البحث

التفاصيل

طفل من القرية

الرابط المختصر :

في قريتي الصغيرة كان (أبو محمود) المصري معلمنا في المدرسة وجارنا في المنزل ونديم أبي في سَمره الذي يبدأ بعد غروب الشمس في الساحة الرملية بين منازل الطين وينتهي بعيد صلاة العشاء، تفتقت أبجديتي على يديه وتعلمت لثغة أحرفي الأولى منه وتلقنت الأعداد من لوحٍ بسيط كنا نتحلق حوله باهتمام وشغف.

انتقلت إلى المدينة وكان متجر أبي في السوق التجاري محاطاً بالمكتبات،كنت أتسلل إلى المكتبة الحكومية فأقرأ كتب مصطفى صادق الرافعي وخاصة "وحي القلم" ثم أولعت بسيرته وتتبعت ما يكتب عنه وحفظت أشعاره الوطنية التى تربي على حب الأهل والوطن والتضحية لإعزازه..

بلادي هواها في لساني وفي دمي

يمجدها قلبي ويدعو لها فمي

ولا خير فيمن لا يحب بلاده

ولا في حليف الحب إن لم يتيم

ولا خير فيمن إن أحب بلاده

أقام ليبكي فوق ربعٍ مهدم

ومن يظلم الأوطان أو ينس حقها

تجئه فنون الحادثات بأعظم

الكلمات التي يجب أن يتمثلها المصريون في أزماتهم ومنعطفات حياتهم ومواطن اختلافهم.

عشت أوار معركة الرافعي (تحت ظلال القران) وجافيت طه حسين والعقاد بسبب ذلك، ثم زرت مكتبة تجارية فرأيت عبقريات عباس العقاد تملأ الرفوف وفيها تدوين مجيد لأحداث الصدر الأول.. حبب إلي  رجال ذلك العصر وحبب إلي العقاد، فاقتنيت مؤلفاته ودواوينه وعكفت عليها، وعلمت أن سيد قطب أحد مريديه في شبابه فقرأت ما خطت يمينه  وأشرقت روحي مع تجلياته الإيمانية وتجددت ثقتي بالإسلام ومستقبل الإسلام وحفظت بعض عباراته الجميلة، وحين احتدمت المعركة السياسية بين الناصرية والفيصلية كان (الظلال) يتلى في الإذاعة الرسمية السعودية، وكانت كتبه توزع مجاناً، وحده ديوان (الشاطئ المجهول)لم أحظ به وكأنه لم يطبع آنذاك، أما (طفل من القرية) فقد وجدته بعد عناءٍ طويل، والتهمت حروفه، وتوقفت عند إهدائه إلى د.طه حسين وكأن الكتاب محاكاة لكتابه (الأيام).. "إنها ياسيدي أيام كأيامك في بعضها من أيامك مشابه وسائرها عنها في اختلاف".. سيد إذن كان مريداً أيضا لطه حسين الذي لم تهدأ بعد معركة كتابه في الشعر الجاهلي وتشكيكه في قصة إبراهيم وإسماعيل ولا معركته الأخرى حول (مستقبل الثقافة في مصر).

كم كان سروري كبيراً حين قرأت أن الرجل حج  وهو في السادسة والستين من عمره، وزار البقاع التي كان فيها إبراهيم وإسماعيل وسجل انطباعه بأنه شعور الغريب حين يؤوب بعد غيبة طويلة جداً إلى موطن عقله وقلبه وروحه.. استعدت كل ذكرياتي القديمة ومنها ما هو من صميم التاريخ ومنها ما هو من صميم العقيدة، أخذتني الرهبة والخشوع والخشية كل مأخذ عندما كنت وحدي.. وراقني وصف أمين الخولي طوافه بخشوع ضارع واستلامه الحجر وتقبيله ببكاء ونشيج.. وحين سئل عن شعوره وقد تجرد للإحرام قال: أترك الجواب لما بين الله وبيني من حساب وإنه لعسير وأرجو أن يجعل الله من عسره يسرا!

حين تحتدم معركة مع رمز زل أو عثر يلتفت المخلصون لخطر الإساءة على المتلقين، وحين تصبح المعركة جزءاً من التاريخ يصبح النظر في تحولات البشر ومراحلهم وتراجعاتهم رصيداً للأجيال وإنصافاً للرجال.. جبلتُ منذ ذلك الحين على الفرح بصوابات الناس وأوباتهم وتغليب احتمال الرجوع إلى الحق، وحساب الخلق على خالقهم.

أجمع نقودي وأتسلل إلى مكتبة نائية عن دكاني وأبقى فيها ساعات أقلّب كتباً متراكمة مرصوصة فيشدني (نجيب محفوظ) وأقتني رواياته وأقاصيصه خفية، فليس يجدر أن يرى طالب في المعهد العلمي الشرعي يحمل كتاباً على غلافه صورة فتاة، وأسعد حين أجد له مجموعة قصصية عنوانها (دنيا الله) وكأني أبحث بين ثناياها عن معنى إيماني يسمح لي بالتصالح مع تراثه ولا غرابة أن أفرح بدراسة عن (الإسلامية في أدب نجيب محفوظ) نشرت في مجلة خليجية تحاول تفكيك رموز وأبطال روايات الكاتب وتضفي عليها بعدًا إسلامياً، لكن كيف الخلاص من (أولاد حارتنا) التي تبدو حكاية لقصة الكون وفيها تجديف بحق الألوهية  والنبوة؟.

يطرح بعضهم سؤال: هل سيزيح سيد قطب نجيب محفوظ في مصر؟ والواقع أن مصر ستظل حافلة بتنوعها وسيظل فيها الإبداع الفني الذي يحترم المقدس ويقف دونه، ويتساءل آخرون عن موقف الإخوان من الأدب والفن والإبداع؟ وأعتقد أنه يجب أن يضيفوا إلى هذا سؤالاً آخر عن موقف المثقفين والمبدعين من المقدسات والقيم الإيمانية التي هي جوهرٌ في الهوية المصرية!


: الأوسمة



التالي
رسالةٌ إِلى الشَّبَاب
السابق
ربط الله سبحانه وتعالى الرحمة بالاصلاح والاخوة بين الناس وبالتقوى في التعامل وخشية الله

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع