البحث

التفاصيل

الظلاميون الجدد

بوسعنا أن نقول الآن إن باب انفراج الأزمة في مصر قد انفتح، بعد الإعلان الدستوري الذي صدر ليلة أمس الأول، ونص على إلغاء إعلان 21 نوفمبر الذي أسهم في تفجير الأزمة وأشاع في بر مصر قدرا لا يستهان به من الإحباط والغضب. وكانت الأزمة هي موضوع الاجتماع الذي عقده الرئيس مرسي ونائبه مع عدد من الرموز الوطنية التي استجابت لدعوة الحوار. وإذا لاحظنا أن الاجتماع استمر 9 ساعات، فلنا أن نتصور كم الآراء والحوارات التي جرت فيه.

أشدد على أن ما تم بمثابة فتح لباب انفراج الأزمة وليس إنهاء لها. لأننا إذا اعتبرنا أن للحريق القائم مصدرين هما الإعلان «المعيب»، (الوصف لنائب الرئيس المستشار محمود مكي) والاستفتاء على الدستور، فإن إلغاء الإعلان يطفئ مصدرا واحدا للحريق، في حين أن إجراء الاستفتاء على الدستور في موعده الذي تعذر تأجيله لأسباب قانونية، فإنه يشكل مصدرا آخر يغذي من يريد للحريق أن يستمر.

الملاحظة المهمة على ما جرى أمس أن الرئاسة أبدت مرونة تحسب لها في التعامل مع الأزمة. وما سمعته من المستشار محمود مكي قبل الاجتماع أن الرئيس على استعداد للقبول بأية نتيجة لإطفاء الحريق يتوصل إليها المجتمعون، بما في ذلك اقتراح تأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور. وقد أذن لي أن أنقل عنه قوله إن القرار السياسي جاهز، والمطلوب فقط هو حل الإشكال القانوني، لأن التعديل الدستوري الذي صدر في شهر مارس من العام الماضي نص لأول مرة على ضرورة طرح مشروع الدستور للاستفتاء خلال خمسة عشر يوما من انتهاء اللجنة التأسيسية من وضعه، وهذا النص يتعذر تعديله إلا من خلال إجراء استفتاء جديد عليه. وفهمت أن لجنة من كبار فقهاء وأساتذة القانون الدستوري عقدت عدة اجتماعات في مكتب الرئيس لإيجاد مخرج قانوني سليم يسمح بمد مهلة الاستفتاء. إلا أنها لم تجد للمشكلة حلا. وبالتالي فلم يكن هناك مفر من الالتزام بموعد 15 ديسمبر، مع تغيير صيغة الاستفتاء بحيث يخير الناخبون بين الموافقة على المشروع الذي تم إعداده، وبين انتخاب جمعية تأسيسية جديدة تعد دستورا جديدا.

لاحظت أيضا أنه أثناء صياغة المادة الخاصة باستبعاد الإعلان الذي أثار المشكلة أن المقترح الأصلي كان يقضي باستبدال ذلك الإعلان بغيره، إلا أن بين الحاضرين من آثر استخدام كلمة الإلغاء بدلا من الاستبدال. ومن وجهة النظر القانونية فإن كلمة الاستبدال أصوب وأدق، إلا أنه قيل إن كلمة الإلغاء أوقع سياسيا وأقرب إلى مطلب المتظاهرين الغاضبين. وقد انحاز الرئيس مرسى إلى الخيار الأخير لتوصيل الرسالة إلى الجميع.

حين لاحظت من الأصداء السريعة التي صدرت عن بعض الأطراف السياسية أنها مازالت تعتبر أن الأزمة مستمرة، وأن إلغاء الإعلان الدستوري «المعيب» ليس كافيا، كان أول ما خطر لي أن ذلك خطاب من لا يريد للمشكلة أن تحل، ويصر على استمرار تأجيج الحريق واستمرار الاحتقان.

هنا أفرق بين موقف الذين رأوا فيما تم نصف حل، وتمنوا أن تتضافر الجهود للتعامل بصورة إيجابية لحل النصف الآخر، وبين من يصرون على أن شيئا لم يتغير في المشهد، وأن الأزمة لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام. ومنهم من يرى أن الرئيس مرسي لا بد أن يخرج منكسرا ومهزوما من الأزمة، ولذلك فعليه أن يتراجع عن كل الخطوات التي اعتزم اتخاذها، كما أن منهم من راهن على سقوط النظام، ورأى في التعبئة والاحتشاد ومشاعر الغضب الراهنة خلفية تسوغ ذلك الرهان. وحين وجدوا الجماهير قد خرجت إلى الشارع على النحو الذي شاهدناه على شاشات التليفزيون، فقد ظنوا أنهم على بعد خطوات قليلة من تحقيق مرادهم، ومن ثم لم يجدوا مبررا للتهدئة والسماح لعجلة الحياة أن تعود إلى الدوران بصورة طبيعية في البلد.

إن إلغاء الإعلان الدستوري استبعد شبح الرئيس الإله المحصن ضد النقد والمساءلة، الذي أثار مخاوف كثيرين. كما أنه فض الاشتباك الذي نشأ بين الرئيس والسلطة القضائية. أما قضية الدستور ومسألة الاستفتاء عليه فهي في جوهرها معركة بين مثقفين وسياسيين، ليس المجتمع طرفا مباشرا فيها. وموضوع المعركة ليس نصوص الدستور ولكنه حظوظ وأنصبة هؤلاء. وإذ أقر بأن الدستور فيه نواقص تحتاج إلى استكمال، إلا أننا يجب أن نلاحظ أن أكثر من 90٪ من مواده وافق عليها المعترضون الذين انسحبوا لأسباب سياسية وحسابات خاصة.

أدري أن هناك ملفات أخرى تحتاج إلى مناقشة لكني قلت لمن أعرف من المشاركين في «مطبخ» الأحداث إننا ينبغي أن نعطي الأولوية لإطفاء الحريق قبل أن نناقش ملابسات انطلاقه ونواقص التوصيلات الكهربائية. لكننا نكتشف حينا بعد حين أن بيننا من يريدون استمرار الحريق ويفضلون استمرار الظلام على ظهور بعض الضوء في نهاية النفق. الأمر الذي يسوغ لنا أن نصفهم بأنهم يمثلون «الظلاميين الجدد»؟

< ملحوظة: أدهشني أن أحد المتحدثين ذكر في برنامج تليفزيوني أنني غادرت الاجتماع الذي عقد في «الاتحادية» احتجاجا، وهو ادعاء رددته بعض المواقع الإلكترونية. والصحيح أنني اضطررت لترك الاجتماع لارتباطي بموعد مسبق مع أحد الأطباء في الرابعة بعد الظهر. وبسبب سحب الهواتف النقالة منا حين دخلنا إلى القاعة، فقد تعذر علي تأجيله.


: الأوسمة



التالي
حوار مع الشيطان
السابق
حريم السلطان وسلطان الحريم

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع