البحث

التفاصيل

نهاية ولي الفقيه ومواطنة الشيعة العرب

تدخل العلاقات العربية الوطنية السنية الشيعية مدارا مهماً وتاريخياً خلال هذه الفترة التي نشهد فيها سقوط نظام الأسد في ظل التداخل السياسي المحتدم لمرحلة صناعة التشيع الذي نفّذته إيران ولي الفقيه منذ 1979 م ونجاحها في تحقيق عُزلة مجتمعية واختراق داخل البيت الوطني لكل قطر عربي ومع كل ما صاحب صناعة هذا التشيع الجديد من مواجهات طائفية دموية أو سياسية أو اجتماعية شارك بها الأميركيون وشارك بها تطرف سني آخر رسمي أم شعبي ومع مشهد مذابح سوريا والشراكة التنفيذية لفروع ثورة ولي الفقيه تكرست عقيدة خاطئة في تقديري لبعض توجهات الرأي العام.

هذه العقيدة ترى أنّ كل هذا الواقع المرير مربوطً بالضرورة بالشيعة كجماعة بشرية أو منظومة عقائدية قديماً, ومن الصعب أن تشرح هذه القضايا والبعد التاريخي لها ومسارات الاختلاف والموافقة والموائمة والانسجام التي عاشها الوطن العربي بين السُنة والشيعة في ظل وجود عقائد ومبادئ يعتقد أهل السُنة بالجزم أنها ذات بعد تحريضي ذاتي للكراهية والانتقام, فكيف يُربط ذلك فقط بصناعة التشيع الإيراني الجديد؟

هذه الصعوبة تحتاج إلى هدوء واستعراض تدليلي لا تحريضي حتى تُفكك الصورة ويُفهم الأمر جلياً, هذه الدراسات المعمقة التي يعرفها بعض المتخصصين من باحثي الخليج العربي ولبنان والعراق لا تكفيها مقالة, لكننا نشير إلى أنّ فقه المظلومية الانتقامية وما يراه السُنّة من تطرف عقائدي منحرف في بعض المصادر الشيعية المتقدمة, كان في بطون الكتب وفي بعض الحلقات العلمية ومع ذلك لم تشهد العلاقات بين الطائفتين الانفصال الخطير الذي صنعه التشيع الإيراني الجديد, وحصلت دورات مفاهمة وتعاون في التاريخ القديم كما في تاريخ تشكل العمل الوطني القُطري, فإن أُستدل بدورات مواجهة وهي موجودة بين الطائفتين قديماً فإن المواجهة أيضاً حصلت في سياق سني سني أحياناً وأيضاً لماذا لم تمنع بطون الكتب الموائمة بين الطائفتين في التعاون المدني والتعايش والمشاركة وليس التقارب المذهبي في مفاصل تاريخية بين الطائفتين مع وجود الإرث التراثي المنحرف؟

هنا أُريد أن أصل إلى مدخلٍ مهم في هذه القضية التاريخية والسياسية الإستراتيجية للأمة وللأقطار العربية, وما يجب أن نعرفه جيداً أن الجمهورية الإيرانية المعاصرة في رؤية ولي الفقيه نفّذت أخطر مشروع فكري بين الطائفتين منذ مئات السنين, وفي نهاية الأمر الوضع الإيراني الحالي لن يصمد وحلم الإمبراطورية الكبرى يتصدع بحسابات إستراتيجية لسنا هنا في صددها, وعليه كيف سيُتعامل مع الشيعة كمواطنين وكأفراد وكشركاء في جماعات بشرية مقيمة أرضاً ومتصلة قومية مع العرب كسلالة أو لسان؟

ينبغي أن ندرك بموضوعية أن كثيراً من صناعة البيت الشيعي الذي أسس في زمن هذا الصراع المحتدم, اعتمد في مساره الرئيسي على الصناعة الإيرانية الجديدة للتشيع, وما أعنيه أن المراقب يُدرك أن هذه الصناعة حين تنهار سيتغير برنامج ضخم على المسار الاجتماعي والفكري والتنويري والسياسي بعد تصدع إمبراطورية ولي الفقيه العظمى, وذلك من الداخل الشيعي ومن بركان الحراك العقلي والتمرد التحرري.

وما نعنيه أنّ الجمهورية الإيرانية حققت الكثير من اجتذاب ومحاصرة المثقف والمجتمع الشيعي عبر مشروع مركزي وهذا المصطلح مهم جداً وهو  -تثوير المظلومية الطائفية ضد المجتمع السني- هذا المشروع لم يكن حاضراً لدى الإنسان الشيعي في العهد الاجتماعي المعاصر قبل الثورة الإيرانية بهذا التطرف وإن كان بعض مرويات المآتم تحمل جانباً من ذلك وكذلك الإرث التراثي يعتمده, إلا أن حالة التثوير المدنية الشرسة ضد الشريك المدني صنعها مشروع إيران لصناعة التشيع الجديد فعلينا أن نحسب الفرق جيداً.

العرب الشيعة ودمشق الجديدة 
إن رصد حراك الموقف الإيراني وفلسفة قياداته الدينية والسياسية العليا وبرنامج حكومة طهران التنفيذي واستعداء كل فصيل فكري وسياسي سواء في لبنان أو العراق أو غيرهما للمشاركة التنفيذية في دعم نظام الأسد, وتثوير الخطاب ضد الحالة المدنية السورية المناهضة للنظام, كل ذلك كان يندفع من إيران وكل مواقع نفوذ الولي الفقيه بصورة لا تجعل لطهران أي مراهنة للرجوع بنصف الخسائر, ولا بطرح احتمالية انتصار الثورة السورية ولو بنسبة ضئيلة بحسب اعتقادهم, وتحول السيد حسن إلى مقاتل مباشر ضد الثوار السوريين في خطابه الإعلامي أو عبر المنظومة الأمنية التي قدمها للنظام والاصطفاف الشامل معه في كل جرائم الحرب التي ارتكبها, كل ذلك يعني أن إيران الولي الفقيه تتعامل بالفعل على أن سقوط النظام يعني سقوط هيمنتها.

وهنا نحن نقول هيمنتها ولم نقل سقوط الجمهورية الإيرانية القائمة, فاستمرار هذه الجمهورية وارد جداً بعد تحرير دمشق, لكن هيمنة الولي الفقيه لا يمكن أن تكون بهذا المستوى وخاصة في الوطن العربي, إن شراكة النظام الأسدي في تطوير تصدير الثورة الإيرانية واحتواء محاور كاملة من شخصيات وقواعد اجتماعية كبيرة لمصلحة إيران كان برنامجاً يُضخ الدعم له بقوة من النظام خاصة في لبنان.

والأمر أيضاً يتداخل مع العراق ومع الحالة الخليجية التي صرح القادة الإيرانيون أنفسهم بأن تحريكها ضمن أدواتهم المشروعة في صراع الدفاع عن الأسد, كل دلائل هذا التصدع لإمبراطورية الولي الفقيه عندما تتحرر دمشق تعني زلزالاً كبيراً في المنطقة لكننا هنا نتناوله من زاوية إستراتيجية لمستقبل العلاقات بين الطائفتين في الوطن العربي ومناطق الاحتقان.

إنّ الركن الأول لهذا التغير هو إعادة تموضع الشيعة العرب وسقوط برنامج ضخم من الضغوط الشرسة تأسست عليها هذه المرحلة وبالتالي صعود الحراك الفكري والنشاط الوطني والمجتمعي للشيعة العرب بمدارٍ ضخم أضحى لأول مرة منذ 1979 يواجه أسئلة الدين والإنسان والشريك العربي بلا مقصلة الولي الفقيه أو تهديده أو على الأقل تراجع قوته القمعية على الإنسان الشيعي العربي.

الاعتدال الشيعي والمسؤولية العربية
سنستعرض هنا ركني منهج الاعتدال الشيعي الذي يُعتقد أنه سيلعب دوراً مركزياً في ترميم النسيج العربي بعد سقوط هيمنة الولي الفقيه, الأول يقوم على مسار فقهاء الاعتدال في نقد قضايا الطرح العقائدي الصارم مع الجماعة السنية عبر التاريخ, أما الركن الثاني فهو فكر التنوير في البيت الشيعي وأين تقف دلالات تأثيره على هذا الملف للمستقبل العربي بعد سقوط أو تصدع مدرسة الشمول والحصار للولي الفقيه, ومن المهم جداً أن نعي مقومات أساسية لفهم هذا المنهج الفكري والسياسي في التعاطي مع الشيعة العرب كشركاء تاريخيين للأرض وللقبلة في النقاط التالية:

1- هذا الطرح لا ينطلق بحسب ما يعتقده البعض عند كل استدعاء لمدارس الاعتدال الشيعي على فكرة الموافقة أو الخضوع أو التسخير للتقارب الديني مع منهاج أهل السنة أو بعض مدارسها إنما هو يُطرح لتفعيل فكر المشترك في تآلفات المجتمع المدني لصيانة السلم والاستقرار والمواطنة.

2- إن هذا الطرح لا يستبعد تأثير برامج التداخل الرسمي في الأقطار السنية لإذكاء مناطق أو مواقع الخلاف وتسعيرها لاستغلال حالة التطرف والتكفير التي صنعتها مدرسة الولي الفقيه لتبرير تخلف النظام الرسمي عن الإصلاح.

3- إن هذا الصعود الجديد المتوقع لا يُلغي المؤسِسَات الضرورية والدستورية للإنسان الشيعي في الوطن العربي التي غُيّبت عن الجميع أي السُنّة والشيعة وعزّزت إشكاليات الأقليات وخاصة الغبن الحقوقي أو الازدراء المعنوي فاستثمرتها الجمهورية الإيرانية لتأسيس البعد الطائفي والمكون الطائفي والمرجع الطائفي, كبديل نقضي شامل يُغيّب الشريك ويَكرهه ويعيد خلق الطائفة في جزيرة معزولة لا جغرافية موحدة ولا إنسانية متواصلة أو عروبة جامعة.

4- إن من مسؤولية الضمير الوطني في المجتمع أو في مؤسسات الحكم أن يُعطي مساحة الاعتدال الشيعي ومنابره مساحته قبل أن يسأل أين هو من الثقافة الجمعية للإنسان الشيعي؟ فلقد عُزل هذا المثقف والمرجع بحصارين الأول عنيف متطرف وهو مشروع الولي الفقيه الإقليمي والثاني جاحد أو مستهتر من المؤسسة أو المثقف السني, وكذلك يحتاج الرأي العام السُني والمؤسسة الثقافية والرسمية وشخصياتها أن تدرك أن هذا البرنامج يحتاج إلى زمن ومنابر ليستمع الرأي العام الشيعي لمدرسة الاعتدال وفقهائها.

فقهاء الأصول
الحقيقة أن مدارات إعلان مواقف تاريخية تعلن بوضوح موقفاً مغايراً لعقائد رئيسية عمل التشيع الإيراني على تفجيرها قد صدر قديماً وحديثاً, هذا الإعلان الرئيس جداً للقضية طرحته مدارس وشخصيات نعد منهم قديما على سبيل المثال لا الحصر ومنها مدرسة الشيخ الخالصي الجد والحفيد حالياً ومدرسة الشيخ المؤيد وما عرض له السيد محمد حسين فضل الله -قبل أن يواجه بفتوى التكفير الشرسة من النجف المحركة بقرار سياسي من إيران- والسيد علي الأمين في لبنان والشيخ حسين الراضي الإحسائي وغيرهم, ومع أنهم أقلية إلا أن الفكرة باتت محل تعاقب واهتمام في التفكير الشيعي الحديث.

كل هؤلاء صرحوا أو أشاروا بجلاء أنّ تأسيس العقائد الشيعية على فكرة محورية تنتقم من الاصطحاب التاريخي السني خاطئة في اتهام وتكفير صاحبي رسول الله الأعظمين أبي بكر وعمر وتأسيس مظلومية الانتقام منهما وغني عن الذكر علاقة الدين الإسلامي والديمغرافية السنية بهما لمكانتهما العظمى.

ولكي نفهم المدار السياسي والثقافي في هذا الأمر فهو يعود إلى أن هذا الإرث الهائل من الكراهية التي أشعلها تطوير فقه المآتم والتربية الحوزوية الإيرانية في المجتمع صنع بركانا من الكراهية, وأن دور الاعتدال الشيعي يؤسس لنفي فرية هذه الحادثة لإبطالها أو تحجيمها وبالتالي تهدئة النفوس في الذات الشيعية وشريكها السني وسط هذا الزخم الهائل لثقافة مآتم الثأر وفضائياتها, إضافةً لدراسات وبلاغات وتجديدات صدرت من السيد محمد مهدي شمس الدين ومن السيد الأمين ومن الشيخ الراضي لمعاني أخرى مهمة وإيجابية ووحدوية بصوت الفقيه الراشد لا واعظ المأتم المنتقم وهي دراسات عديدة في الفضيلة والأخلاق والتعاون والنقد الديني الإصلاحي.

علما أن كل هذه المراجع تحافظ على مساحتها من المظلمة العظمى التي يعتقدها السُنّة أيضاً والتي تعرض لها الحسين إماماً وشهيداً من يزيد بن معاوية وإن اختلفوا على مسارات طقوسية دينية لا تعارض الائتلاف الوطني والإنساني بين الطائفتين قبل التفجير الإيراني, وهنا نفهم ماذا يعنيه الاعتدال الشيعي الأصولي وخاصة بعد انهيار هيمنة ولي الفقيه الإيراني الذي خنق هذه المدرسة.

التنوير الشيعي الغائب
يعيش المثقف الشيعي وخاصة التنويري الحقيقي برنامج حصار ديني في حواضنه يمنعه من طرح قضايا الخرافة الخطيرة في التراث الشيعي وبلا شك إن لمشروع ولي الفقيه الإيراني دوره الكبير وخاصة في تحذير اتباعه من أن يُراجع حجم الانحراف أو الخرافة أو السلوك الإنساني في رؤيته لكامل الحياة طفلا وامرأة حيث استبدل العقل الإسلامي الراشد بمنظومة الخلاص الكبرى التي غيبت شراكة الإنسان والوطن بل رؤية فضاء العالم والتاريخ عبر موعظة المأتم التي تلغي تبسم الإمام علي وحكمته وبلاغته وتسامح الحسن وأصالة مشروع الحسين ونسجت حياة الفرد الشيعي تحت رداء سوداوي حاصر الذات الإنسانية ليتحقق لإيران عبر حشد هذه المشاعر للشيعة العرب بناء الانفصال الطائفي داخل الجزر الوطنية ليس مع الحُكم كما يعتقد البعض بل مع الشريك السني بذاته وإن هتفت الجموع إخوان سنة وشيعة.

ولسنا ننكر وجود مواقف ودراسات وصيحات ثقافية وتصحيحية لدى جموع الطائفة لكن الخنق شرس والاستجابة له كانت كبيرة جداً, وعليه وفي عهد الربيع العربي وصعود فكرة المواطنة والحرية والحقوق سوف يتهيأ لهذه التيارات صعود السطح لأول مرة بعد القمع الديني, وخاصة أن الكثير قد غرر به بقمع لاهوتي مزيف يربطه بالدين والخالق وأئمة آل البيت عبر أئمة العهد السياسي المعاصر لإيران ولذلك ترى البعض مهما تحدث الباحث عن شراكة وحق الإنسان الشيعي وطنياً ودستوريا لا يقبل بطرحه لو انتقد إيران لأن الباحث يطرح بالمقابل أحقية مواجهة المشروع الإيراني فالصناعة النفسية ربطت هذا البعض -وليس الكل- بهذا اللاهوت المذكور.

سقوط كُل ذلك التأزم والحصار سوف يدفع البناء الفكري والفلسفي والثقافي والمدني لمساحة مهمة جداً في مضمون الشراكة والخلاص الإنساني الذي لا يجرده من مذهبه, ولكن يعيد إليه عقل الإمام علي وصلابة الحسين وسماحة الحسن وشجاعة زينب وصدق الإمام جعفر الذين يُجلهم السني كسادة له يبنى بهم مشروع الإنسان المسلم الحضاري، لا وقود خندق الكراهية للمشروع الإيراني.

إنّ مبادرة الحركة الثقافية العربية الجديدة بعمقها الإسلامي والعروبي والإنساني لتأسيس عقد شراكة جديد بات ضرورة مهمة لعلاقة الشراكة بين الطائفتين, لكنّ هذا الأمر لا يُمكن ان يؤسّس له بصورة دستورية وميثاقية ووطنية دون أن تخرج جموع المترددين من مثقفي الطائفة الشيعية إلى حركة الاستقلال الإنساني والعقلي عن كارثة منهاج ولي الفقيه القمعي ليتحد إنساناً ومواطناً في عهد الشراكة والربيع العربي.

 

المصدر:الجزيرة


: الأوسمة



التالي
الجذور التاريخية لقضية مياه النيل الأزرق، وتداعياتها على سد النهضة الأثيوبي
السابق
عن الشيخ القرضاوي ومسلسل الهجمات عليه

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع