البحث

التفاصيل

الانقلاب.. ما قبله وما بعده

 

من تابع رموز وأركان تحالف القوى الذي يقود المعارضة المصرية وهم يحتفلون بالانقلاب العسكري، لا بد أنه شعر بكثير من الدهشة، لكنها دهشة ما تلبث أن تتلاشى حين يتذكر ما هي حصة تلك القوى في الشارع حين اختار ممثليه من خلال الصناديق بحرية.


وإذا استثنينا حزب النور الذي حصل على حوالي ربع مقاعد البرلمان الذي انتخب ثم جرى حله من خلال محكمة المخلوع الدستورية، وهي نسبة ستتراجع على الأرجح بسبب الانشقاقات وبسبب سلوكه السياسي، هو الذي لم يكن في معسكر المعارضة بالكامل، وإن تواطأ معها (دعم الانقلاب عمليا ومنحه الشرعية)، فإن الآخرين لم يحصلوا سوى على نسبة محدودة من أصوات الجماهير، وهي نسبة لا يتوقع أن تتغير كثيرا في حال بقي الإخوان في السباق، ولا قيمة هنا لأصوات انتخابات الرئاسة التي أنتجت ثلاثة أحزاب (صباحي، أبو الفتوح، عمرو موسي، مع حزب البرادعي الذي لم يخض تلك الانتخابات)، وجميعها أحزاب "الون مان شو"، أي أحزاب الشخص الواحد.


النكاية السياسية هي السبب الأكثر وضوحا لما جرى من احتجاجات ضد الرئيس، وهي احتجاجات لم تتوقف منذ الشهر الأول، وليس صحيحا أن سببها هو الفشل أو الأخطاء التي ارتكبها، رغم إقرارنا بوجودها دون تردد.

لقد كان واضحا منذ اللحظة الأولى أن إرادة إفشال الرئيس المنتخب قد اتخذت في الداخل من قبل مؤسسات الدولة العميقة، وذلك بدعم خارجي تولت كبره بعض دول الخليج الكارهة للثورات وربيع العرب خشية وصوله إليها، وكانت القوى التي سميت معارضة وخرجت من كعكة الانتخابات، وتاليا السلطة مجرد أداة تبعا لقابليتها لذلك كرها في الإخوان وحسدا لما حققوه.

كان الإعلام هو المرآة التي تعكس على نحو أكثر وضوحا حقيقة المخطط المرسوم لإقصاء الرئيس، وترتيب انقلاب عسكري بعد إثارة حالة من العنف والفوضى والاحتجاج، ولو كانت أجهزة الدولة الرئيسة (المؤسسة العسكرية والأمنية والقضاء) تقف إلى جانب الرئيس وتريد منحه فرصة النجاح لما سمحت لوسائل الإعلام أن تشيطنه على ذلك النحو الذي تابعناه طوال عام من وجوده في الحكم.

لقد وقع مرسي في أخطاء عديدة، لكنها لم تكن أبدا بنوايا إقامة دكتاتورية، وإنما بسبب قلة التجربة والدهاء والمكر من جهة، وشراسة الهجمة التي تربك أي أحد من جهة أخرى. ولعل أول الأخطاء التي وقع فيها يتمثل في لجوئه إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، وليس حكومة وحدة وطنية، لا سيما بعد أن لاحظ عزوف كثيرين عن الشراكة معه.

على أن الحكومة لم تكن فاشلة، في وقت يعرف الجميع أن أي ساحر لن يصلح أوضاع مصر في سنة أو سنتين، لا سيما إذا كانت جميع مؤسسات الدولة الرئيسة (الجيش والأمن والإعلام والقضاء) تسعى إلى إفشالها، ثم جاءت قضية الإعلان الدستوري الذي أعلنه مرسي بعد تسرب معلومات إليه حول نية المحكمة الدستورية إلغاء مجلس الشورى بعد إلغائها لمجلس الشعب، وحل اللجنة التأسيسية للدستور، وإعادة الوضع إلى المربع صفر.

لقد كان الرئيس يُستدرج مرة إثر أخرى لارتكاب الأخطاء وسط عاصفة من الهجوم الشرس التي تترك الحليم حيرانا، والسبب الأساسي في اعتقادي هو اعتماده على ما يصله من تسريبات كان كثير منها مقصودا، وليس على التحليل العميق للوضع القائم.

لقد قلنا مرارا منذ شهور طويلة، هنا وفي منابر أخرى إن سيناريو الانقلاب العسكري يُعد بدأب، وأن الجيش ليس مع الرئيس، لكنه كان وكثير من الإخوان يصرون على أن الجيش معه، مع أنه لو كان كذلك للجم الحملة البشعة ضده، ولمارس تأثيره على المؤسسة الأمنية الأكثر فاعلية في إدارة البلاد.

نفتح قوسا هنا لنشير إلى بؤس خطاب المعارضة، فهي التي هتفت "يسقط يسقط حكم العسكر"، وهي التي تعلم أن ممارسات الأمن كانت أحد أهم أسباب الثورة، وهي التي تعلم طبيعة قضاء المخلوع، ومع ذلك، فقد تواطأت مع كل أولئك ضد الرئيس في مسعىً واضح لإفشاله أيضا.

لم تكن حشود 30 يونيو/حزيران ثورة شعبية ضد الرئيس، إذ ما الذي تغير بين ذلك التاريخ وبين الأسابيع التي سبقته، وحيث كانت المعارضة تعجز عن إخراج بضعة آلاف إلى الشوارع للاحتجاج؟ ما تغير عمليا هو قرار استجلاب الانقلاب عبر ترتيب الأمر في يوم واحد أو يومين، عبر حشود الفلول الممولة من الداخل والخارج من جهة، وعبر استنفار الثقل القبطي من خلال الكنيسة من جهة أخرى، ولو خرج هؤلاء من الميادين، لما بقي فيها سوى عشرات من الآلاف. ومع ذلك، وبمنطق الحشود كانت حشود اليومين التاليين لمؤيدي الرئيس أكبر، لكن أحدا لم يلتفت إليها، لكأن عناصرها ليسوا جزءا من الشعب.

كان على الرئيس، ومن ورائه الإخوان أن يدركوا ميزان القوى، وقد قلنا من قبل 30 يونيو/حزيران إن حشده سيكون كبيرا للاعتبارات التي ذكرنا آنفا، ولقناعتنا الراسخة بوجود مخطط الانقلاب العسكري الذي لا بد له من حشود وقدر من الفوضى والعنف، ويبدو أن قيادة الإخوان قد فضلت أن يبادر الرئيس إلى إعلان قبول استفتاء على إجراء انتخابات مبكرة، لكنه رفض، فباتت في مأزق حقيقي، حيث لا يمكنها التخلي عنه، وجاءت مبادرته ليلة الأربعاء قبل الانقلاب ليلة الخميس لتمنح المعارضة ما طرحته من مطالب قبل شهور (تغيير الحكومة والنائب العام وتعديل المواد المختلف عليها في الدستور)، لكن المشهد كان قد تغير، وصار المطلب هو إسقاطه بعد أن وصلت الإشارة بجاهزية الانقلاب.

من الصعب الحديث عن حكمة بأثر رجعي، لكن كثيرين ومنهم كاتب هذه السطور كانوا مع قبول الرئيس بالاستفتاء على إجراء انتخابات مبكرة، بل على قبوله بها متزامنة مع انتخابات برلمانية، لكنه لم يستجب مع الأسف، وقدم تنازلات في اللحظة الأخيرة لم تعد كافية.

ليس بوسعنا الجزم بنتيجة هذا السيناريو الذي نتحدث عنه فيما لو حصل فعلا، حتى لا ندعي الحكمة، فالانقلاب يبقى ممكنا لسبب أو لآخر، كما أن تزوير الاستفتاء من قبل مؤسسة القضاء المعادية للرئيس يظل واردا أيضا، فضلا عن تزوير الانتخابات الرئاسية المبكرة لو حصلت، وربما البرلمانية التي سيثور جدل حول قانون الانتخاب الذي ستنظم على أساسه.

لكن المؤكد أن السيناريو المذكور يعد أفضل من سائر النواحي من رفض الانتخابات المبكرة، في ظل ملامح الانقلاب الواضحة، وكان بوسعه (ربما) دعم مسيرة الدولة المدنية ولو ببطء، خلافا للانقلاب الذي لا يدري أحد متى يمكن أن يعيد وضع البلاد على سكة الدولة المدنية الديمقراطية الحقيقية.

أما خريطة الطريقة التي أعلنها الجيش، فمن السذاجة النظر إليها بحسن نية، إذ من الطبيعي أن يبادر مدبرو الانقلاب إلى صياغة برنامج يقنع الناس بأنهم لا يريدون الحكم، وأنهم ماضون في تحقيق أهداف الثورة، لكن مزيدا من التدقيق في المشهد ينبغي أن يذكرنا بأن البلد قد وقع عمليا تحت وصاية العسكر، إلى جانب المحكمة الدستورية لصاحبها المخلوع، ومؤسسة الأمن الفاسدة، وإذا ما قرروا بالفعل إجراء انتخابات رئاسية فسيرتبونها بطريقتهم، وسيصيغون قانون انتخاب بطريقتهم أيضا، فضلا عن الدستور الذي سيعدل على النحو الذي يريدونه.

إن الحديث عن فترة انتقالية لحكم العسكر، أو وصايتهم بتعبير أدق، لا يعني أن المرحلة التالية للمرحلة الانتقالية ستفرز ديمقراطية حقيقية، بل يمكن أن يجري ترتيب ديمقراطية ديكور على شاكلة تلك التي كانت موجودة قبل الثورة في مصر ودول عربية كثيرة، وهي ديمقراطية فيها برلمان وانتخابات، ولكنها مفرغة من المضمون الحقيقي أكان عبر صياغة قانون انتخاب مشوّه، أم عبر تزوير ذكي، أم بكليهما معا.

سيحتاج الشعب المصري والحالة هذه إلى نضال طويل جديد، لكي يخرج من وصاية العسكر، أو من ديمقراطية الديكور إلى ديمقراطية مدنية تمثيلية حقيقية، تعكس توازنات القوة في المجتمع وتحقق أهداف الثورة، وهو في العموم شعب عظيم وقادر على أن يفعل ذلك.

أما بالنسبة للإخوان، فإن المشهد بالنسبة إليهم سيكون صعبا في البداية، والأرجح أن يجري حل الجماعة عبر قرار قضائي (دعك من اعتقال الكثير من رموزها الفاعلين كما حصل بالفعل)، لكن القوى المتجذرة فكريا واجتماعيا لا يمكن شطبها بحال من الأحوال، وتاريخ الجماعة طوال عقود شاهد على ذلك.

لكن المرحلة التالية تتطلب منهم عملا دؤوبا من أجل تقوية صفهم وشعبيتهم، ومن أجل التحالف مع مزيد من القوى الرافضة (أولا لإطالة المرحلة الانتقالية)، وثانيا لديمقراطية الديكور التي يتوقع أن يجري ترتيبها خلال المرحلة المقبلة، والتي ستكون مدعومة من الخارج أيضا لأجل التخلص من فكر الثورة وربيع العرب، وقد تكون مقبولة من بعض قوى المعارضة، لأنها قد تمنحها حصة سياسية أكبر من الانتخابات النزيهة والحقيقية.

في نهاية المطاف، هي جولة من جولات الشعوب العربية خلال ربيعها الجديد، وهو ربيع لم يكن ليمر كما قلنا مرارا بسهولة، بل سيحتاج إلى سنوات طويلة من السير في خطوط متعرجة من أجل أن ينجح في تصحيح أخطاء تاريخية عمرها قرون، والنصر سيكون حليف الشعوب الحرة طال الزمان أم قصر.


: الأوسمة



التالي
غزوة الأحزاب نسخة 2013
السابق
مسلمو بورما.. محرومون من بشريتهم !

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع