتحمّل إثمه من بدّله، وأما الموصي فلا إثم عليه إذ لا تزر وازرة وزر أخرى. وأما الآية الثالثة فتعرضت لحكم آخر يعدّ خلاف الأصل، ونقيض المعروف وهو إباحة تغيير الوصيّة إذا تضمنت ضررا وفسادا. فالأصل أنّ الشارع قصد إلى المحافظة على الوصيّة كما تركها الموصي، وتلك مصلحة ينبغي المحافظة عليها، ومن أجل ذلك جعل الإثم على من يبدلها، ثم شرع حكماً آخر يعدّ دفعا للمفسدة، وذلك في حال أن تكون الوصيّة متضمنة لمفسدة المعبّر عنها في الآية بلفظتي جنفا أو إثما. فالجنف الحيف والميل والجور، والإثم المعصيّة . فإذا كانت الوصية متضمنة لمفسدة، فيقع تعارض بين تركها على حالها وهي المصلحة التي قصدها الشارع من حفظ الوصيّة، وتأثيم من يبدّلها وبين درء ما فيها من مفسدة، فقدّم الشارع درء المفسدة على جلب المصلحة، إذا كان في تركها على حالها مفسدة عظيمة.       

     ومن الآيات التي تعبّر عن هذه القاعدة تعبيراً صريحا قوله تعالى:يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(البقرة:219). فالآية بيّنت أنّ كلا من الخمر والميسر يشتمل على مصالح ومفاسد، وعند وقوع مثل هذا التعارض يتمّ الموازنة بين المصالح والمفاسد المعبّر عنهما في الآية بالمنافع والإثم. فلّما رجحت مفاسد الخمر والميسر على المصالح فيهما، قدّم الشارع درء المفسدة على جلب المصلحة فكان حكمهما المنع والتحريم. فجاءت آية المائدة مبيّنة المفاسد التي في الخمر والميسر، والحكمة من تحريمهما فقال تعالى:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَإِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ(المائدة:90-91). إذن فالخمر فيها مصالح ومفاسد، ولكن عند الموازنة بينهما رجحت المفاسد على المصالح، فكان حكم الخمر التحريم بناء على أنّ درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة. "فأشير بهذا إلى أنها حرمتها لما فيها من إيقاع أسباب الفساد وزوال العقل، ثمّ كان معقولاً أنّ هذا إنما يتحقق في الكثير دون القطرة والقطرتين فصاعداً إلى أن يبلغ حدّ الكثرة، ولكن كان التمييز بين القليل والكثير مما قد تعذّر في كثير من الأحوال لاختلاف طبائع الناس في القوّة والضعف، حتى يظهر تأثير السّكر في بعضعهم بما لا يظهر في غيره، لم يؤمن أن يتطرق بالقليل إلى الكثير، فحسم الباب وحمل الناس فيه على سنن واحد وسنّة واحدة" . 

 
     وكذلك قوله تعالى:إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَأَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(التوبة:18-19). لاشكّ أن عمارة بيوت الله بالصلاة والذكر والقراءة والاشتغال بتعليم الناس أمور دينهم، لاسيما إذا كانت في المسجد الحرام تعدّ من أجلّ القربات إلى الله ، وأحبّها إليها، وكفى بها مصلحة يعمّ خيرها كثير من الناس. فهذا مقصد شرعي ينبغي المحافظة عليه ورعايته، ولكن جلب مثل هذه المصلحة المعتبرة شرعا إذا عارضها درء مفسدة أقوى منها فإنه يقدّم الدرء حينها على الجلب. فجاءت هذه الآية مقررة لكون دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة في حال التزاحم. فالجهاد في سبيل يدفع مفسدة كبيرة عن الدين، ناهيك عما فيه من حفظ لأرض المسلمين من أن يطأها العدوّ الذي لا يرقب فيهم إلا ولا ذمة. فالجهاد تندفع به عن الدين وعن المسلمين شرور كثيرة، وبلايا عظيمة. ومن ثمّ قدّمت الشريعة الجهاد لما فيه من دفع كثير من المفاسد عن الاشتغال بعمارة المسجد الحرام وإن كان في ذلك مصالح جمّة ومنافع جليلة. وسبب ذلك أنه قد يتوهم من لا يكون له معرفة بمقاصد الشارع وتصرفاته في حال تعارض المصالح والمفاسد أنّ عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجِّ عملان يسدّان مسدّ الجهاد، وفي الاشتغال بهما عذر لترك الجهاد والتخلف عنه، بل إنّ الآية نفت التسوية بينهما، ثم جاءت الآية التي تليها مبيّنة عدم التسوية، ولمن يكون التفضيل  بقوله تعالى:الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ(التوبة:20).


    وفضلا عن ذلك، فإنّ قوله تعالى:مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(النحل:106)، فيه دلالة على مراعاة الشارع للأولويّة دفع المفسدة على جلب المصلحة. فبقاء المسلم على دينه، وعدم الارتداد مصلحة ينبغي المحافظة عليها، فهذه المصلحة قد يعارضها مفسدة وهو هلاك النفس وفواتها بالقتل في حال الإكراه بالقتل على الردّة. فرخّص الشارع لمن أكره على الكفر أن يقول كلمة الكفر ليدفع عن نفسه مفسدة القتل بالإكراه، وقدّم ذلك على جلب المصلحة وهي أن يحفظ المسلم دينه، ولا يبتغي غيره. ولقد أشار ابن عاشور إلى الحكمة من هذه الرخصة بقوله:"فتح باب الرخصة للمحافظين على صلاحهم بقدر الإمكان...وقد رخّص الله ذلك رفقاً بعباده واعتباراً للأشياء بغاياتها ومقاصدها" . والحاصل أنّ الرخص الشرعيّة شرعت لدفع مفسدة المشقّة عن المكلّف، فالشارع يقصد إلى أنّ يؤدي المسلم العزائم كما جاء بها الشارع، وتلك مصلحة ينبغي جلبها والمحافظة عليها. فإذا كان في آداء العزائم حرج يصيب المكلّف، فشرع الشارع أحكاما أخرى فيها دفع لهذا الحرج الذي يتسبب في مفسدة للمكلّف. فرخّص الشارع للمريض والمسافر الفطر في رمضان، والاضطرار رخصة لأكل الميتة، والإكراه رخصة لقول كلمة الكفر بشرط أن يكون القلب مطمئنّ بالإيمان، ثمّ قاس الفقهاء على هذه الرخص الشرعيّة غيرها كالإكراه على شرب الخمر أو الاظطرار لشربه لإساغة اللقمة.    


    ولعلّ من أقوى الأدلة التي تؤصّل لهذه القاعدة ما ورد في صلح الحديبيّة، وما أشار إليه القرآن في قوله تعالى:هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً(الفتح:25). ففي صحيح البخاري وغيره من كتب السنّة أنّ "رسول الله  زمن الحديبية، فجاء سهيل بن عمرو... فقال له النبي :على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به. فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب، فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما...فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله  فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: (بلى). قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: (بلى). قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: (إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري). قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: (بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام). قال: قلت: لا، قال: (فإنك آتيه ومطوف به)...ثم رجع النبي  إلى المدينة...فأنزل الله تعالى:وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم - حتى بلغ - الحمية حمية الجاهلية" .


    فلقد رأى الصحابة  أنّ في صلح الحديبيّة حيف في حقّ المسلمين، وميل عن حقوقهم، ولذلك ورد في الحديث "قال المسلمون: سبحان الله، كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما"، ومراجعة عمر  للرسول . ففي صلح الحديبيّة وقع تعارض بين جلب المصلحة وهي دخول المسجد الحرام، وأداء العمرة، ودفع المفسدة وهو عدم تعرّض المسلمين الذين لم يُعلم إسلامهم في مكة للقتل. فنزلت الآية المذكورة آنفا مقدّمة دفع المفسدة على جلب المصلحة. ومعنى ذلك أنّه بعد الهجرة قد أسلم طائفة من أهل مكّة لم يكن للمهاجرين علم بهم كما في قوله تعالى:وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ. فلو دخل الصحابة إلى المسجد الحرام عنوة، وحصل بينهم وبين أهل مكّة قتال فسيؤدي إلى قتل من أسلم بمكّة وتلك مفسدة ينبغي درؤها. فلّما وقع تعارض بين جلب المصلحة وهي دخول المسجد الحرام، وآداء العمرة، ودفع المفسدة وهي قتل من لم يعلم إسلامه، فرجّح الشارع دفع المفسدة على جلب المصحلة، فكفّ أيدي المؤمنين ببطن مكّة من بعد ما أظفرهم على أهلها.  


    ومن الأحاديث التي تقوّي شرعيّة هذه القاعدة ما ورد "عن عبادة بن الصامت ، أنّ رسول الله  قال، وحوله عصابة من أصحابه: بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه). فبايعناه على ذلك" . يقول ابن حجر:"والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أنّ الكفّ أيسر من إنشاء الفعل، لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح، والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل" . ففي تعليق الحافظ ابن حجر إشارة إلى أنّ الحديث قد ذكر جملة من المنهيات واهتمّ ببيانها تماشيا مع مراعاة الشارع لتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة باعتبار أنّ ما نهى الشارع عنه يعدّ مفسدة ينبغي تركها واجتنابها.


    وكذلك حديث النهي عن الجلوس في الطرقات، حيث قال النَّبِيِّ :"إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ فَقَالُوا مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا قَالَ فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجَالِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ قَالَ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ". فيقول ابن حجر:"ويؤخذ منه أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، لندبه أولا إلى ترك الجلوس مع ما فيه من الأجر لمن عمل بحق الطريق، وذلك أن الاحتياط لطلب السلامة آكد من الطمع في الزيادة"" . فالجلوس في الطرقات فيه منافع ومضار، فإذا أربت المضارّ على المنافع فيقدّم التحريم لدفع المفسدة، ولا يباح إلا بالشروط التي وردت في الحديث. فالالتزام بهذه الشروط المعبّرة عن إعطاء الطريق حقّه تندفع المفاسد التي تترتب على الجلوس في الطرقات.


    ويضاف إلى ذلك أيضا حديث "أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ :"قَالَ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتْ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ لَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا الصَّلَاةُ". يقول ابن حجر:"قوله (اللهم اغفر له، اللهم ارحمه) هو مطابق لقوله تعالى (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض) ، قيل: السرّ فيه أنهم يطلعون على أفعال بني آدم وما فيها من المعصية والخلل في الطاعة فيقتصرون على الاستغفار لهم من ذلك، لأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، ولو فرض أن فيهم من تحفظ من ذلك فإنه يعوض من المغفرة بما يقابلها من الثواب" .


    وكذلك حديث "عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ لَهَا يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ". ففي هذا الحديث إشارة إلى "اجتناب ولي الأمر ما يتسرع الناس إلى إنكاره وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دين أو دنيا، وتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمر واجب. وفيه تقديم الأهم فالأهم من دفع المفسدة وجلب المصلحة، وأنهما إذا تعارضا بدئ بدفع المفسدة، وأن المفسدة إذا أمن وقوعها عاد استحباب عمل المصلحة" . فإعادة بناء الكعبة على أساس إبراهيم مصلحة قد عارضتها مفسدة أكبر منها وهي خوف افتتان الناس أو أن يتذرع بفعل الرسول  إلى هدم البيت الحرام وغير ذلك من المفاسد. فترك الرسول  مصلحة إعادة بناء البيت على أساس إبراهيم، وقدّم دفع المفسدة عليها. ولذلك قرّر العلماء أنّ "الترك للمطلوب خوفا من حدوث مفسدة أعظم من مصلحة ذلك المطلوب"  كما هو في تركه قتل أهل النفاق وقوله :"لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه" . فترك الرسول  قتل المنافقين وهو في ذاته مصلحة، ولكنه لم يفعل دفعا لمفسدة أعظم وهي توهم الناس أنه يقتل أصحاب كما يبدو من ظاهر الفعل، فكان تركه تقديما لدفع المفسدة على جلب المصلحة.


    ومن شرائع دين الإسلام المراعى فيها قاعدة تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة تحريم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها دفعا لمفسدة قطع الرحم. "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله :"لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" . وفي معجم الطبراني بيان علّة هذا النهي "أنّ رسول الله  "نهى أن تزوج المرأة على العمة وعلى الخالة وقال إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" . فالنكاح مصحلة شرعية حثّ الشارع عليها، وندب المسلمين إليها، وفي حال الجمع بين الأختين أو بين المرأة وعمّتها أو خالتها مفاسد عظيمة أكبرها جرما وأعظمها ضررا قطع الرحم. فجاء حكم الشارع بتحريم هذا الجمع الجمع بين الأختين أو بين المرأة وعمّتها أو خالتها تقديما لدرء المفسدة على جلب المصلحة ولله الحكمة البالغة في ذلك. ولقد أشار إلى شيء من هذا المعنى في تعليل هذا الجمع الإمام القفّال بقوله:"الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وخالتها، فقد قيل إنّ المعنى في ذلك ما يؤمن من وقوع الغيرة بين إحداهما على الأخرى، فإنّ القرابة تجري بينهنّ التنافس والتحاسد ما لا يجري مثله بين الأجانب، والأصل في النكاح إنما هو وقوع التأليف والتواصل" .


    ونجد في هذا الصدد من التشريعات الدالة على هذا الأصل العظيم، ومراعاته من قبل الشارع الحكيم تشريع الخُلع، وإعطاء الزوجة الحقّ في أنْ تفتدي من بعلها. فالنكاح مصلحة، واستمرار قيام الزوجية مصلحة، ولكنّ هذه المصلحة إذا تعارضت مع مفسدة تُربي عليها كأنْ يكون في استمرار الزوجيّة ضرر كبير على الزوجة، ويلحقها من الزوج شرّ مستطير، فشرع الشارع الحكيم "الخلع لحصول البينونة المتصمنة افتداء المرأة من رقّ بعلها" ، وإضراره بحقوقها تقديما لدفع المفسدة على جلب المصلحة. فـ"النكاح وإن كان مقصودا به التواصل والتناسل، وكذلك يقتضي استدامة الصحبة، فليس يؤمن في الطباع حدوث الأشياء بين الزوجين يخالف ما توجبه هذه الحالة، فتتنافر طباعها، واعتراض الملال من أحدهما للآخر بتغيير الأخلاق وتلوّنها، فيخرج حدوث هذه الأسباب إلى إيقاع الصلح تارة بفداء تفتدي به المرأة لتخلّص نفسها، وإلى القطع بفعل الزوج التماساً للخلاص منها" .


    ويظهر تقديم المفسدة على جلب المصلحة في السياسة الشرعيّة، ومراعاة أولي الأمر من الخلفاء والأئمة لهذه القاعدة ومثالها ما ورد في الفتح "عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ لَهُ مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا قَالَ كُنْتُ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ مُعَاوِيَةُ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُلْتُ نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ أَنْ اقْدَمْ الْمَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ فَقَالَ لِي إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ فَكُنْتَ قَرِيبًا فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ". ففي هذا الحديث "تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة لأن في بقاء أبي ذر بالمدينة مصلحة كبيرة من بثّ علمه في طالب العلم، ومع ذلك فرجح عند عثمان دفع ما يتوقع من المفسدة من الأخذ بمذهبه الشديد في هذه المسألة، ولم يأمره بعد ذلك بالرجوع عنه لأن كلا منهما كان مجتهدا" .


    لقد تقرر من الأدلة التي ذكرنها، والأدلة التي أعرضنا صفحا عن ذكرها خشية الإطالة أنّ الشارع الحكيم قد راعى تقديم دفع المصلحة على جلب المصلحة في كثير من الأحكام والتصرّفات. بل إنّ الشارع كان له بالغ الاهتمام بتقرير هذه القاعدة وتثبيتها، ولذلك اعتنى بها الشارع في مختلف الأحكام، وشتّى التشريعات. فلم يجعلها حِكْراً على أحكام دون أخرى، فقرّرها في التصرّفات والعادات كما اعتبرها في التقرّبات والعبادات. وهذا أمر فيه دلالة واضحة على احتفاء الشارع بتقديم دفع المفسدة عل جلب المصلحة، وذلك لحكمة اقتضت مثل هذا التقديم، وهذه محاولة لبيان ذلك وتوضيحه. 


الحكمة في تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة وضوابط التقديم
    بعد أنْ سبق الحديث عن معنى القاعدة وتأصيلها تأصيلا شرعيا ببيان الأدلة الدّالة على اعتبار الشارع لها ومراعاتها، فينبغي بيان الحكمة في تقديم "درء المفسدة على جلب المصلحة". فأقول إنّ المصلحة الشرعيّة تتكون من جزأين مكمّل أحدهما للآخر، وأعني بذلك جلب المنفعة، ودفع المضرّة. وهذا الأمر ملاحظ في تشريعات الشارع وتصرّفاته، فكما حرص على جلب المنفعة، فشرع لها أحكاما تؤدّي إليها، وتحافظ عليها، فإنه اعتنى كذلك بدفع المفسدة حيث أنزل جملة من الأحكام من شأنها أنْ تدرأ الضرّ وتزيله أو تقلّل من سيِّئ آثاره.  وبناء على ذلك، فقد كان "التكليف كلّه إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معا"  كما قرره كثير من العلماء. فدفع المفسدة يعدّ مصلحة باعتبار ما يترتب عليه من إزالة الضرّ، وتجنب الفساد، ووقوع المفسدة يتناقض مع جلب المصلحة وحفظها. فكانت أحكام الشريعة مراعية للمصلحة بجلبها، وللمفسدة بدرئها، ولكن في حال التعارض، واختيار أحدهما، فقد راعت الشريعة تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة.


    وبما أنّ النهي يكون لوجود مفسدة، والأمر يكون لتحصيل مصلحة، فقد علل الزركشي هذا التقديم باعتناء الشارع بدفع المفسدة أكثر من اعتنائه بجلب المنفعة في قوله:"فالفرق بين الأمر والنهي أنّ النهي للفساد لدفع الفساد، والأمر لتحصيل المصالح أو اعتناء الشارع بدفع المفاسد أكثر من اعتنائه بتحصيل المصالح، لأنّ المفاسد في الوجود أكثر، ولأنّ النهي عن الشّيء موافق للأصل الدّال على عدم الفعل بخِلاف الأمر" . وهذا التعليل ردّه ابن حجر أثناء شرحه لحديث أبي هريرة، عن النبي  قال:"دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" .


    يقول ابن حجر:"واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بقدر الطاقة، وهذا منقول عن الإمام أحمد فإن قيل إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذ (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين، كذا قيل والذي يظهر أن التقييد في الأمر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتناء به؛ بل هو من جهة الكف إذ كل أحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا، فلا يتصور عدم الاستطاعة عن الكف بل كل مكلف قادر على الترك، بخلاف الفعل فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الأمر بحسب الاستطاعة دون النهي" .


    ثم بيّن ابن حجر الراجح لديه بقوله:"الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الأمر دون النهي أنّ العجز يكثر تصوّره في الأمر بخلاف النهي فإنّ تصوّر العجز فيه محصور في الاضطرار". وهذا المعنى أشار إليه الطوفي من قبل بعبارة أكثر وضوحا بقوله:"لأنّ ترك المنهي عنه عبارة عن استصحاب حال عدمه والاستمرارعلى عدمه، وليس ذلك ما لا يستطاع حتى يسقط اتكليف به، بخلاف فعل المأمور به فإنه عبارة عن إخراجه من العدم إلى الوجود، وذلك يتوقف على شروط وأسباب كالقدرة على الفعل ونحوها، وبعض ذلك يستطاع، وبعضه لا يستطاع. فلا جرم سقط التكليف به لأنّ الله لا يكلّف نفساً إلا وسعهاوهذه رخصة عظيمة في كثير من الأحكام" . وعليه، فيمكن القول أنّ الشارع قد قدّم دفع المفسدة على جلب المصلحة باعتبار أنّ الدفع يقتضي الترك والإزالة والاجتناب وهو أولى من الجلب الذي يقتضي الفعل والتحصيل والحفظ. أما القول بأنّ الشارع له اعتناء بدفع المفاسد يربو على اعتنائه بجلب المصالح فليس بصحيح عندي، لأنّ الشارع قد اعتنى ببيان المفاسد التي ينبغي اجتنابها وتركها، والمصالح التي ينبغي فعلها وتحصيلها. ومقصد الشارع من بيان ذلك كلّه دفع المفاسد عن الخلق، وجلب ما فيه نفع لهم، ولا يظهر في هذا الأمر ترجيح، بل هما في نظر الشارع سِيّان، فقصد الشارع في دفع المفاسد كقصده في جلب المصالح لا يختلف أحدهما عن الآخر. ولكن يظهر اعتناء الشارع بدفع المفاسد أكثر من اعتنائه بجلب المصالح في حال التعارض فقط، وتعذّر الجمع بينهما فحينها يقدّم الدفع على الجلب. وهذا التقديم أيضا ليس على إطلاقه، بل له ضوابط ينبغي مراعاتها، وأنّ توفرها شرط في هذا التقديم، وبيانها سيأتي في موضعه.


    وبالإضافة إلى ذلك، فأقول إن مما يعدّ من الحكمة في تقديم الدفع على الجلب أنّ المفسدة ينبغي إزالتها، بينما المصلحة ينبغي حصولها، فاقتضت الحكمة أن تكون إزالة المفسدة على الفور إذا تعارضت مع جلب المصلحة، التي يمكن تأخيرها إلى وقت لاحق، وتحصيلها في وقت متأخر. فالمفسدة إذا وقعت لا يمكن تلافيها لاحقا، ولا يمكن تداركها، على خلاف المصلحة يمكن تأخير حصولها، وتداركها لاحقا. فكان تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة عبارة عن تقديم ما لا يتدارك بفواته على ما يتدارك وإنْ كان في مصحلة. ومثال ذلك لتوضيح هذا الأمر ما ذكره الفقهاء من أنّه لو كان رجل من المسلمين يصلّي إلى جانب وادٍ، وأثناء صلاته رأى شخصا يغرق فيه، فإنه يتعيّن عليه حينها قطع صلاته، وإنقاذ الغريق. وسبب ذلك أنّ الغرق يؤدّي إلى هلاك النفس وتلفها، وهذه المفسدة لا يمكن تداركها، بينما قطع الصلاة يمكن تداركه، وإعادة الصلاة في وقت لاحق. ويقاس على ذلك، ما لو كان مصليا في بيته، ثم شبّ فيه حريق، فإنه يتعيّن عليه قطع صلاته وإنقاذ نفسه ومن معه في البيت لنفس السبب المذكور آنفاً. وكذلك تحريم بيع السّلاح وقت الفتنة للمحاربين وقطاع الطرق وما شاكلهم من المفسدين في الأرض لأن امتركهم لهذ الأسلحة يؤدي إلى مفاسد كبيرة مثل القتل والاعتداء على الأعراض والأموال مقابل مصلحة مادية للبائع. وعليه فلا عبرة بهذه المصلحة لأنّ ذهاب هذه المصلحة يمكن تعويضها، وربح أضعافها بينما الاعتداء على الأنفس والأعراض مفاسد إذا وقعت لا يمكن تلافيها، فقدّمت دفع المفسدة بتحريم بيع السِّلاح على جلب منفعة الربح المالي. وبناء على هذا الملحظ المهمّ في المفاسد والمصالح اقتضت حكمة الشارع تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة، حيث إنّ المفسدة إذا وقعت لا يمكن تداركها، بينما المصلحة قد يتمّ تأخير جلبها، ويمكن تداركها لاحقاً. وذلك عين المصلحة لما في ذلك من إزالة المفاسد وتقليلها، وتفوبت للمصالح التي يمكن تداركها وتلافيها في وقت آخر.


ظوابط تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة
    يقع في كثير من المسائل الاجتهادية التعارض بين المصالح والمفاسد في جلبها أو دفعها، ويتردد نظر الفقيه بين الأخذ بأحدهما وترك الآخر، وذلك بتقديم أحدهما على الآخر في حال تعذّر الجمع بيهما. وهذا التعارض يرد على ثلاثة أضرب:


 1ـ تعارض جلب منفعة مع جلب منفعة أخرى.


 2 ـ تعارض دفع مفسدة مع دفع مفسدة اخرى.


 3 ـ تعارض جلب منفعة مع دفع مفسدة.


    ولقد كان للعماء اهتمام بالترجيح حين يقع مثل هذا التعارض، والذي يعنينا من أضرب التعارض بين المصالح والمفاسد هو الضرب الثالث أعني تعارض جلب منفعة مع دفع مفسدة. ناهيك عن أنّ لفقه الموازنات أهمية كبيرة في واقع الحياة لأنها أساساً تقوم على رعايته وهو في غاية الأهمية لفقه الأولويات. فلا يتمّ التعرّف على الأولويات إلا بعد الموازنة التي تؤدّي إلى العلم بمراتب الأمور، وما بينها من تفاوت أو تقارب يساعد على تقديم بعضها على بعض. ولعلّ أهمّ  عامل في الموازنة المعتبرة شرعا الموازنة بين المصالح والمفاسد عند التعارض، وذلك بأنّ يجتمع في أمر من الأمور مصلحة ومفسدة أو مضرة ومنفعة فلا بد من الموازنة بينهما. والتعارض كما يكون بين المصالح، يكون بين المفاسد، بل يكون بين المصالح والمفاسد أيضاً. وكما أنّ تعارض المصالح يعدّ مفسدة حيث إنّ ترجيح إحدى المصلحتين إضرار بمصلحة أخرى، والضرر بها يعدّ مفسدة، فتعارض المصلحة والمفسدة وترجيح أحدهما على الآخر يعدّ أيضا مفسدة، حيث يترتب عليه إما جلب مصحلة أو دفع مفسدة. ولكن لتقليل المفاسد والتخفيف من ضررها جعلت الشريعة درأ المفسدة أولى من جلب المصلحة عند التعارض.


    وبما أن حديثنا عن تعارض المصلحة والمفسدة، وليس عن تعارض المصالح فيما بينها، ولا المفاسد فيما بينها، فأقول إنّ لتعارض المصالح مع المفاسد في حدّ ذاتها حالات ثلاث. فأولها تعارض مصالح غالبة أو راجحة على المفاسد، فحينها يطلب تحصيل المصلحة، ولا يلتفت إلى ما فيها من مفسدة. ومثال ذلك الجهاد في سبيل الله فيه قتال ينتج عنه قتل النفس وتلفها وهو لاشك في كونه مفسدة، ولكن كتب القتال على المؤمنين بالنظر إلى ما يترتب عليه من مصالح تربو على ما فيه من مفاسد. فالقتال في سبيل الله يحقق مصالح جمّة من أهمها حماية الدين، والدّفاع عن أرض المسلمين من أن يطأها العدوّ، وحماية أعراض المسلمين من أن تنتهك، والاعتداء على المستضعفين من النساء والرجال والولدان. فلا شكّ أن هذه المصالح تفوق مفسدة القتل وتربو عليها، ناهيك عن أنّ الجهاد متعلق بمقصد حفظ الدين، والقتل متعلق بمقصد حفظ النفس، وحفظ الدّين مغلّب على حفظ النفس عند التعارض فكانت مصلحة الدين مقدّمة على مصلحة النفس.


    وفي مسألة الحجر على المفلس الذي يستغرق الدّين مال المدين، فلا يكون في ماله وفاء بديونه"  لمصلحة الغرماء، فـ"الحجر على المفلس مفسدة في حقّه"  بمنعه من حريّة التصرّف في ماله. فمصلحة الإنسان في التصرّف المطلق في ماله إذا تعارضت مع مصلحة من لهم دَين عليه، فإنه يمنع من التصرّف في ماله دفعا للمفسدة على الغرماء، وتقديما لذلك على مصلحة المحجور عليه. وأما في حال السّفيه الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره فيما يتعلّق بالتصرفات المالية، فيقع الحجر عليه أيضا لما ورد في قوله تعالى:وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً(النساء:5). فالحجر على السّفيه ومنعه من التصرّف في ماله تتعارض فيه مصلحة ومفسدة؛ فالمصلحة في ترك السّفيه مطلق التصرّف في ماله، والمفسدة أنّ تصرّف السّفيه فيه إضاعة للمال، وإتلاف وتبذيره. فـ"لرجحان مصلحة الحجر على مفسدة الإطلاق"  منع الشارع السّفيه من التصرّف في ماله دفعا للمفسدة عن المال من التلف والضياع، وتقديم ذلك على مصلحة السّفيه في حريّة التصرّف في ماله، بل إنّ مصلحته تتحقق في الحجر عليه، ومنعه من إضاعة ماله.


    وثانيهما تعارض مفاسد غالبة أو راجحة مع تحصيل مصالح مرجوحة وجلبها، فحينها يقدّم درء المفسدة، ولا يلتفت إلى جلب المصلحة. فـ"المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة فرفعها هو المقصود شرعا، ولأجله وقع النهي" . ومثال ذلك ما ورد في التنزيل من تحريم الخمر دفعا لمفاسدها حيث نصت الآية النازلة في هذا الصدد على أنّ الخمر فيها منافع (مصالح) ومآثم (مفاسد)، ولكن المفاسد غالبة أو راجحة على المصالح فكان حكمها في الأخير التحريم بناء على أنّ درأ المفسدة مقدّم على جلب المصلحة. فالخمر قد تحقق منافع مثل النشوة وتحصيل المال من جراء بيعها والمتاجرة بها، ولكن هذه المصالح التي تجلبها الخمر لا تقوى أمام المفاسد المترتبة على شربها مثل إدخال الضرر على العقل، ووقوع العداوة والبغضاء والصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وتضييع الحقوق وغيرها من المفاسد التي هي أعظم بكثير من جلب ما فيها من منافع، وأنّ المصالح المجتلبة بشرب الخمر لا تعدّ شيئاً إذا ما تمّ مقابلتها بما يترتب عليها من مفاسد وأضرار.


    وأحيانا يتردد الأمر بين المصلحة والمفسدة، ولكن في مسألة محددة تكون المفسدة أعظم من المصلحة فحينها تدرأ المفسدة وتقدّم على جلب المصلحة. ومن الأمثلة التي تتردد بين المصالح والمفاسد ما ورد في قوله تعالى:مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ(الحشر:5). فالآية تشير إلى أنّ قطع النخيل أو تركه على حاله حسبما ما تقتضيه المصلحة، إذ الأصل عدم إتلاف الشجر لاسيما المثمر منه كالنخيل وغيره، وأن قطعه وإتلافه مفسدة حرّمها الشارع لنهيه عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها. لكن هذه المصلحة قد تعارضها في أحوال معيّنة مفسدة أعظم منها مثل الجهاد في سبيل الله. ففي حال تغلّب العدوّ على ديار المسلمين تحدث مفاسد عظيمة، فإذا كان في قطع الأشجار وإتلافها دفع لهذه المفاسد، وإضعاف شوكته، فتقدّم على جلب المصلحة من ترك الأشجار على حالها. وقاس الفقهاء على قطع النخيل الوارد في الآية غيره كحرق الحيوانات المركوبة والمطعوبة إذا لم يتمكن المجاهدين من الانتفاع بها نكاية في العدوّ، وتوهينا لشوكته، وإضعافاً لسطوته. فـ"من هذه الآية أخذ المحققون من الفقهاء أنّ تحريق دار العدوّ وتخريبها وقطع ثمارها جائز إذا دعت المصلحة المتعيّنة" .


    وثالثهما تعارض مفاسد ومصالح متساوية، وفي هذا الحال قد يقع التخيير بينهما، وقد يتوقف في الأمر كما أشار إلى ذلك العزّ بن عبد السّلام بقوله:"وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يُتخيّر بينهما، وقد يُتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد" . وقال في موضع آخر "وأما ما تكافأت فيه المصلحة والمفسدة، فقد يتخيّر فيه، وقد يمتنع" . ولكن القول بتساوي المفاسد والمصالح بحيث لا يمكن الترجيح بينها من الصعوبة بمكان، وما ذكره الإمام العزّ لم يذكر له مثالا فقهيا، وإن كان ذكر للقسمين الآخرين أمثلة، ولكن ضرب مثالا واحدا على التساوي بين المصالح والمفاسد بقوله:"وهذا كقطع اليد المتآكلة عند استواء الخوف من قطعها وإبقائها" . ولكن الإمام الشاطبي قد استبعد وقوع مثل هذا الأمر في الشريعة بقوله:"فإن تساوتا (يعني المصلحة والمفسدة) فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة، ولعلّ هذا غير واقع في الشريعة، وإن فرض وقوعه فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل، وذلك في الشرعيات باطل باتفاق" .


    والذي يترجّح لديّ في هذه المسألة أنّ القول بتساوي المصالح والمفاسد غير واقع في الشريعة، وأنها مسألة مفترضة متممة للقسمة العقليّة بالنسبة لتعارض المنافع والمضارّ، ولكن قد يكون هناك تقارب يقترب يوشك أنْ يكون تساوياً، وليس بتساوٍ على الحقيقة. ولعلّ من قال بتساوي المصالح مع المفاسد في حال التعارض سببه وجود مسائل دقيقة، وامور خفيّة يصعب معها ترجيح أحدهما على الآخر. وفي مثل هذه المسائل يقع اختلاف الفقهاء فالبعض يترجح لديه غلبة المصلحة فيقدِّم جلب المصلحة على درإ المفسدة، والبعض الآخر يقوى لديه غلبة المفسدة على المصلحة فيقول بأولويّة دفع المفسدة على جلب المصلحة.


    إذن، ففي حال خفاء المصالح والمفاسد وتقاربهما تقاربا يكاد يبلغ حدّ التساوي، ولكنه ليس كذلك، فكلّ فقيه يجتهد ويعمل بما ترجّح لديه. ومثال ذلك الإكراه على القتل بأن يكره المسلم على قتل أخيه، بحيث لو امتنع قتل، ففي مثل هذه الحال النادرة تتساوى فيها المصلحة والمفسدة، فدماء المسلمين متكافئة. فليست نفس المكرَه على القتل أحقّ بنفس من أكره على قتله، بحيث إنّ مصلحة حفظه لنفسه تتساوى مع مفسدة قتل غيره. ومن أجل هذا التساوي اختلف الفقهاء فيمن قتل في حال الإكراه، فذهب البعض إلى أنه يقتصّ من المكرَه على القتل إذا قتل، وذهب البعض الآخر إلى سقوط القصاص درأ للحدود بالشبهات . ومن الأمثلة التي يقع فيها اختلاف الفقهاء نظرا لتقارب المصالح والمفاسد المتعارضة مسألة حكم الحاكم أو القاضي بعلمه، وتضمين صناع السِّلع، وتضمين حملة الطعام حتى لا تمتدّ أيديهم إليه وغيرها . وفضلا عن ذلك، فإنه من الأولى تقديم دفع المفسدة عن جلب المصلحة حتى لو تحقق التساوي بينهما اعتدادا بمراعاة الشارع للدفع وتقديمه على الجلب، فضلا عن الحكمة المترتبة على هذا التقديم، وهذه الحكمة تختل لو تمّ تقديم الجلب على الدفع في حال التساوي نظرا لما سبق إيضاحه من الحكمة في كون درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.


    والحاصل أنّ أهمّ ضابط في إعمال قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" هو غلبة أو رجحان المفسدة المدفوعة على المصلحة المجتلبة أو في حال تساوي المصلحة والمفسدة على خلاف في ذلك بين العلماء، وإنْ كان الأولى عندي أنه حتى في هذه الحال يتم تقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المفسدة التي لا يمكن تداركها ولا تلافيها، حتى إذا تساوت مع المصلحة التي يمكن تداركها، فينبغي تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة. وأما في حال  تردد الأمر بين المصلحة والمفسدة، ولكن في مسألة محددة تكون المفسدة أعظم من المصلحة فحينها تدرأ المفسدة وتقدّم على جلب المصلحة. وصفوة القول أنّ ترجيح المفسدة على المصلحة أو المصلحة على المفسدة في الجلب والدفع حين التعارض مبني على أيّهما أعظم فيحكم به ويعتد به، ويطرح ما سواه فلا يلتفت إليه. "فإذا كان الفعل فيه صلاح وفساد رجحوا الراجح منهما، فإذا كان صلاحه أكثر من فساده رجحوا فعله ، وإن كان فساده أكثر من صلاحه رجحوا تركه .فإنّ الله تعالى بعث رسوله -- بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وانها ترجّح خير الخيرين وشرّ الشّرين، وتحصيل أعظم المصلحتين، بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما".


    وفضلا عن ذلك، فإنّ من الأمور المهمّة التي ينبغي الاهتمام بها في تعارض المصالح والمفاسد، وتزاحم المنافع والمضارّ طريق الترجيح بينها، والموازنة الشرعيّة لمعرفة أيِّها أولى بالتقديم، ومن حقّها التأخير. والضابط المهمّ فيما يتعلق بالترجيح بين المصالح والمفاسد، وتحديد الغالب منهما، لاسيما في المسائل الدقيقة من الاحتكام إلى مقاصد الشارع، ومراعاة ترتيب المصالح إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات، والمفاسد إلى ما يعارض هذه المصالح ويضرّ بها. فالمفسدة التي تعطل ضرورياً غير التي تعطل حاجياً غير التي تعطل تحسينياً. والمفسدة التي تضر بالمال دون المفسدة التي تضر بالنفس وهذه دون التي تضر بالدين والعقيدة. وكما أنّ المفاسد أو المضار متفاوتة في أحجامها وفي آثارها وأخطارها، كذلك المصالح أيضا تتباين في المنافع التي تجلبها، وآثارها المترتبة عليها.


علاقة قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" بدليل سدّ الذرائع
    السدّ في اللغة يعني الغلق والمنع من الشيء، وأما لفظة الذرائع فجمع، وإذا أفردت قيل ذريعة. والذريعة وإنْ كانت تستخدم في اللغة لعدّة معان، فإنها لا تخرج عن كونها كلّ ما يتخذ وسيلةً وطريقاً إلى الشيء. ولذا، فإنّ "الذريعة الوسيلة، وقد تذرّع بذريعة أي توسّل بوسيلة" . ثم إنّ الذريعة في اللغة لفظ ذو معنى مطلق غير مقيّد بنوع من الذرائع أو الوسائل. ومعنى ذلك أنّ الذريعة إلى الشيء في اللغة قد تكون قبيحة وقد تكون حسنة، وقد تكون ضارة، وقد تكون نافعة، كما يمكن أنْ تكون الذريعة وسيلة إلى شيء مشروع أو محظور، وذلك إذا تعلّق الأمر بالأحكام الشرعية. وعلى هذا الاعتبار، فإنّ معنى سدّ الذرائع في اللغة "سدّ الطرق، الوسائل، حتى لا تؤدي إلى آثارها المقصودة، سواء أكانت محمودة أم مذمومة، صالحة أم فاسدة، ضارة أم نافعة". 


    فإذا انتقلنا للحديث عن ماهية سدّ الذرائع وحقيقتها بوصفها مصطلحاً تم استخدامه من قبل الأصوليين في مدّوناتهم ، فنجد أنّ عباراتهم في حدّها مختلفة في المبنى، تكاد تتفق في المعنى. وعليه، فإنّ سدّ الذرائع -كما عرّفها الإمام ابن رشد الجدّ-"هي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور" . فهذا التعريف أفادنا أنّ الذريعة التي يعنيها الفقهاء بالسدّ ما كان إفضاؤها إلى شيء محظور شرعا، وإنْ كانت تبدو دون ذلك الإفضاء غير ممنوعة. ويضاف إلى ذلك، أنّ ما آلت إليه الذريعة وأدى إلى الوقوع في محظور فإنه يدخل ضمن سدّ الذريعة سواء كان بقصد من المكلّف أو بغير قصد منه. ولقد أشار الإمام ابن عاشور إلى هذا الملحظ المهمّ في سدّ الذرائع بقوله:"وأما الذرائع فهي ما يُفْضي إلى فساد، سواء قصد الناس به إفضاءه إلى فساد أم لم يقصدوا، وذلك في الأحوال العامة" . ثم إنّ الإمام الشاطبي قد ذكر تعريفاً مختصراً لسدّ الذرائع في كتابه "الموافقات" أثناء بيان الأصول المبنية على النظر في مآلات الأفعال بقوله:"التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة" . وعليه، فيمنع شرعاً كل وسيلة قد تؤدي عن قصد، أو عن غير قصد إلى ما حظره الشارع ونهى عنه، وإنْ كان المتذرّع به فيه مصلحة. فضلا عن ذلك، فإنّ الإمام الشاطبي رحمه الله يؤكّد على أنّ سدّ الذريعة ومنعها كانا بالنظر إلى مآلات الأفعال، وما تفضي إليه من نتائج فيها مفسدة وضرر، بل إنه جعل "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة"  أصلاً، وبنى عليه جملة من القواعد أولاهما وأهمها قاعدة سدّ الذرائع.  

    ويضاف إلى ذلك، أنّ الاستناد إلى دليل سدّ الذرائع في عملية الاجتهاد والاعتماد عليه في استنباط الأحكام الشرعيّة تحقيق لمقاصد الشريعة ومحافظة عليها من جهة دفع الفساد عنها، ومنع ما يؤدي إلى إلحاق ضرر بها. ورعايتها يتم بآتباع مسلكين مهمّين  أحدهما إيجابي والآخر سلبي، ولابد من توفرهما معاً. ومن ثمّ، فإنّ المحافظة الإيجابية على مقاصد الشريعة إنما تتم بجلب المصالح وحفظها، وذلك يتحقق بفتح ذرائع الخير لها والحث على طلبها، بينما المحافظة السلبية عليها تتم بدفع ما يساهم في إتلافها وهدمها وإلحاق ضرر بها، ولا يكون ذلك إلا بسدّ ذرائع الفساد عنها والتحذير من مغبتها. وعلى هذا الاعتبار، فإنّ سدّ الذريعة بمعنى "منعُ ما يجوز لئلا يُتطرَّق به إلى ما لا يجوز" ، كان جاريا على تغليب مفسدة الفعل على صلاحه في المآل دون الحال الظاهر له. ومن ثم، فإنّ الفعل إذا تنازعته مصلحة أصلية ظاهرة ومفسدة مآلية باطنة، فينظر في هذه الحال إلى الأثر الغالب؛ فإذا حصل غلبة المصلحة الأصلية على المفسدة المآلية فيكون حكمه الجواز بناء على جلب المصالح وفتح ذرائع الخير والنفع. وأما إذا حصل غلبة المفسدة المآلية على المصلحة الأصلية، فيكون حكمه حينئذ التحريمَ بناء على دفع المفاسد وسدّ ذرائع الشرّ والضرر. وعلى الجملة، فإنّ "اعتبار الشريعة بسدّ الذرائع يحصل عند ظهور غلبة مفسدة المآل على مصلحة الأصل، فهذه هي الذريعة الواجب سدّها". 


    إذن، فالذريعة التي قال العلماء بسدّها "عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه قويت التهمة في أدائه إلى فعل محظور" ، أو "فعل مباح يتوصل به إلى فعل محظور" . فالتحريم والمنع كانا بناء على ما آل إليه الفعل من صفة الفساد التي تستدعي حظره ومنعه عن الناس، لأنّ عدم سدّه يؤدي إلى هدم مقاصد الشريعة، وإلحاق ضرر بالناس. ناهيك عن أنّ كثيراً من النصوص قد تآزرت على النهي عن أمور فيها مصلحة ذاتية في الظاهر بسبب ما أفضت إليه من مفسدة عارضة له في المآل، حيث إنّ "الآثار الصحاح قد وردت بتحريم أمور كانت في الأصل مأذونا فيها، لأنها تؤدي في كثير من الأحوال إلى مفاسد، وإنْ لم تكن غالبة ولا مقطوعا بها" . فلا جرم أنْ يعوّل أئمة الاجتهاد على سدّ الذرائع في استنباط الأحكام الشرعيّة، والاستناد إليها في المسائل التي يحصل فيها تغليب مفسدة على مصلحة، وهو أمر قد حرصت عليه الشريعة الحرص كلّه، وبنت عليه طائفة من الأحكام. فـ"الذريعة دليل شرعي له مقامه في منظومة التشريع الإسلامي، وليس دخيلاً عليها، إذ إنّ اعتباره يسدد حركة الفقيه نحو مقاصد الشريعة في حياة المكلّفين، ويدفع الحرج عنهم، وتركه يُفوِّت تلك المقاصد في بعض مواضعها، أو يلجئ الفقيه إلى انتهاج مسالك أخرى مستعصية في مسعى تعقب تلك المقاصد" . ومن ثم، فيمكن القول إنّ دليل سدّ الذرائع وما يؤدي إليه من اعتبار مآلات الأفعال يعدّان من مهمّات الأمور التي يجب مراعاتها في عملية الاجتهاد، واستحضاره أثناء النظر في الأحكام الشرعية، حتى تتم المحافظة على مقاصد الشريعة محافظة تامة، من حيث جلب المصلحة ودفع المفسدة.

    وبناء على ما ذكرناه من كلام في ماهية سدّ الذرائع تتضح لنا العلاقة بينها وبين قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة"، حيث إنّ كلٍّ منهما مكمّل للآخر ومتمم له، وأنّ بينهما تلازم، فلا يستغنى بأحدهما عن الآخر. وسبب ذلك أنّ الأحكام الشرعيّة مبنية على رعاية المصالح في جلب المنافع ودفع المضارّ، وجعل لهذه الأحكام مقاصد ووسائل، وجعل للوسائل حكم المقاصد ، فـ"الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أقبح المفاسد أقبح الوسائل" . إذن، فـ"المقاصد هي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها" ، بينما الوسائل يعبّر بها عن الطرق المفضية للمصالح والمفاسد.فسدّ الذريعة يحمي المقاصد من أن يتطرق إليها ضرّ أو فساد وذلك بحماية الوسائل المفضية إليها، وقاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" تدفع الضرر عن المقاصد إذا تزاحمت فيها المنافع والمضارصوْنا للمقاصد من أن يتطرق إليها فساد وإن أدى ذلك إلى تفويت مصلحة. ولذا، فالمجتهد لا يسعه أنْ يلغي مآلات الأفعال فلا يعدّها مؤثرة في الحكم، كما لا يسعه أنْ يغلِّب مصلحة مرجوحة على مفسدة راجحة، بل ينبغي عليه أن أن يسلك مسلك سدّ الذريعة، وأنْ يدرأ المفسدة الراجحة على جلب المنفعة المرجوحة حماية لمقاصد الشريعة وحفظا لها من أنْ يصيبها ضرر.


    فاهتمام المجتهد بسدّ ذرائع الفساد، وتقديم درء المفسدة على جلب المصلحة له مكانة عظيمة في حماية مقاصد الشارع وحفظا لها. وهذا أمر يدلّ على ما لهذه القاعدة من علاقة قوية بدليل سدّ الذرائع، فضلا عما لهما من مكانة مرموقة في المحافظة على قصد الشارع في سائر الأحكام، وشتّى التصرّفات. ولعلّ من الأمثلة الموضّحة لما قلناه أنّ الخلوة محرّمة تحريم الوسائل من باب سدّ ذريعة الزنا، وهي من الذرائع النصيّة، وأما المفسدة التي قصدها الشارع من تحريم هذه الوسيلة هو مفسدة الزنا. فتكون هذه الوسيلة (الخلوة) التي وقع تحريمها من قبل الشارع دفعا لمفسدة الزنا. فلو تعارض جلب منفعة مع دفع مفسدة في حال الخلوة، كأن يكون سبب الخلوة تعليم القرآن، فيكون القول بالمنع ترجيحا لدفع مفسدة الزنا على جلب منفعة تعليم القرآن.


    ولكن عند تعارض سدّ الذريعة مع قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب الصلحة" وهو نادر فإنه تقدم قاعدة الدرإ على سدّ الذريعة في بعض الأحوال. والأمر في ذلك راجع إلى أنه "قد تكون وسيلة المحرّم غير محرّمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة كالتوسّل إلى فداء الأسارى بدفع المال إلى الكفّار...وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال عند مالك". ومعنى ذلك أنّ دفع المال للكفّار فيه ذريعة لإعانتهم على باطلتهم، وفيه تقوية لهم على المسلمين. فهذه الذريعة المحرمة تعارضت مع مفسدة أخرى تربو عليها وهي حفظ أنفس المسلمين من التلف والهلاك، فتمّ تقديم دفع مفسدة القتل بدفع المال إلى الكفّار، ولم يلتفت إلى كون إعطاء المال إلى الكفار ذريعة محرّمة للمعنى الذي بيّناه، وعلى هذا يقاس دفع المال للمحارب دفعا لمفسدة القتال، إذا لم يستطاع غير ذلك.


التنبيه على بعض التطبيقات المعاصرة لقاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة"
    لقد تقرر من الكلام السّابق بما لا يدع مجالا للسكِّ أنّ لهذه القاعدة أثر مرموق في اجتهادات الفقهاء وفتاويهم سواء القدامى منهم أو المحدَثين تبعاّ لمراعاة الشارع الحكيم لتقديم دفع المفسدة على جلب المصلحة أثناء التعارض، ووقوع التزاحم بحيث لا يسطتاع إعمالهما معاً، بل ينبغي الأخذ بأحدهما، وترك الآخر، تقديما وإلغاءاً. وبما أنّ المسائل الفقهيّة المعاصرة تحتاج أنْ تفرد بالبحث حتى تُستوفى أدلتها، وتعطى حقّها ومستحقّها من الاجتهاد، وهذا أمر يتعذّر القيام به في هذا البحث، ولكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض التطبيقات المعاصرة لقاعدة لقاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" لتكون نِبراسا يضيء للقارئ كيفية استخدام هذه القاعدة في المسائل المعاصرة.


    وعليه، فمن المسائل المهمّة في هذا العصر اشتغال طائفة من المسلمين بمصالح غير متعديّة وتقديمها على دفع مفاسد متعديّة أعظم من المصلحة التي يراد جلبها، وإن كان قصده حسنا، ونيته صالحة. ومن أهمها ما يداوم عليه جماعة من المسلمين من آداء الحجِّ كلّ سنة، وما يتبع ذلك من نفقات مالية في القيام بهذه الشعيرة. وفي المقابل نجد طائفة أخرى من المسلمين يعانون من ضيق العيش، وقلّة الزاد يكاد يصل إلى حدّ العدم، بل إلى العدم أحياناً، فضلاً عن أبناء فلسطين، لاسيما أهل غزّة الذين يعيشون تحت حصار ظالم غشوم لا يستطيعون معه توفير القوت الزهيد. ففي مثل هذه الحال تتعارض مصلحة من يقوم بالحجّ لجلب منفعة تختصّ به ولا تتعدى إلى غيره من الحصول على الثواب، والتقرّب إلى الله بما يحبّه ويرضاه مع دفع مفسدة الجوع عن قوم من المسلمين قد تؤدي بهم إلى الهلاك. فعملا بقاعدة دفع المفسدة مقدّم على جلب المصلحة فإنه ينبغي على مثل هؤلاء أن يتبرعوا بنفقات حجّ التطوّع لدفع هذه المفسدة قبل أن يجلبوا لأنفسهم منفعة، لاسيما أن الله مطلّع على السرائر، عالم بالنّيات، فعسى أن ينالوا الأجرين، ولكلّ امرئ ما نوى، وهو الذي يضاعف الحسنات، ويؤتي من لدنه أجرا عظيما.


    وفي هذا الصدد أيضا لو أنّ الأموال التي ينفق في حجّ التطوّع تمّ إنفاقها في إنقاذ بعض البلاد الإسلاميّة التي يعمل فيها شرذمة من المبشّرين والمنصرين لتنصير أبناء المسلمين، وهو ينتشر في بلاد المسلمين انتشار النار في الهشيم. لكان في هذا العمل دفع مفسدة كبيرة عن المسلمين مقابل تفويت مصلحة خاصّة غير متعديّة. ولقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ القرضاوي بقوله:"ولقد عرقتُ بعض المتدينين الطيبين في قطر، وفي غيرها من بلاد الخليج، وفي مصر يحرصون غاية الحرص على أداء شعيرة الحجّ كلّ عام، وأعرف بعضهم يحجّ منذ أربعين سنة...وقد ذكرت لهم سنة ما وكنت حاضرا لتوي من إندونيسيا، وشاهدت ما يصنعه التنصير من أعمال هائلة، وحاجة المسلمين الماسة إلى مؤسسات مقابلة تعليميّة وطبيّة واجتماعيّة...وقلت لهؤلاء الإخوة الطيبين: ما رأيكم لو نويتم هذا العام ترك الحجّ، والتبرع بنفقاته لمقاومة التنصير...ولكن الإخوة قالوا: إننا كلما جا ذو الحجّة أحسسنا برغبة لا نستطيع مقاومتها للحجّ والمناسك، ونحسّ بأرواحنا تحلّق هناك..." .  ولعلّ ذلك من تلبيس إبليس عليهم لأنه صرفهم من خير متعدٍّ نفعه، وكثير أجره إلى عبادة يعود نفعها على صاحبها فحسب.


    وفضلا عن ذلك، فإنّ الأمور المهمّة التي ينبغي التنبه لها، وعدم إغفالها مسألة العقوبات الشرعيّة، إذ إنّ إقامة الحدود واجبة مع أن فيها مفسدة على الجناة لكنها شرعت لأنّ ما تدفعه من مصالح أعظم بكثير مما تجلبه من منافع. فالعقوبات تتعارض فيها المنافع والمضارّ، وبما أنّ جانب المضرّة فيها أقوى تقديما لدفع المفسدة على جلب المصلحة. وسبب ذلك أنّ المصلحة تتكون من جزأين يكمّل أحدهما الآخر، ولا يستغني جزء عن آخر وأعني بذلك جلب المنفع، ودفع المضرّة. وعليه، فإنّ ارتكاب جريمة من الجرائم التي حرّمها الشارع تعدّ مضرة، ودفعها ضروري لتوفر مصلحة الفرد والمجتمع على حدّ سواء. وعليه، فإنّ "من المعاصي ما شرع الله فيه الحدّ، وذلك كلّ معصية جمعت وجوهاً من المفسدة، بأن كانت فساداً في الأرض واقتضاباً على طمأنينة المسلمين" .


    ثمّ إذا نظرنا في أهمّ الأمور التي جاءت الشريعة للمحافظة عليها سواء بجلب مصلحة إليها أو بدفع الفساد عنها والتي تعرف بالكليّات الخمس. "والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها، ويثبّت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود. والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم" . ولذا، فيمكن القول إنّ العقوبات التي سنتها الشريعة الإسلاميّة، ورتبتها على اقتراف بعض الجرائم باعتبارها جزاء عادلا لجملة من الجرائم لها أثر فعّال في حفظ الضروريات، وذلك بدفع ما يمكن أن يتطرق إليها من فساد وضرر، وحمايتها من ذلك كلّه.


    وإيضاحاً لذلك أقول إنّ الجرائم التي سنت لها الشريعة عقوبة دنيويّة تعدّ من الجرائم الكبرى التي يجب دفع أذاها عن المجتمع، ولا تندفع إلا بوضع عقوبة رادعة زاجرة. فكانت تشريعات الإسلام المتعلقة بالعقوبات تندرج ضمن دفع الضرر حفظا لمقاصد الشريعة من أن تنتقص من أطرافها أو أن يتطرق إليها ضرر. فنظام العقوبات في الإسلام يعدّ جزءا مهما من الشريعة، وذلك لما له من أثر كبير في حفظ مقاصد الشارع وحمايتها، بل لا يمكن أنْ تطبق الشريعة كاملة بدون تطبيق نظام الجنايات، وإيقاع العقوبات على مستحقيها كما حددته الشريعة الإسلاميّة. ولذا، فمن الأهميّة بمكان بيان أثر التشريع الجنائي في حفظ مقاصد الشريعة وحمايتها قصد حفظ نظام المجتمع الإسلامي، وانتظام سيره.


    ولقد أشرت إلى هذا الأمر نظرا لما وجده نظام العقوبات في الإسلام من جفاء من قبل أهله، فضلاً عما وجهه الغربيّون من اتهامات للفقه الجنائي الإسلامي ووصمه بالتخلف، وسَلْقهم له بألسنة حِدادٍ حيث بدا لهم بادئ الرأي أنّ تشريعاته لا تتماشى مع كرامة الإنسان فضلا عن منافاة قوانينه للتحضر والتمدّن. فاعتقدوا أنّ التشريع الجنائي الإسلامي لا يتفق مع عصرنا الحاضر ولا يصلح للتطبيق اليوم، ولا يبلغ مستوى القوانين الوضعيّة في رقيّها وتحضّرها. فدراسة التشريع الجنائي الإسلامي دراسة مقاصديّة تبرز حِكمه وعِلله المنوطة به لإثبات خلاف ما أثبته المرجفون في الغرب والشرق لها أهميّة كبرى تجعل الفرصة سانحة لكي نعيد الاعتبار لهذا "الجزء المنبوذ والمظلوم في الشريعة الإسلاميّة"، وإزالة ما أثير حوله من شبهات وأباطيل. ناهيك عن إثبات أنّ الجزء المتعلق بالجنايات صالح للتطبيق في عصرنا الحالي، وفي المستقبل كما كان صالحاً كلّ الصلاحيّة في الماضي، بل لعلنا اليوم في حاجة آكد من قبل لتطبيقه لعموم الجنايات وانتشارها في المجتمعات الإنسانيّة انتشار النار في الهشيم، حيث عمّ الفساد البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.


خاتمة
    وعلى الجملة، فهذه بعض الجوانب المهمّة التي تبرز لنا اعتناء الشريعة واهتمامها بكيفيّة التعامل مع تعارض المنافع المجتلبة والمضارّ المستدفعة، والطريقة المثلى في ترجيح أحدهما على الآخر. وفي ذلك دلالة على سموّ الشريعة وتشريعاتها، وتوخيها المصلحة في كلّ ما شرعته من أحكام، وسنته من تصرفات، وأباحته من معاملات مالية وغير مالية. ولقد اقتصرنا في هذه الدِّراسة على جانب واحد فقط وهو قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة". وتبيّن من ذلك أنّ الشريعة الإسلاميّة جاءت شاملة لمصالح الناس الدنيويّة والأخرويّة سواء بجلب كلّ ما فيه منفعة لهم أو دفع كلّ ما فيه مضرّة عنهم. ثم إنّ المصلحة تتكون من جزأين يكمّل أحدهما الآخر، ولا يستغني جزء عن آخر وأعني بذلك جلب المنفعة، ودفع المضرّة. ولذا، فيعدّ دفع المفسدة مقصداً شرعيّا لا يمكن الاستغناء عنه إذ إنّ المصلحة لا تتحقق بجلب المنفعة فحسب، بل إنّ درأ المفسدة مقدّم على جلب المصلحة في حال التعارض والتزاحم.


    وهذا الأمر يظهر واضحا جليا في قاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" المستمدة من آي القرآن المجيد، وأحاديث البشير النذير، وعليها عوّل الفقهاء في جملة من الاجتهادات والفتاوى وراعوها في ذلك تأسِّيا بمراعاة الشارع لها. وفي نهاية هذه الدِّراسة لقاعدة "درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة" أرى من المهمّ جدا أن يعتني حملة الشريعة بهذه القاعدة، لأنها الفهم العميق لها يؤدي إلى حماية مصالح الخلق، ودفع الضرر عنهم. وهذا الأمر يهمّ كل من انتصب لمقام الاجتهاد والافتاء، وبيان الأحكام الشرعية للسّائلين والمستفتين. وسبب ذلك أنّ المنفعة تجلب إذا لم تعارضها مفسدة، والمفسدة تدرأ إذا لم تصدم بمنفعة، وهذا الأمر لا إشكال فيه، ولا يتنازع فيه العقلاء. ولكن الإشكال يقع في حال تعارض المصالح والمفاسد وتزاحمها مما يقتضي نظرا دقيقا، واجتهادا عميقا. ومن ثمّ، فإنّ التوسّع في بحث هذه القاعدة ودراستها نظريا وتطبيقيا، والتفريع عليها، وتنزيلها في الواقع المعاصر، والتحاكم إليها في حال تعارض المصالح والمفاسد يساعد كثيرا على إتقان الفتوى، وحسن الاجتهاد، وفقه تنزيل الأحكام على الواقع.

 


 
مصادر البحث ومراجعه
ابن عاشور، محمد الطاهر: مقاصد الشريعة الإسلاميّة، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (عمّان: دار النفائس، 1421هـ/2001م).
الغزالي، أبو حامد محمد: المستصفى من علم الأصول، تحقيق محمد عبد السلام عبد الشافي (بيروت: دار الكتب العلميّة،1993).  
الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: الموافقات في أصول الشريعة، شرح عبد الله دراز (بيروت:دار الكتب العلميّة، 1422هـ/2001م).
العلائي، صلاح الدين خليلي كيكلدي: المجموع المذهب في قواعد المذهب، تحقيق مجيد علي العبيدي وأحمد عبّاس (عمّان: دار عمار ومكة المكرمّة: المكتبة المكيّة، 1425هـ/2004م).
ابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم: الأشباه والنظائر، تحقيق محمّد مطيع الحافظ (دمشق: دار الفكر، 1403هـ/1983م).
عزّام، عبد العزيز محمّد: القواعد الفقهيّة (القاهرة: دار الحديث، 2005).   
ابن عاشور، محمد الطاهر: كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، تحقيق طه بن علي بوسريح (تونس: دار سحنون / مصر: دار السّلام، 1427هـ/2006م).
الطّوفي، سليمان بن عبد القويّ: التعييين في شرح الأربعين، تحقيق أحمد حاجّ محمّد عثمان (بيروت: مؤسسة الريّان / مكّة: المكتبة المكيّة، 1419هـ/1998م).       
البوطي، محمّد سعيد رمضان: ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلاميّة (بيروت: مؤسسة الرّسالة ناشرون، ط. 6، 1422هـ/2001م). 
الغزالي، أبو حامد محمد: شفاء الغليل في بيان الشّبه والمُخيل ومسالك التعليل، تحقيق زكريا عميرات (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1420هـ/1999م).  
ابن حجر، أحمد بن علي: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (الرياض: بين الأفكار الدوليّة).
ابن عاشور، محمّد الطاهر: التحرير والتنوير (تونس: دار سحنون للنشر والتوزيع، 1997). 
ابن تيميّة، أحمد بن عبد الحليم: الردّ على المنطقيين، تحقيق عبد الصمد الكبي ومحمّد طلحة منيار (بيروت: مؤسّسة الريّان، 1426هـ/2005م).
القفّال، محمد بن علي بن إسماعيل: محاسن الشريعة في فروع الشّافعيّة، تحقيق محمّد علي سمك (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1428هـ/2007م). 
القشيري، أبو الحسين مسلم بن الحجّاج: الصحيح (القاهرة: دار ابن الهيثم، 1422هـ/2001).
الشاطبي، إبراهيم بن موسى الغرناطي: الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1422هـ/2001م).
الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد: المعجم الكبير، تحقيق حمدي عبد المجيد السّلفي (الموصل: مطبعة الزهراء الحديثة، ط. 2، 1986).
ابن تيميّة، أبو العباس احمد بن علبد الحليم: بيان الدليل على بطلان التحليل، تحقيق فيحان بن شالي المطيري (مصر: مكتبة لينة، ط2، 1416هـ/1996م). 
الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي: الموافقات في أصول الشريعة، شرح عبد الله دراز (بيروت: دار الكتب العلميّة، 2001).
الزركشي، بدر الدّين محمّد بهادر: البحر المحيط في أصول الفقه، تحقيق محمّد محمّد تامر (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1421هـ/2000).
الطوفي، نجم الدّين سليمان بن عبد القوي: التعيين في شرح الأربعين، تحقيق أحمد حاج محمّد عثمان (بيروت: مؤسسة الريّان، ومكّة: المكتبة المكيّة، 1419هـ/1998/).
ابن رشد، أبو الوليد محمّد بن أحمد بن محمّد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق علي محمّد معوّض وعادل عبد الموجود (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1422هـ/2002م.
ابن عبد السّلام، عزّ الدين عبد العزيز: قواعد الأحكام في إصلاح الأنام (بيروت: دار ابن حزم، 1424 هـ/2003م.
العودة، عبد القادر: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي (بيروت:  مؤسسة الرسالة، ط. 14، 1422هـ/2001م). 
القرافي، أحمد بن إدريس الصنهاجي: الفروق، تحقيق خليل المنصور (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1418هـ/1998م). 
ابن تيميّة، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم: مجموع الفتاوى، تحقيق عامر الجزار وأنور الباز (مصر: دار الوفاء، والرياض: مكتبة العبيكان، 1319هـ/1998).
البرهاني، محمد هشام، سدّ الذرائع في الشريعة الإسلامية (بيروت: مطبعة الريحاني، 1406هـ/1985م).
ابن رشد، محمد بن أحمد، المقدمات الممهدات، تحقيق مختار التليلي (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986).
عثمان، محمود حامد، قاعدة سدّ الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي (القاهر: دار الحديث، 418هـ/1996م). 
الحاج سالم، محمد البشير: مفهوم خلاف الأصل دراسة تحليلية في ضوء مقاصد الشّريعة (الولايات المتحدة الأمريكيّة: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1429هـ/2008م). 
الماحي، قندوز محمّد: قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدّين القرافي من خلال كتابه "الفروق" (بيروت: دار ابن حزم، 1427هـ/2006م).
قرضاوي، يوسف: في فقه الأولويات: دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنّة (القاهرة: مكتبة وهبة، ط. 7، 1426هـ/2005). 
الدهلوي، أحمد شاه ولي الله: حُجّة الله البالغة، ضبطه محمد سالم هاشم (بيروت: دار الكتب العلميّة، 1421هـ/2001م).  
الشاطبي، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى: الموافقات في أصول الشريعة، شرح عبد الله دراز (بيروت:دار الكتب العلميّة، 1422هـ/2001م).


: الأوسمة



التالي
بناء الدولة الصالحة
السابق
الهجرة.. دروس حركية في القيادة والجندية (مثنى بن علوان الزيدي)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع