البحث

التفاصيل

تهجير سلفيي اليمن.. الانطلاق نحو الطائفية


كانت فكرة حسين الحوثي تهدف إلى حفظ القيم والأخلاق، من خلال إنشائه "منتدى الشباب المؤمن" عام 1991 ككيان ذي وظيفة أخلاقية اجتماعية، محصور في مديرية مران النائية بمحافظة صعدة اليمنية.

غير أن حسين -العضو البرلماني (1993-1997)- استقال من حزب الحق وانضم إلى المؤتمر الشعبي الحاكم وقتها، وبدأت تتمدد خيالات رجال الدين في ذهنه، ورأى أنه "حسين اليماني" الممهد لظهور المهدي المنتظر، والذي تتوارث اسمه كتب العقيدة الجارودية.

لكن المال وقف عقبة في طريقه، فاصطحبه والده بدرالدين بن أمير الدين الحوثي إلى طهران، وهناك تشرب قيم ومبادئ "الإثنى عشرية الجعفرية"، وبعد عودته تفرغ لـ"الشباب المؤمن" الذي تحول من منتدى اجتماعي إلى تنظيم عسكري سياسي، يستقطب إليه الشباب خاصة أبناء الأسر الهاشمية، تاركا مقعده البرلماني لشقيقه يحيى.

البدايات الأولى للحوثية
ذات صباح من عام 1997 ذهب حسين برفقة اللواء يحيى المتوكل الأمين المساعد للحزب الحاكم ووزير الداخلية السابق إلى مقابلة الرئيس صالح، وقدمه المتوكل بالقول: "هذا الذي سيكسر شوكة الإخوان في اليمن".

ورأى صالح إمكانية التلاعب بالورقة الدينية كعادته، وأنه سيخلق ورقة مساوية في القوة ومضادة في الاتجاه الفكري والسياسي للإخوان، فقدم لـ"حسين" دعما بلا حدود.

وهناك في أعالي جبال صعدة كبر "حسين" وبدأ الناس يرون فيه الرجل المخلص، فقد استفاد من دورات الإعداد والتأهيل في بيروت وطهران، وظهر خطيبا مؤثرا، ومنفقا سخيا، يجذب إليه العاطلين والمعسرين، وينفق عليهم الأموال التي يتلقاها من إيران وشيعة الخليج، وأموال الزكاة التي يتحصل عليها بالقوة من سكان محافظة صعدة.

واتهمه تقرير أمني بتوزيع كتاب "عصر الظهور" للإيراني علي الكوراني، يبشر فيه بقرب ظهور المهدي المنتظر، وفيه بند خاص عن "دور أهل اليمن في تثبيت المؤمنين على الحق".

وكان لجغرافيا صعدة الجبلية دور حاسم في ترك "حسين" يتمدد داخل العقول والأرض، فهذه آخر المحافظات اليمنية على حدود السعودية، وتمثل معقلا للمذهب الزيدي، وإليها فرّ آخر أئمة اليمن إبان ثورة سبتمبر/أيلول 1962، ثم غادرها إلى السعودية.

ومنذ ذلك الحين بقيت صعدة فارغة، منسية، لم تصمد فيها الملكية، أو تدخلها الجمهورية، وكل وظيفتها تصدير البرتقال والرمان والسلاح والسلفيين وفقهاء المذهب الزيدي، أما مؤسسات الدولة فهي الغائب الأبرز عن صعدة.

حروب الحوثيين الستة
اشتعلت أولى حروب الحوثيين مع الجيش حين منع حسين الحوثي المواطنين من تسليم الزكاة للدولة، وحين أرسل له محافظ صعدة طاقما عسكريا لإحضاره، قُتِلَ جميع أفراد الطاقم، وهنا اشتعلت المواجهات وتطورت إلى حرب في يونيو/حزيران 2004، وظهر تنظيم الشباب المؤمن كقوة عسكرية مختبئة في جبال وكهوف مديريات مران وضحيان وكتاف.

وانتهت الجولة الأولى من الحرب بمصرع "حسين" وسجن عدد كبير من أتباعه، ودخول الدولة إلى تلك المديريات، لكنه دخول من لا يفقه معنى الحضور في مجتمع قد تشرّب العقيدة الجعفرية بما فيها من نزعة للجدل، وتعلق بالغيبيات، وكراهية للمخالفين، وفهمت الدولة الدخول بمعناه العسكري، إذ لم تقم ببناء المدارس والمستشفيات والطرقات والكهرباء والمياه والمراكز الثقافية، وتمنع تجارة السلاح، وتقوم بحملات توعية للمواطنين من خطورة ما يقدمون عليه.

وكل ما فعلته أنها اكتفت بالوجود العسكري، منتظرة الجولة الثانية من الحرب والتي بدأت في 2006، حتى وصلت إلى ست حروب، آخرها وأطولها في أغسطس/آب 2009، واستمرت حتى فبراير/شباط 2010، واشتركت فيها السعودية بعد اقتحام الحوثيين جبل الدخان ومنطقة الجابر السعوديتين، وجاءت الحرب بعد فشل اتفاقية الدوحة بين الدولة والحوثيين في فبراير/شباط 2008.

وفي كل جولة حرب تظهر الجماعة الحوثية بقوة عسكرية أكثر وأكبر من التي دخلت بها الحرب السابقة، ومعظم أسلحتها تُسرب من مخازن وزارة الدفاع أو من غنائم الحروب.

لكن تلك المواجهات العنيفة في حقيقتها ليست غير حرب باردة بين الرئيس صالح ونجله العميد أحمد قائد الحرس الجمهوري، وبين اللواء علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع، حيث رأى صالح أن "محسن" وترسانته العسكرية الضخمة هما العقبة الكؤود أمام مشروع توريث الحكم.

وعليه، فقد كان لا بد -وفق منطق صالح- من إرهاق محسن وامتصاص قوته العسكرية، في حروب صعدة، وتم تسريب الأسلحة الثقيلة والمتوسطة من مخازن الدفاع والحرس الجمهوري إلى الحوثيين، واتسع نشاط تسرب الأسلحة إبان ثورة التغيير 2011 ضد نظام صالح، وانشقاق اللواء محسن وتكوينه جيش الثورة الموازي للجيش النظامي، حتى أصبح لدى الحوثيين 39 دبابة، وعدد من الصواريخ النوعية الحديثة.

نشأة دار الحديث
كثيرا ما سمع الشاب مقبل الوادعي كلمة "ممسحة" من فقهاء الزيدية الذين درس على أيديهم في جامع الهادي، تهكما منهم على هذا الشاب الذي يريد مخالفة آرائهم الفقهية، وهو من أسرة غير هاشمية.

وبحسب الباحث الفرنسي "فرانسوا بورجا" مؤلف كتاب "الإسلام السياسي في زمن القاعدة"، لم يحتمل "مقبل" البقاء هناك، وغادر إلى السعودية وفيها درس الفقه السني، وحصل على شهادتي بكالوريوس في الدعوة وعلم الحديث.

وأثناء دراسته الماجستير تم القبض عليه بتهمة كتابة الرسائل لرجل الدين المتمرد جهيمان العتيبي، الذي أحدث حركة تمرد واسعة داخل الحرم المكي في نوفمبر/تشرين الثاني 1979 انتهت بالحكم بإعدامه، مع 60 شخصا من أتباعه.

وحين عاد إلى محافظته صعدة، لم يحتمل الناس بقاءه وتدريسه المذاهب السنية في منطقة هي معقل الزيدية (وهو مذهب يقف بين السنة والشيعة)، فخرج إلى قريته دماج وأسس فيها مسجدا ودرّس فيه، ثم عمل مديرا لأحد المعاهد العلمية، لكنه سرعان ما تركه، لأن منهج المعاهد "إخواني" الفكر والوجهة، وعاد للتدريس في المسجد بدءا من عام 1982، وهو المسجد الذي أصبح فيما بعد "دار الحديث" الأشهر في العالم الإسلامي.

وفي يونيو/حزيران 2001 توفي الشيخ مقبل بن هادي الوادعي (73 سنة)، تاركا 45 كتابا في الفقه والحديث والدعوة وعلم الرجال، ورثاه كبار علماء السنة المعروفين في اليمن والعالم الإسلامي.

وتولى الشيخ يحيى الحجوري إدارة دار الحديث والتدريس فيها، وكان لافتا في الدار أنها مثلت لوحة رائعة للتعايش والتسامح المذهبي طوال 31 سنة، دون أن يصطدموا بأي من مخالفيهم.

الانطلاق نحو الطائفية
بعد قرابة مائة يوم من الحرب الشرسة بين سلفيي دماج والحوثيين، ومقتل 210 سلفيين وإصابة 620 آخرين، أبلغ الرئيس هادي زعيم السلفيين الشيخ يحيى الحجوري أن "التآمر عليهم دولي وأن الدولة لا تستطيع حمايتهم".

وبحسب الحجوري، فإنه فوض الرئيس بالحل الذي يراه، فاقترح هادي تهجير سلفيي دماج إلى محافظة الحديدة، وهو عمل يمثل سابقة خطيرة قد تكون نواة لانقسامات وإفرازات طائفية ستشهدها اليمن خلال السنوات القليلة القادمة، خاصة مع تواتر أحاديث سياسية وصحفية أن أميركا طلبت تفكيك سلفيي دماج لخطورتهم على الغرب، وإذا صح ذلك ستتمكن "القاعدة" من استمالة السلفيين، وستتسع دائرة الإرهاب.

وقرار التهجير ليس نتاج حرب حاصلة بل رغبة أميركية إيرانية سابقة بتهيئة الشمال في اليمن ليكون جغرافيا ذات صبغة دينية واحدة، لا تقبل التعايش أو الاختلاف، بدءا من تهجير يهود صعدة في 2007 و2008، ليستقر بهم المقام في سبع شقق في المدينة السكنية بصنعاء، بعد أن أهملت الدولة رعايتهم، وتخلت سفارة واشنطن عن دعمهم.

وعملية تهجير سلفيي دماج -بدءا من منتصف يناير/كانون الثاني الجاري- تفتح الأفق على احتمالات واردة، أهمها:

هذه أول حادثة من نوعها في تاريخ اليمن، ومن شأنها أن تؤسس لإفرازات طبقية عدوانية تهدد السلم الاجتماعي، وتدفع المواطنين إلى الاحتماء خلف السلاح، وليس خلف الدولة التي أصبحت في نظرهم طرفا في تهجير رعاياها من مواطنهم، وسيشعر أهالي دماج الأصليين بالغبن والخيانة، وسيتم التعامل معهم كرهائن وسبايا وغنائم حرب، وسيكون أرفعهم مكانة من يقترب أكثر من طاعة الحوثيين، وستكثر حوادث التصفية للمخالفين ومن ثبت قتاله ضد الحوثيين في السابق، أما السلفيون فسيظلون هدفا ثمينا للحوثيين، وسيلاحقونهم في كل مكان، خاصة في المخيمات التي ستأويهم كاللاجئين الأجانب.

وبعد هذه الحادثة، سيتدافع المجتمع بنخبه ومكوناته -خاصة في المناطق القبلية- إلى التسليم بالولاء والطاعة للحوثي، الذي سيشكل دولة حاضرة في نفوس الناس أشد هيبة ورهبة من الدولة الحقيقة، ولن يسلم الحوثيون أسلحتهم الثقيلة والمتوسطة للدولة، وإن كان أغرتهم الوعود بتسليم سبع دبابات من أصل 39 دبابة يمتلكونها.

وفي القريب العاجل سيكون الدور القادم على "آل الأحمر" مشايخ قبائل حاشد، وسيخوضون حربا أشد شراسة مع الحوثيين، لأن أهالي "حاشد" سيشعرون بالعار، من تهجيرهم من مواطنهم، فيما الحوثيون سيقاتلون تحت راية النصر السابق، ومن خلفهم قوة أميركا الداعمة لهم، وسيعتمدون على خلخلة "حاشد" بالاستقطابات ودر الأموال الطائلة على أفرادها ومشايخها، كما يحدث الآن في الحرب الدائرة بين آل الأحمر والحوثيين في شمال محافظة عمران.

مثلث الغموض
خاض الحوثيون ست حروب ضد الدولة تحت شعار "الموت لأميركا"، ولم يستهدفوا أية مصلحة أو منشأة أميركية، ولم تحذر أميركا رعاياها من دخول اليمن، ولم تنطق سفارة واشنطن بكلمة واحدة ضد الحوثيين.

ورفضت إدراج الحركة الحوثية في قائمة الإرهابيين، وتلاحق الطائرات الأميركية رجال القاعدة في كل مكان، ولم تقتل يوما قياديا حوثيا، بل كان إدراج واشنطن اسم الناشط الحقوقي والسياسي السلفي عبدالوهاب الحميقاني في قائمة الداعمين للإرهاب في سبتمبر/أيلول الماضي تهديدا أميركيا واضحا للحركة السلفية، بأنه في حال تقدمها عسكريا على الحوثيين سيتم ملاحقتهم بتهم الإرهاب، وتجميد أموالهم، ثم أن طائرات أميركا بدون طيار تملأ سماء اليمن.

أما "آل الأحمر" فليس عليهم وحدهم انتظار الدور القادم، فالسعودية أيضا عليها انتظار دورها، فأموالها وسياستها العبثية، هي من أوصلتها إلى بيع حلفائها السلفيين، وتقوية الحوثيين الذين تختلف معهم عقائديا وسياسيا من أجل ضرب الإخوان المسلمين، دون التفكير في أن إخوان اليمن لا يملكون غير راية بيضاء في وجه السعودية منذ أربعة عقود.

وإذا كان رئيس المخابرات السعودية بندر بن سلطان قد تلقى تطمينات أميركية بأن الحوثيين لن يكونوا قوة مؤذية للسعودية، فعليه أن يتذكر مقولة رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير: "لم نقل يوما إن سياستنا الخارجية مبنية على الأخلاق".


: الأوسمة



التالي
الربيع العربي بدأ يزهر
السابق
معركة تحرير مصر والعرب والمسلمين .. بل وتحرير العالم من طغيان الصهيونية الأمريكية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع