البحث

التفاصيل

الهوية الإسلامية لمصر (محمد عمارة)

الرابط المختصر :

النصُّ الدستوريُّ على أن دين الدولة في مصر هو الإسلام، وأن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، وأن اللغة العربية هي اللغة القومية لمصر: هو جزء أصيل وموروث من تاريخ مصر الإسلامية، الذي مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً. 

وهو تعبير عن هوية الدولة والمجتمع والأمة والحضارة، مثلما تعبر "العلمانية" عن هوية بعض المجتمعات، وتعبر "الليبرالية" عن هوية مجتمعات أخرى، وفي هذه المجتمعات العلمانية والليبرالية تعيش أقليات مسلمة يزيد تعدادها في كثير من الأحايين على تعداد المسيحيين في مصر

ففي فرنسا - مثلاً - ثمانية ملايين مسلم، وفي الولايات المتحدة مثلهم، بل إن الهند تعيش بها أقلية مسلمة يقترب عددها من ثلاثمائة مليون نسمة؛ أي مثل تعداد أمريكا.! 

ولا تطلب أي أقلية من هذه الأقليات المسلمة تغيير هوية المجتمع الذي تعيش فيه، ولا تعترض على الهوية العلمانية لتلك المجتمعات.

ثم إن هذه الهوية العربية الإسلامية لمصر، قد اختارتها وأقرتها اللجنة التي وضعت دستور سنة 1923م، بإجماع أعضائها، بمن فيهم القيادات الدينية المسيحية واليهودية.

ولقد صادقت الأمة بإرادتها الحرة على هذا الاختيار في كل التعديلات التي أجريت على هذا الدستور، على امتداد عقود القرن العشرين، فهذه الهوية العربية الإسلامية لمصر هي تعبير حر عن إرادة الأمة، على اختلاف أديانها، وليست أمراً مفروضاً على غير المسلمين.

ثم، أليس غريباً وعجيباً أن يعترض تقرير الخارجية الأمريكية على نص الدستور المصري على الهوية الإسلامية للدولة والمجتمع؟ وهو ما يقتضيه الإسلام، الذي يجمع بين الدين والدولة - بشهادة فقهاء القانون من المستشرقين وغيرهم - إذ الدولة في الإسلام مدنية مرجعيتها الإسلام، بينما لا يعترض التقرير الأمريكي على دول مسيحية كثيرة؛ كاثوليكية ، وإنجيلية ، وأرثوذكسية: تفصِّل دساتيرها على الهوية المسيحية للدولة، بل وعلى المذهب المسيحي لهذه الدول، مع أن المسيحية - كما يعرف الجميع - تدع ما لقيصر لقيصر، ولا دخل لها في نظم الحكم، وتشريع القانون وسياسة المجتمعات.!
وعلى سبيل المثال لا الحصر:

1- ينص دستور دولة الدنمارك في القسم الرابع على: "أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي الكنيسة المعترف بها من قبل دولة الدنمارك، وعليه ستتولى الدولة دعمها". 

2- كما ينص دستور دولة النرويج في المادة الثانية على:

"أن الإنجيلية اللوثرية ستظل الدين الرسمي للدولة، ويلتزم السكان المعتنقون لها بتنشئة أولادهم بموجبها". 

3- وفي أيسلندا، تنص المادة 62 من الدستور على:

"أن الكنيسة الإنجيلية اللوثرية هي كنيسة الدولة، وبموجب هذا ستظل هذه الكنيسة مدعومة ومحمية من قبل الدولة". 

4- وفي المملكة المتحدة أقر البرلمان مختلف النظم الأساسية التي تعد القانون الأعلى والمصدر النهائي للتشريع أي الدستور القانوني، ومما جاء حول كنيسة إنجلترا:

"إن كنيسة إنجلترا هي الكنيسة المعترف بها، وإن ملك بريطانيا - بحكم منصبه - هو الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا" والملك يلزمه طبقاً لقانون التسوية  بأن "ينّضم كنسياً لمجتمع كنيسة إنجلترا".

وكجزء من مراسم التتويج، يُطالب الملك بأن يؤدي القسم "بالحفاظ على التسوية المبرمة مع كنيسة إنجلترا، وأن يحفظها بدون خروقات، كما يحفظ العقيدة، والشعائر، والنظام الذي يتضمن الحكومة، وذلك بموجب القانون الذي تم إقراره في إنجلترا"

وذلك قبل التتويج بواسطة الأسقف الأعلى للكنيسة رئيس أساقفة كانتربري. 

5- وفي أسكتلندا حيث "الكنيسة المشيخية" المعترف بها رسمياً: "يؤدي العاهل الجديد القسم في مجلس اعتلاء العرش ، ويقسم جميع رجال الدين في الكنيسة يمين الولاء للعاهل قبل توليه منصبه". 

6- وفي اليونان الأرثوذكسية، ينص الدستور في المادة الثالثة، من القسم الثاني على:

" أ - أن الديانة السائدة في اليونان هي ديانة كنيسة المسيح الأرثوذكسية الشرقية.. والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والتي تقر بأنه على رأسها يسوع المسيح، تتحد في مذهبها مع كنيسة المسيح العظمى في القسطنطينية، كما تتحد مع كل كنيسة تتبع نفس المذهب بقدر ما يلتزمون بذلك، وكذلك الكرسي الرسولي والشرائع والتقاليد المجمعية المقدسة، وهي كنيسة مستقلة يديرها المجمع المقدس لخدمة الأساقفة، والمجمع المقدس الدائم المنبثقون عنها، والذي يجتمع على النحو المحدد في الميثاق القانوني للكنيسة، المتمثل للمرسوم البطريركي للبطريرك «تومي» الصادر في 29 يونيو سنة 1850م، والقانون الخاص بالمجلس الكنسي الصادر في سبتمبر سنة 1928م.

ب - ولن يعتبر النظام الكنسي الموجود في مناطق معينة من اليونان مناقضاً للأحكام الواردة في الفقرة السابقة.

ج - ويجب الحفاظ على نص الكتاب المقدس دون تحريف، وتحظر الترجمة الرسمية للنص لأي صيغة لغوية أخرى دون موافقة مسبقة من الكنيسة المستقلة لليونان، وكنيسة المسيح العظمى في القسطنطينية". 

7- وفي الأرجنتين الكاثوليكية ، ينص الدستور - في القسم الثاني – على:

"أن الحكومة الاتحادية تدعم الديانة الرومانية الكاثوليكية". 

8- وفي السلفادور الكاثوليكية، ينص الدستور - الصادر سنة 1983م، والمعدل سنة 2003م - في المادة 26 على:

"أن الشخصية القانونية للكنيسة الكاثوليكية موضع إعتراف، ويجوز للكنائس الأخرى الحصول على إعتراف بشخصيتهم بما يتوافق مع القانون". 

9- وفي كوستاريكا الكاثوليكية، تنص المادة 75 من الدستور على:

"أن الكاثوليكية الرومانية الرسولية هي دين الدولة، وهي تساهم في الحفاظ على الدولة، دون أن يمنع هذا من حرية ممارسة شعائر أي أديان أخرى في الجمهورية، طالما أن هذه الديانات لا تتعارض مع الأخلاق المتعارف عليها أو العادات الحميدة". 

10- وفي المكسيك، تنص الفقرة الثالثة من المادة الأولى على:

"دين الأمة المكسيكية هو، وسوف يكون على الدوام: الكاثوليكية الرسولية، وستقوم الأمة بحمايته بموجب قاونين حكيمة وعادلة، وتمنع ممارسة غيره من الأديان أياً كانت".

تلك عشرة نماذج - وهي مجرد نماذج - لدول مسيحية غربية، تمثل مذاهب المسيحية البروتستانتية والأرثوذكسية والكاثوليكية، تنص دساتيرها على دين الدولة، بل وعلى مذهب هذا الدين، وعلى دعم الدولة للكنيسة والدين، رغم أن المسيحية تدع ما لقيصر لقيصر، وتعلن أن مملكة المسيح ليست في هذا العالم، وإنما في ملكوت السماء. 

ومع كل ذلك، فإن تقرير الخارجية الأمريكية لم ير كل هذه "الأخشاب" التي تمتلئ بها عيون الدول الغربية، ولم ترَ سوى النص الدستوري المصري الذي يقول: إن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وهو نص نابع من كون الإسلام ديناً ودولة، عقيدة وشريعة: يرتبط فيه كل حكم قانوني بمبدأ من مبادئ الدين والأخلاق، وتنضبط فيه السياسة بتحقيق الصلاح الديني، كما يعبر هذا النص عن الهوية الحضارية للأمة عبر تاريخها الطويل.

ثم، أليس غريباً أن يعترض تقرير الخارجية الأمريكية على كون مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، معتبراً ذلك تمييزاً سلبياً ضد المسيحيين المصريين، مع العلم أن التشريعات الإسلامية لا تجور على الخصوصيات الدينية للمواطنين غير المسلمين، الذين أمرت الشريعة الإسلامية «أن يُتركوا وما يدينون».؟! 

إن فقه المعاملات الإسلامية، بالنسبة لغير المسلمين، هو قانون وضعي: يضعه قيصر - أي الدولة - الذي أمرت المسيحية أن تترك له هذه الميادين في الحكم والسياسة والتشريع، وعلاوة على ذلك، فإن القانون الإسلامي يعده بديلاً لقانون مسيحي، إذ المسيحية - كما يعرف الجميع - ليس بها نظم قانونية ولا تشريعات تنظم الدولة والاجتماع.

ولذلك، كان القانون الإسلامي بديلاً للقانون الأجنبي الذي جاء إلى بلادنا في ركاب الغزوة الاستعمارية الغربية، قاصداً مسخ هويتنا الحضارية في التشريع، فالقانون الإسلامي هو قانون وطني، يعبر عن الخصوصية الحضارية لأمتنا في التشريع والقضاء، وليس بديلاً ولا نقيضاً لقانون مسيحي.

وعن هذه الحقيقة عبر الكاتب القبطي صادق عزيز، فقال: "إنه فيما عدا الأحوال الشخصية فإن أحكام الشريعة الإسلامية لا تتعارض إطلاقاً مع المسيحية، وذلك لعدة أسباب، أهمها:

1- أنه إذا كانت الدولة إسلامية؛ فالقوانين الوضعية يجب أن تكون إسلامية، وعلينا قبول ذلك، بل والترحيب به، عملاً بقول المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله».

2- أن أحكام الشريعة الإسلامية تنطبق في كثير جداً من الأحوال مع شريعة العهد القديم، وهي ما جاء المسيح لا لينقضها، بل ليكملها.

3- أن المسيحية لم تأت بأحكام وقوانين وضعية عملاً بقول المسيح: «مملكتي ليست في هذا العالم»، ومن ثم ترك للحكام أو لقيصر وضع الأحكام الأرضية، وأمرنا بأن نعطي ما للحاكم للحاكم". 

ولهذه الحقيقة - حقيقة أن القانون الإسلامي هو قانون وطني؛ فلقد اختاره 63% من المواطنين المسيحيين المصريين، الذين استطلعت آراؤهم حول تطبيق الشريعة الإسلامية - بما فيها عقوبات الحدود - في المنظومة القانونية المصرية، وجاء ذلك في استطلاع الرأي الذي أجراه «المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية» بمصر سنة 1985م، تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد المجدوب، والذي نشره المركز في ذلك التاريخ. 

ولقد صادق على هذا الاتجاه - اتجاه تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على المصريين: مسيحيين ومسلمين - الأنبا "شنودة الثالث" بطريرك الأقباط الأرثوذكس، وصرح لصحيفة «الأهرام» قائلاً:

"إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعد حالاً وأكثر أمناً ، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد، نحن نتوق إلى أن نعيش في ظل: "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". إن مصر تجلب لقوانين من الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا ونحن ليس عندنا ما في الإسلام من قوانين مفصلة، فكيف نرضى بالقوانين الحكومية ولا نرضى بقوانين الإسلام..؟!". 

هكذا مثلت مبادئ الشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريع في مصر منطقة اتفاق بين شعبها، على اختلاف دياناته؛ لأنها كما قال الأنبا «شنودة الثالث» بديل للقوانين الأجنبية المجلوبة من الخارج، وليست بديلاً لقانون مسيحي، ولأنها قد حققت عندما طبقت السعادة والأمن للأقباط، وفي ظلها كان الأقباط أسعد حالاً منهم في ظل القوانين الأجنبية المجلوبة.

إنها شريعة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» التي تحقق كامل المواطنة، وتجعل هذه المواطنة مقدسة، وليست منحة يمنحها حاكم ويمنعها آخرون..! 

ثم، أليس غريباً وعجيباً ومريباً، اعتراض تقرير الخارجية الأمريكية على الهوية الحضارية الإسلامية لمصر - وهي مشترك بين المسلمين والمسيحيين في مصر - بينما تنخرط كل أمريكا وراء إعلان إسرائيل "دولة يهودية"؛ الأمر الذي يمهد ويشرع للعنصرية الصهيونية التي تسعى لتهجير العرب من "إسرائيل": أي تهجير نحو ربع سكان "إسرائيل"..؟!


: الأوسمة



التالي
النّظام السّوريّ: السّقوط المتسارع
السابق
تحركات الحوثيين وخطورتها على المنطقة (خالد مصطفى)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع