البحث

التفاصيل

في ذكرى وفاته الـ41..الشيخ شلتوت ..عندما يناصر الأزهر الشريف الثورة

لما يعز الرجال المنتمين إلى علماء الدين الحنيف في قمة المناصب في أيامنا هذه، وتتألم النفس بقوة من (أناس) درسوا ظاهر دين الله تعالى، ولم ينفذ إلى شغاف قلوبهم، ولم يلمس وجدانهم، ولم يهذب عقولهم فانصاعت للباطل إذ يتجبر، وأنكرت حقائق دين الله تعالى من حفظ للنفس والعرض والمال، بل أجازت التعدي على كل هذا باسم الدين، والدين منهم ومن فتواهم براء، وإنما سعوا من اجل مال أو منصب زائل، لما يعز على المرء تصرف أمثال هؤلاء، وهم على قلتهم في دنيانا يؤثرون في واقع حياة بلداننا بل أمتنا في ظل واقع حضاري بالغ المرارة، لما يعز على المرء فعلهم يذهب إلى الأطهار الذين سعوا في الأرض ليحقوا الحق، وينطقوا به مهما كانت الصعاب التي يلاقونها..                                                

الإمام الراحل محمود شلتوت الشيخ السابع والثلاثين للأزهر الشريف واحد من هؤلاء، وقد مرتْ بنا ذكرى وفاته منذ أيام في سكون تام حيالها، فالرجل لم يكن ممثلاً ولا ما شابه كي يحتفي به من لا يهمهم سوى تغييب أمتنا، وحاشا لله لهم أن يفعلوا، ففي 12 من فبراير عام 1963م توفي الرجل إلى رحمة الله تعالى وفي ليلة الإسراء والمعرج بعد جراحة خطيرة تعافى منها لأيام قليلة، وللرجل فضل لا ينسى في ثورة 1919م إذ كان من علماء الدين الذين لم يرهبهم لا الحكم في مصر ولا الإنجليز، وكم من علماء للدين يرهبهم أقل من ذلك بمراحل، بل يسعون خلف المغانم قبل أن يفكروا في المغارم..  

    
الميلاد والنشأة والتعليم:
في قرية منية بني منصور التابعة لمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة ولد، رحمه الله تعالى، عام 1893م، وكان أهل البيت من المهتمين بالعلم، لذا ذهب إلى كُتّاب القرية صغيراً ليحفظ آي الذكر الحكيم كاملاً، ويلتحق بمعهد الإسكندرية الديني عام 1906م، وكان من المتفوقين في الدراسة منذ هذه المرحلة المبكرة من عمره، وظل الأول على أقرانه حتى تخرج من المعهد، وشد الرحال إلى الأزهر الشريف ليكمل المسيرة التعليمية على يد مشايخه الأفاضل، وليستمر في نبوغه حتى يكون أول من نال الدكتوراة عام 1918م بمرتبة الأمتياز، وليتم تعيينه مدرساً في معهد الإسكندرية الديني عام 1919م، وهو نفس عام الثورة..       

 

مع الثورة:

 لم يكن الرجل من الساعين إلى المغانم بل المتقبلين بصدر رحب للمغارم في سبيل دينهم ونهضة ورفعة أمتهم، فلما قامت ثورة عام 1919م، والتئم شأن المصريين عليها، كان الشيخ من المشاركين فيها بنفسه وقلمه معاً، في جرأة عُرِفَ بها، حتى جذب الأمر انتباه الشيخ مصطفى المراغي آنذاك، شيخ الأزهر المحب له ولبلده ومن قبل دينه ثم أمته، ومن ثم نقل الشيخ شلتوت للقسم العالي بالأزهر الشريف وكان يرأسه الشيخ عبد المجيد سليم، ولم يكد الشيخ مصطفى المراغي يعد مذكرته الشهيرة لإصلاح الأزهر الشريف حتى كان الشيخ شلتوت من أول المؤيدين لها، بل كتب مقالات في جريدة  السياسة اليومية مبيناً أثر المذكرة في رقي شأن الأزهر، ولكن الملك فؤاد كان ساخطاً على الأمر، وأعانه على ذلك وجود معارضين للإصلاح داخل الأزهر الشريف نفسه، وهل يخلو من أمثالهم في كل عصر؟                                           

     
وكان أن تولى الشيخ الظواهري مشيخة الأزهر، وقوبل بعنف وقابل العنف بعنف مماثل وصل لفصل الشيخ شلتوت والعشرات من أمثاله ممن كانوا في طليعة المنادين بإصلاح الأزهر الشريف..  

 

                                                
مع المبادئ:
في سبيل المبادئ السامية وعلى رأسها الدفاع عن دين الله تعالى تقبل الشيخ شلتوت الأمر بسعة نفس، وراح يعمل مصاحبة الشيخ علي عبد الرازق الشيخ السابق للأزهر الشريف في المحاماة مطلعاً على جوانب من التشريعات والقوانين بل الناس من وجه عملي جديد، ودارت الأيام دورتها، واعتدلت الأمور فعاد الشيخ شلتوت مع الذين تمت إعادتهم إلى الأزهر الشريف عام 1935م، بعد أن زادته المحنة الشديدة الممتدة لسنوات في سبيل عظائم الأمور وتقوى الله تعالى، وقد زادته المحنة ثباتاً وعلماً معاً، حتى إذا عاد إلى عمله عُيِّنَ مدرساً بكلية الشريعة، ثم وكيلاً لها، وصقلت مهارته العلمية الحقوقية، وجذبت انتباه العامة والخاصة، وظهر كفقيه ملم بتفاصيل دينه ثم عصره، وعبر نشاطات متعددة..        

                   
إلى لاهاي:
وفي عام 1937م تمت دعوة الأزهر الشريف إلى المشاركة في مؤتمر القانون الدولي المقارن المعقود في هولندا، وبلا منازع اختار المجلس الأعلى للأزهر الشريف الشيخ شلتوت للذهاب إلى لاهاي، وقد كان، كما أن البحث الذي ألقاه تحت عنوان (المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية) مصدر إعجاب لأعضاء المؤتمر حتى إن الوفود الغربية المشاركة بالمؤتمر اعترفت بمكانة التشريع الإسلامي الحقيقية في العصر الحديث، بل كونها صالحة لكل زمان ومكان، وإقرار اللغة العربية كإحدى لغات المؤتمر في سنواته القادمة، مع استضافة علماء عرب آخرين.


تدرج في المناصب:
ومن المناصب التي تولاها قبل مشيخة الأزهر الشريف:                                                                     
ـ عضوية جماعة كبار العلماء عام 1941م بالإجماع، وكان أول من دعا إليه حينها إنشاء مكتب علمي للجماعة تكون مهمته معرفة ما الإدعاءات التي يُهاجم عبرها الإسلام للرد عليها، وبحث جديد المعاملات العصرية لبحثها عبر الفقه الإسلامي وتجديده، كما دعا لمراجعة التفاسير وعلوم الدين لإبعاد الإسرائيليات والخرافات منها، وقد تم تأليف لجنة لهذا الغرض تولى أمرها الشيخ عبد المجيد سليم، وكانت نواة لمجمع البحوث الإسلامية.                                        

                  
ـ نال الشيخ عضوية مجمع اللغة العربية عام 1946م كما انتدبه جامعة فؤاد الأول لتدريس فقه الكتاب والسنة لطلبة دبلوم الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق..        

                                                                                      
ـ عام 1957م أختاره الرئيس الراحل السادات سكرتيراً عاماً للمؤتمر الإسلامي.           

                                     
ـ ثم تم تعيينه وكيلاً للأزهر الشريف.                    

                                                                      
ولم يثنه كل هذا عن الدعوة إلى دين الله تعالى بكافة الطرق والسبل في الإذاعة عبر حديثه الصباحي ومحاضراته في الجمعيات المختلفة ومنها التقريب بين المذاهب الإسلامية، لذلك كان يومه زاخراً بالدعوة إلى الله تعالى في الإذاعة والجمعيات والهيئات والوزارات عوضاً عن المحاضرات والكتابة في المجلات والصحف..          

                                          
المشيخة:
في 13 من أكتوبر 1958م أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قراراً جمهورياً بتولية الشيخ شلتوت مشيخة الأزهر الشريف، ليركز جهده في إنشاء مجمع البحوث الإسلامية والسعي خلف حلم توحيد الأمة عبر التقارب بين مذاهبها بخاصة السنة والشيعة في إطار من سليم الشرع الحنيف، وقد لاقت دعوته استجابة عالمية، وكان الرجل يرى أن دعوته نابعة من شرع الله تعالى، وإن اختلف معه المختلفون فلتزمه الحجة وتلزمهم، وقد لاقت دعوته صدى عالمياً في وقتها..من أندونيسيا وماليزيا والفلبين والصين، وقد زار هذه الدول، ونال الدكتوراة الفخرية من بعضها..              

                            
وفاته:
أصيب، رحمة الله عليه بمرض عضال لم يثنه عن جهده المضني في سبيل رفعة دينه، واستلزم الأمر إجراء جراحة ما كاد يشفى قليلاً جراءها إلا ووافته المنية في 12 من فبراير 1963 الموافق ليلة 27 من رجب عام 1383م، رحمه الله على شيخ من شيوخ الأزهر، أتفق معه من أتفق، واختلف معه من اختلف، إذ كان بشراً، ولكنه جهر بالحق، وترك مؤلفات وانجازات عظيمة تبقى على مدار الأزمان، ومن قبل جهر بالحق في عصر ثورة ودفع الثمن غالياً.


: الأوسمة



التالي
صافرة النهاية
السابق
تونس والتجربة المصرية.. زاوية فكرية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع