البحث

التفاصيل

السلطان أردوغان!

 

إنه الربيع التركي. هكذا بادر كثيرون إلى وصف الاحتجاجات التي انطلقت بشكل عفوي ومحدود (نحو 500 متظاهر) في ميدان تقسيم بإسطنبول في 27 من شهر مايو، ثم اتسعت رقعتها لتشمل مناطق واسعة من تركيا.

يبدو مضحكًا أن توصف أي تظاهرة احتجاجية في أي مكان في العالم بالربيع، وهو تصوير لم يرق بالطبع لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، الذي صرّح قائلاً: إنَّ "أولئك الذين يصنعون الأخبار ويُسَمّون هذه الأحداث ربيعًا تركيًا لا يفهمون تركيا، نحن لدينا ربيع في تركيا، لكن ثمة من يريد أن يحيل هذا الربيع إلى شتاء".

 

بدا أردوغان غاضبًا ومحبطًا وهو يهاجم المحتجين أو مثيري الشغب الذين وصفهم بـ "حفنة من الناهبين .. يسيرون ذراعًا بذراع مع الإرهابيين".

 

اللافت أنه ألقى باللوم على تويتر قائلاً: "هناك الآن وباء اسمه تويتر، أفضل نماذج الأكاذيب يمكن العثور عليها هناك. الميديا الاجتماعية، في نظري، هي أسوأ خطر على المجتمع".

 

تفجرت التظاهرات في ميدان تقسيم احتجاجًا على عزم سلطات إسطنبول إزالة منتزه عام، يُعرف بمنتزه جيزي، لتؤسس مكانه ثكنات عسكرية عثمانية -كانت قد بُنيت عام 1780، ثم هدمها مصطفى كمال عام 1940م-، وافتتاح مركز تسوق داخلها.

 

اتسعت الاحتجاجات إلى نحو نصف محافظات البلاد، وشهدت بعض المدن كأنقرة وأزمير مواجهات بين الشرطة والمحتجين. واعترف أردوغان بتدخل الشرطة "المبالغ فيه"، ووعد بتحقيق، مؤكداً في الوقت ذاته عزمه على المضي قدمًا في مشروع إزالة المنتزه، الذي وضعه في إطار تطوير شامل لساحة تقسيم، يحقق لها الازدهار، ويكسبها من جديد ألقها العثماني.

 

بل أعلن رئيس الوزراء أنه سيبني مسجدًا وسط تقسيم، قائلاً: إنه لن يحتاج لتنفيذ ذلك إلى إذن من حزب الشعب الجمهوري المعارض ولا إلى "بضع متسكعين" بحسب تعبيره.

 

وأنكر أردوغان تهمة الاستبداد التي حاولت المعارضة إلصاقها به قائلاً: "إذا كانوا يسمون الذي يخدم الشعب دكتاتورًا، فليس بوسعي قول شيء".

 

أردوغان معه حق، لقد فاز حزبه؛ حزب العدالة والتنمية، ثلاث مرات في الانتخابات، واستطاع تحويل تركيا إلى الاقتصاد رقم 17 في قائمة أكبر اقتصادات الكون.

 

عندما جاء أردوغان إلى الحكم عام 2002م كانت البلاد ترزح تحت وطأة ديون بلغت 26 بليون دولار، سددتها الحكومة في شهر مايو المنصرم، ثم قامت بإقراض دائنها، صندوق النقد الدولي، 5 بلايين دولار. وارتفع دخل الفرد من 2700 دولار سنويًا عام 2002م إلى 12 ألف دولار عام 2013م، وقفز الاحتياطي إلى 135 بليون دولار، بينما ارتفعت الصادرات من 32 بليون دولار عام 2002م إلى 154 بليون، وانخفضت البطالة إلى أقل من 9 في المئة، وانتشرت الجامعات في تركيا لتبلغ 170 جامعة، بعد أن كانت 70 فقط عام 2002م.

 

في زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، أبلغ أردوغان معهد بروكنغز ما يلي: "تركيا لا تتحدث الآن عن العالم، العالم هو الذي يتحدث عن تركيا" .

 

كيف إذن يحتج مواطنون أتراك على حكومة قدمت لهم كل هذه الإنجازات، وصنعت ما يمكن وصفه بالمعجزة الاقتصادية؟ الأسباب تبدو محيرة، لكنها في حقيقتها مفهومة.

 

ثمة أسباب عدة تشكل بمجموعها قلقًا لدى شريحة من الأتراك حول مستقبل بلادهم.

 

في الأسبوع الماضي أقر البرلمان قانونًا، لو صدّق عليه الرئيس عبد الله غول سيحد من بيع الكحول وشربها في البلاد، حيث ينص القانون على منع كل إعلانات الكحول، وعدم السماح بفتح حانات جديدة على بعد 100 متر من المساجد والمدارس، ومنع بيعها بين العاشرة مساء والسادسة صباحًا وهو وقت الذروة.

 

صحيفة الغارديان نشرت تقريرًا بعنوان: "قوانين الكحول التركية قد تسدل الستار على حياة الليل في إسطنبول"، التقت خلاله بمالك محل خمور، اسمه رافي سيروبيان، أبلغها أن معظم مبيعاته تكون بعد العاشرة مساء، وأن عائلته تدير المحل منذ 40 عامًا، لكنه قد يضطر إلى البحث عن بدائل.

 

الصحيفة التقت أيضًا بحيدر طاس، مدير إحدى الحانات في المدينة، الذي قال لها: "أماكن كهذه لا تدخل في رؤية حزب العدالة والتنمية لإسطنبول، أية قيود على استهلاك الكحول، ستجعل الأمور أصعب علينا".

 

قارن بعض أعضاء حزب الشعب الجمهوري بين الذين اقترحوا مشروع قرار تقييد الكحول بالسلطان العثماني مراد السادس الذي كان صارمًا ضد الخمر، وكان يجوب شوارع إسطنبول متخفيًا لمعاقبة المخالفين.

 

تقول الغارديان: إنه سيجري التعتيم في الأفلام على تناول الخمر، وهو ما يحدث الآن في التدخين، ويخشى أنصار العلمانية من حظر كامل للخمور، بينما تصر الحكومة على أن هدفها تحسين الصحة العامة، وحماية الأطفال.

 

وعلى غير بعيد من منتزه جيزي (نصف ساعة بالسيارة شمالاً) يجري تشييد جسر السلطان سليم الأول، الذي يربط جانبي إسطنبول الآسيوي والأوروبي. تبلغ تكلفة الجسر، الذي أجازه البرلمان، 3 بلايين دولار، وسيكون أطول وأوسع جسر في العالم.

 

هنا يجادل أنصار البيئة بأن الجسر سيتسبب في مذبحة للمساحات الخضراء تجتث 2.5 مليون شجرة من جذورها، وثمة مشكلة أخرى تتعلق بالاسم، فالأتراك السنة، وهم الأغلبية الساحقة من الشعب، ينظرون إلى السلطان سليم بوصفه بطلاً فاتحاً مزق الصفويين في معركة جالدران الشهيرة، بينما تتهمه الأقلية العلوية/النصيرية بارتكاب مذبحة ضد أبناء طائفتها، وهو ما ينفيه مؤرخون وأكاديميون.

 

الرئيس غول برر تسمية الجسر بالقول: إنه وفاء لسلطان عظيم وسّع حدود إمبراطوريتنا، وجلب آثارًا مقدسة للنبي صلى الله عليه وسلم إلى إسطنبول.

 

كثير من العلمانيين يشعرون أن حزب العدالة والتنمية ليس وفيًا للقواعد التي أرساها مؤسس الجمهورية، أتاتورك، من ذلك مثلاً توجيه بلدية أنقرة المواطنين من خلال لافتات توعوية في محطات مترو الأنفاق إلى الإحجام عن تبادل القبلات في العلن، والتصرف وفق القيم الأخلاقية.

 

في 25 من شهر مايو الماضي شهدت إحدى محطات الأنفاق تظاهرة، شارك فيها 100 من الرجال والنساء، قاموا بتبادل القبل، ووضعوا على أفواههم أشرطة لاصقة احتجاجًا على اللافتات.

 

تطور آخر اثار أيضًا حفيظة العلمانيين، وهو منع الخطوط الجوية التركية موظفاتها من وضع أحمر الشفاه، ومن طلي الأظافر باللونين الأحمر أو الوردي، ومنعهن من الظهور بشعر لا يبدو لونه طبيعيًا.

 

أخيرًا، دعا أردوغان الشعب التركي إلى إنجاب 3 أطفال على الأقل، وتعمل حكومته على تقديم حوافز لتشجيع الشباب على الزواج والإنجاب.

 

الانتفاضة إذن لم يشعلها مجرد الغضب على إعادة بناء ثكنات عثمانية، ولا الخوف على البيئة.

 

إنها القلق العميق لدى شرائح علمانية في المجتمع من تفكيك بنية النظام الاجتماعي الذي ساد عقودًا.

 

كتبت آنا لوي سوسمَن في الفاينانشال تايمز قبل عام عن استخدام حكومة أردوغان ذريعة التجديد الحضري لتنفيذ أجندة محافظة في العاصمة أنقرة، مُستهدِفةً تحديدًا تجارة الجنس التي طالما نظمتها الدولة، ومُصدرةً تعليماتها للشرطة بملاحقة المومسات بتهم زائفة، وإزالة مواخير الدعارة من أجل بناء أحياء جديدة وراقية.

 

هل أحرق أردوغان وحزبه المراحل في برنامجهم الرامي إلى تخفيف قيود العلمانية الصارمة؟ لا. حسنًا فعل أردوغان عندما أصر على استمرار مشروع إعادة تشكيل ميدان تقسيم، يجب أن يستمر في برنامجه الذي انتُخب لتحقيقه، وقد عبر عن ذلك بقوله: إن الأمة التركية انتخبتنا لنستعيد تاريخنا.

 

ليس بوسع زعيم منتخب التراجع أمام تظاهرات يغلب عليها الشغب، ويؤججها الخوف من تهاوي بقايا نموذج متطرف من العلمانية، مصادم لهوية البلاد، ومتنكر لتاريخها.

 

هل ثمة خوف على جمهورية أردوغان التي تشكلت بمجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم؟


لا، فقيادة الحزب استطاعت إعادة العسكر إلى ثكناتهم، وتحجيم المحكمة الدستورية، بينما نضج المجتمع المدني التركي كثيراً، وضربت الثقافة الديموقراطية بجذورها في الممارسة السياسية، ولم يعد أحد في تركيا يقبل بفكرة الانقلاب، أو يبحث عن إجابات في إطار النموذج القديم، بما في ذلك المعارضة العلمانية.

 

هل أفرط أردوغان في الثقة بنفسه؟


ربما. وعليه أن يحسب خطواته جيدًا، وأن يتعامل مع نبض الشارع، بعيدًا عن الزهو، وبعيدًا عن العنف بالطبع.

 

ربما يفكر أردوغان الآن بطرح مشروع الدستور الجديد الذي ينص على تحويل الدولة من النظام البرلماني إلى الرئاسي قبل نهاية العام الجاري، لتدخل البلاد مرحلة أخرى جديدة من مراحل التحرر من أغلال الكمالية.

 

الدستور الجديد يمنح الرئيس سلطات أكبر، ويُعد أردوغان المرشح الأوفر حظًا بالمنصب.

 

تركيا تتجه إلى الاستقرار، وسلطانها يدفع ضريبة تغيير لم تكن قط في المتناول. وبتعبير مجلة الإيكونومست، فإن أردوغان ربما يتساءل عمَّا إذا كان هو ضحية نجاحه.


: الأوسمة



التالي
سورية والمحافظة على فرحة النصر
السابق
حمدين صباحي وبشار الأسد

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع