البحث

التفاصيل

حرب أهلية تهدد بنغلاديش

بنغلاديش -ثالث أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان- تحترق بنيران العداء السياسي. حكومة ألقت القبض على معظم الخصوم السياسيين وبالأخص الإسلاميين منهم ومصرة على إعدامهم عبر محاكم خاصة. ومعارضة لا ترى الاعتقالات والمحاكمة وأحكام الإعدام سوى عمليات انتقام سياسي، تحاول الحكومة من خلالها تصفية الخصوم وخلق موجة العصبية السياسية لتكون ورقتها الرابحة في انتخابات العام القادم.

فما حقيقة الصراع الراهن الذى أودى إلى الآن بحياة المئات من المدنيين وأصاب الحياة اليومية بشلل شبه كامل وجعل المراقبين يخشون من نشوب حرب داخلية؟

الخلفية التاريخية
ترجع جذور الصراع إلى بداية استقلال باكستان عندما كانت بنغلاديش الحالية شطرها الشرقي وكانت تسمى باكستان الشرقية. طلب القوميون من البنغاليين أن تكون اللغة البنغالية هي اللغة الرسمية للبلاد رغم أن العرق واللغة البنغالية كانت إحدى عشرات العرقيات وإحدى اللغات المحلية.

أما اللغات المطروحة لتكون لغة رسمية لدولة حديثة الاستقلال فكانت: الأردية لكونها اللغة الجامعة بين أغلب العرقيات، والعربية لكونها لغة القرآن والإنجليزية. عندما اختيرت اللغة الأردية لغة رسمية اتهم هؤلاء القوميون أن البنغاليين مهمشون. ولم تمر بعد ذلك حادثة أو مناسبة إلا ورفعوا عقيرتهم ليزرعوا في قلوب الشعب البنغالي أنه مهمش ومهضومة حقوقه وأن الشطر الغربي من البلاد ينهب ثرواته.

وكان الزعيم البنغالى مجيب الرحمن الشيخ كثيراً ما يقول عندما يزور العاصمة إسلام آباد إنه يشم رائحة الكتان البنغالي من شوارعها. لا شك أن الحكومات الفاسدة حرمت الشعب من كثير من الحقوق. وصحيح كذلك أن الشطر الشرقي من البلاد كان يحتاج إلى كثير من العناية والحقوق ولكن أن تفتت البلاد وتقسم العباد على هذا الأساس كان أمراً لا يقره العقل.

استمر هذا الشد والجذب السياسي إلى أن حان موعد الانتخابات عام 1970 وكانت فاصلة في تاريخ البلاد. حاز فيها مجيب الرحمن أغلبية مطلقة في باكستان الشرقية كما فاز ذو الفقار على بوتو بأغلبية ساحقة في شطرها الغربي.

كان الرجلان طموحين وسعى كل منهما لأن يصبح زعيما وحاكما للبلد حتى ولو على حساب الوحدة الوطنية. دخلت الهند على الخط وأدخلت قواتها إلى باكستان الشرقية ونشبت حرب طاحنة بين البلدين. كانت أهم ورقة في يد الهند إثارة النعرات الطائفية في باكستان الشرقية والتي تطورت إلى حرب داخلية طاحنة، راح ضحيتها للأسف عشرات الآلاف من البشر.

لم تضع الحرب أوزارها إلا بعد أن أعلن الشطر الشرقي انفصاله عن باكستان وتكوين بنغلاديش. وكانت أنكى اللحظات لباكستان وأسودها على جبين القيادة السياسية والعسكرية حينما ألقى قائد الجيش الباكستاني هناك سلاحه أمام جنرال هندي في إحدى أكبر ميادين مدينة داكا. الأمر الذى أدى إلى وقوع تسعين ألف عنصر من عناصر الجيش الباكستاني أسرى حرب لدى القوات الهندية.

نعم أسرى في يد الجيش الهندي لا البنغلاديشي. تشير نيانترا سهغل -إحدى قريبات رئيسة الوزراء الهندية آنذاك- في كتابها الحديث: "أنديرا غاندي صراع مع السلطة" إلى أن الأخيرة كانت تعتبر أكبر إنجازات حياتها أنها فصلت الشطر الشرقي عن باكستان وحولته إلى بنغلاديش.

صراع داخلي
انفصلت "بنغلاديش" وأعلنت استقلالها كما أعلنت باكستان والدول الإسلامية اعترافها بالدولة الوليدة ولكن عدوى الصراع انتقلت إلى صراع داخلي وصراع النفوذ. حزب "عوامى ليغ" (AL) أي رابطة الشعب بزعامة مجيب الرحمن كان وما زال أحد أهم أطراف الصراع.

أما الطرف الثاني، فكما يقال إن الثورات المسلحة تأكل أولادها، لم تمض ثلاث سنوات إلا وقد ثار نفس الضباط البنغاليين المؤيدين لمجيب الرحمن ضد زعيمهم واغتالوه كما اغتالوا معظم أفراد أسرته ولم تنج منها إلا ابنتاه: حسينة (رئيس الوزراء الحالية) وأختها "ريحانة" (تعيش في بريطانيا كزعيمة احتياط) لقد نجتا لأنهما كانتا خارج البلاد آنذاك.

توالت فترات حكم جنرالات مجيب الثائرين ضده إلى أن اغتيلوا هم بدورهم وأصبح أهم الإرث السياسي في يد أرملة الجنرال ضياء الرحمن، خالدة ضياء زعيمة الحزب القومى البنغلاديشي (BNP). وهنا بيت القصيد انقسمت الأحزاب السياسية البنغلاديشية إلى كتلتين أساسيتين. كتلة حليفة للهند بزعامة حسينة بنت مجيب وكتلة معارضة للنفوذ الهندي المتزايد وتتزعمها خالدة ضياء.

تبادلت السيدتان فترات الحكم في بنغلاديش، دورتان لكل منهما. وتكيل الكتلتان اتهامات مماثلة لبعضهما البعض. كل منهما يتهم الآخر بالفساد الكبير خاصة الفساد واختلاس الأموال عن طريق أفراد أسرتيهما. أما الاتهامات المغايرة فكتلة السيدة خالدة (رئيسة الوزراء السابقة) تتهم حسينة (رئيسة الوزراء الحالية) بالخنوع التام للسيطرة الهندية وعلى حساب المصالح الوطنية. كما أن حزب السيدة حسينة يتهم كتلة السيدة خالدة وخاصة حليفتها الجماعة الإسلامية بأنها ارتكبت جرائم الحرب أثناء حرب الاستقلال عام 1971.

محكمة جرائم الحرب
فور تولي الحكم بعد الانتخابات الأخيرة عام 2011 ألقت الحكومة القبض على جميع قيادات الجماعة الإسلامية على رأسهم البروفيسور غلام أعظم (94 عاماً) وكذلك على عديد من قيادات حزب خالدة ضياء على رأسهم مستشارها السيد صلاح قادر تشوهدري. ثم أنشأت لهم محاكم خاصة أسمتها جزافاً "المحكمة الدولية لجرائم الحرب". أنها رغم كونها محكمة محلية كل قضاتها من الموالين للحكومة ولم يسمح لأى قاض أو محام من أية دولة في العالم أن يحضر حتى ولو بصفة مراقب.

بدأت المحكمة أعمالها منذ سنتين ونصف السنة واستمرت المعارضة في احتجاجاتها طوال هذه الفترة. وكانت أصعب اللحظات في تاريخ القضاء البنغلاديشى في شهر ديسمبر/كانون الأول المنصرم عندما نشرت مجلة "إكونومست" البريطانية نص المكالمات بين رئيس المحكمة نظام الحق وصديقه المقيم في بلجيكا. يعترف فيها رئيس المحكمة ويؤكد على أن المحاكمة هي محاكمة سياسية بحتة وأن الحكومة تمارس عليه ضغوطاً كبيرة لإصدار حكم الإعدام ضد قيادات المعارضة. وأن المحاكمة مسرحية أعدت أحكامها مسبقاً. (مجموع وقت المحادثات 17 ساعة علاوة على 230 رسالة بالبريد الإلكتروني) ثارت ثائرة الشعب بهذه الفضيحة واضطر رئيس المحكمة نظام الحق إلى الاستقالة.

مكالمات ومراسلات القاضي المستقيل كشفت حقيقة المحكمة وفضحت الحكومة لكنها لم تغلق باب المحاكمة وعينت الحكومة رئيساً جديداً للمحكمة. خلال شهرين من تولى المسؤولية أصدر الرئيس الجديد أحكاماً تتراوح بين الإعدام والمؤبد ضد ثلاث شخصيات دينية.

أهم هذه الشخصيات الشيخ دلاور حسين سعيدي أشهر مفسري القرآن. بمجرد أن نطقت المحكمة بحكم الإعدام ضد الشيخ سعيدي بتاريخ 28 فبراير/شباط الماضي اندلعت في ربوع بنغلاديش مظاهرات احتجاجية كبيرة. اندفع مئات الآلاف من عامة الناس إلى الشوارع مرددين شعارات منددة بالمحكمة وبقرارها وكذلك بالحكومة. جابهت الحكومة هذه الاحتجاجات بإطلاق النار الحي على الجماهير. الأمر الذى أدى إلى قتل 170 شخصاً وجرح الآلاف في خلال أسبوع واحد.

إحدى أسباب موجة الاحتجاجات هذه ترجع إلى الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها دلاور حسين سعيدي، إذ يعتبر أكبر وأشهر مفسري القرآن في بنغلاديش في الوقت الراهن. يحبه الناس حتى من داخل الحزب الحاكم. منذ ذلك الوقت أصبحت الحياة اليومية في بنغلاديش شبه مشلولة. شهد شهر مارس/آذارالماضي فقط خمسة عشر يوماً من الإضرابات على المستوى الوطني والإقليمي. وبتاريخ 6 أبريل/نيسان الجاري كانت أكبر وأضخم مظاهرة في تاريخ بنغلاديش. إذ اجتمع أكثر من مليوني متظاهر في العاصمة داكا، قادمين من جميع أقاليم البلاد.

منعطف خطير
الأمر الذى كان بمثابة صب الزيت على النار, فتصريحات بعض المدونين الموالين للحكومة والمطالبين بتنفيذ حكم الإعدام ضد القادة المعتقلين أشعلت الوضع، خاصة أن بعضهم تناول الذات الآلهية.

وقال أحدهم بكل وقاحة "لن يستطيع أحد أن ينقذ سعيدي من الإعدام حتى الله بنفسه ولو نزل إلى الأرض لينقذه لأعدمناه كذلك", اغتيل هذا المدون على يد عناصر مجهولة ولكن موجة الغضب والاحتجاج متواصلة. ذلك لأنه لم يكن وحيداً في هذه الكتابات ولأن المطالبة الأساسية له ولمجموعاته كانت إعدام القادة الإسلاميين وتحويل الدولة إلى دولة علمانية بعد حذف البسملة وحذف البنود الخاصة بالهوية الإسلامية من الدستور، والحكومة كذلك تصر على هذين المطلبين.

بذلك أصبحت المظاهرات والإضرابات التي كانت ضد المحاكمات وضد أحكام الإعدام أو لتأييدها تحول العديد منها إلى المطالبة بإسقاط حكومة حسينة واجد. في المظاهرة التاريخية بتاريخ 6 أبريل/نيسان الذى دعا إليها تحالف "حفاظت إسلام" أي تحالف من أجل حفظ الإسلام، أعلن المجتمعون أنهم يمنحون الحكومة مهلة ثلاثة أسابيع لتحقيق مطالبه الستة عشر وأن جميع خياراته بعد ذلك تكون مفتوحة.

بدلاً من أن تتعامل الحكومة مع الموضوع بمحاولة إخماد النار ونزع فتيل التوتر صعدت من تهديداتها. أعلن المسؤولون الحكوميون أن ساعة الصفر لإلقاء القبض على زعيمة المعارضة خالدة ضياء باتت قريبة وأن الحكومة لن تثنيها الضغوط الداخلية أو الخارجية عن إعدام القادة المعتقلين.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنه علاوة على المظاهرات والإضرابات الداخلية المتواصلة هناك رسائل احتجاج قوية وجهتها حكومات ودول إسلامية وعالمية عديدة إلى حكومة بنغلاديش. على رأسها رسالة شديدة اللهجة وجهها الرئيس التركي إلى نظيره البنغلاديشي.

وبعد صدور حكم الإعدام واغتيال العشرات من المدنيين استدعت وزارة الخارجية التركية السفير البنغلاديشي لتبدي استياءها على القرار وتخبره بأن تركيا قد تعيد النظر في علاقاتها مع بنغلاديش إذا استمرت الأخيرة في مخالفاتها لحقوق الإنسان الأساسية.

كما أصدر العديد من الشخصيات العالمية البارزة مثل الشيخ يوسف القرضاوي والقادة السياسيين الكبار والبرلمانيين من جميع أنحاء العالم، بيانات منددة بسياسات الحكومة الببنغلاديشية.

وطالبت هذه الشخصيات والرموز العالمية بطي صفحة الخلافات الداخلية التي أزهقت الأرواح وأضرت باقتصاد وسمعة البلاد وقد تدفعها إلى نفق مظلم لا سمح الله.

لو استجابت الحكومة لهذه النداءات الوطنية والعالمية وفتحت بابا جديداً للتفاوض والوفاق الوطني فسوف تنجو وتنجو معها البلاد. لكنها لو استمرت على خط المواجهة والصراع والانتقام فيتفق المراقبون على أن البلد كله سوف يدفع فاتورة ذلك ولا يعلم أحد إلا الله كم ستحصد من الأرواح وإلى متى ستصحب هذا القطر الإسلامي الشقيق لعنة العصبيات والانقسامات والدماء.


: الأوسمة



التالي
مشروع تقسيم العالم الإسلامي
السابق
بعد الفيتو.. القيادة الصينية الجديدة ودبلوماسية التفسير

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع