البحث

التفاصيل

مشكلة مجتمع المتفجرين

هب أننا استجبنا للدعوات والنداءات التي ترددها بعض الكتابات الصحفية والبرامج التلفزيونية، فحكمنا على الرئيس المصري محمد مرسي بالفشل وحملناه المسؤولية عن قتل أطفال أسيوط، ونجحنا في دفع رئيس الوزراء إلى الاستقالة، بعدما استقال وزير النقل وعزل رئيس هيئة السكك الحديدية، فهل نتوقع أن يوقف ذلك مسلسل الإهمال في مصر؟..

 

 أشك في ذلك كثيرا، لأن المسألة أعقد من أن تعالج بقرارات إجرائية من ذلك القبيل.


الدليل على ذلك أن حوادث القطارات مثلا أطاحت حتى الآن بثلاثة وزراء خلال السنوات العشر الأخيرة ولم يغير ذلك من الواقع شيئا.


بل إن حادث احتراق أحد قطارات الصعيد الذي أدى إلى قتل نحو 400 مواطن ترتب عليه تقديم 11 مسؤولا بهيئة السكة الحديد إلى المحاكمة، لكن المحكمة أصدرت حكمها ببراءتهم جميعا، فعادوا إلى مراكزهم وظل الحال كما هو عليه دون أدنى تغيير.


إن أسهل شيء أن يتنافس البعض على كيل الاتهامات والدعوة إلى إعدام كل رموز السلطة أدبيا وسياسيا.


وأزعم أن كثيرين تحمسوا لهذه المهمة باعتبارها خيارا ميسورا بوسع أي أحد أن يلجأ إليه.


إلى جانب أن ذلك يحقق للبعض هدفا يسعون إليه طوال الوقت وهو تصفية الحسابات السياسية والتاريخية، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يحقق المصلحة الوطنية أم لا.


أما الصعب حقا فهو أن ننحي المشاعر والحسابات الخاصة جانبا، ونفكر في الموضوع من مختلف زواياه، لكي نحدد مسؤولية السلطة والمجتمع، ولكي نعرف بالضبط ما إذا كان الخلل جديدا أو متجذرا وكامنا، وصلته أوثق بتجارب الماضي وإخفاقاته.


إن حوادث الطرق وفواجع السكك الحديدية لها تاريخ في مصر، كما أن الإهمال صار عنوانا كبيرا لوصمة تلاحق الجميع، من مؤسسات السلطة إلى منظمات المجتمع إلى سلوكيات الأفراد.

وإذا أخذنا مثلا كارثة أسيوط التي أدت إلى مقتل أكثر من خمسين طفلا فسنجد أن أجهزة الدولة أهملت في تأمين المزلقانات (قرأت أن في مصر 1470 مزلقانا بحاجة إلى تأمين)، وإن الخفير أو الحارس أهمل في أداء واجبه (قيل إنه كان نائما)، وإن جهاز الإدارة على مستوى المحافظة لم يكترث بالحفاظ على حياة المارة الذين يضطرون إلى عبور شريط السكة الحديد كل يوم.


كما أن المجلس المحلي لم يؤد أي دور لا في مراقبة أداء الجهاز الحكومي، ولا في محاسبة المقصرين من قياداته.


في الوقت ذاته فإن الأهالي تعاملوا بسلبية مع ما اعتبروه خطرا يهدد حياتهم وحياة أبنائهم، فلم يغضبوا إلا حين وقعت الواقعة وحلَّت الكارثة.


الخلاصة أنه في مواجهة الخطر الذي ظل ماثلا أمام الجميع، فإن أحدا لم يتحرك، ووقفت كل الأطراف متفرجة عليه طوال الوقت.


وهذه هي المشكلة الكبرى التي نواجهها في مصر بعد الثورة، والتي تمثل تحديا كبيرا، مطلوب من النظام الجديد بكل أطرافه أن يتعامل معه، لكي يتحول الناس في مصر من متفرجين إلى مشاركين, ومن مستقبلين إلى مرسلين.


وذلك يشكل أحد مفاتيح النهضة التي نكثر من الحديث عنها هذه الأيام، فنهتف لها ونلوك مفرداتها دون أن نقدم تصورا لمداخلها أو خريطة لإنجازها.


 

إذا قلت إن المسؤولية موزعة على مختلف الأطراف، فإن ذلك لا يعني أنها موزعة بالتساوي بينها، وإنما تظل السلطة هي المسؤول الأول والأكبر عن رسم السياسات وتحديد الأولويات.


وقد أردت فقط أن أنوه بأنها ليست المسؤول الأوحد.


بالتالي فإنه ليس من الإنصاف أن نصوب إليها كل أصابع الاتهام، بل نعتبرها متهما أول، وندرج في قائمة الادعاء بقية المتهمين الذين رأوا الخطر بأعينهم وظلوا يتفرجون عليه منتظرين أن تتولى الحكومة الأمر وتحمل عنهم كل العبء.


إذًا لسنا فقط بصدد حالة تقاعس اشترك فيه الجميع، وإنما أيضا بصدد ثقافة سلبية ومنظومة قيم همَّشت دور المجتمع وارتضت له أن يظل متفرجا ومكتوف الأيدي، فضمرت لديه إرادة الفعل وقُتلت الرغبة في المبادرة، فانسحب وانزوى، ولم يفِق إلا على مشهد الكارثة.


وإذا صح ذلك فهو يعني أنه لا سبيل إلى تحقيق الاستنفار المنشود، الذي يستدعي المجتمع إلى ساحة الفعل إلا من خلال الممارسة الديمقراطية الحقيقية الكفيلة بإخراج المجتمع من محبسه، وإشراك المواطنين في بناء الوطن وحراسته.


: الأوسمة



التالي
فصل في إجهاض الثورات وتصفيتها
السابق
ثقافة الإنجاز

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع