البحث

التفاصيل

لماذا تعثر الربيع العربي

كان المفروض أن تتحول أزهار الربيع العربي إلى ثمرات ولكنه تعثر قبل أن نقطف ثمراته، فما السبب في ذلك؟

هنالك عاملان في أي تغيير هما: العامل الموضوعي، والعامل الذاتي. ويجب أن نعترف منذ البداية أن العامل الموضوعي في التغيير ناضج، وهو الذي جعل جماهير الأمة تقتلع أعتى نظامين استبداديين وهما: نظاما مصر وتونس في زمن قياسي قصير.

وسنلقي بعض الأضواء على العاملين: الموضوعي والذاتي، ثم نبين أسباب التعثر في هذا الربيع العربي.

العامل الموضوعي
يمكن أن نلقي الضوء على العامل في الربيع العربي من خلال ما يلي:
1- وجه بعض الدارسين التهمة إلى الربيع العربي بأنه صناعة أميركية، وهذا الكلام باطل لأن دور أميركا لم يكن صناعة الربيع العربي، بل كان دورها في مسايرته والاستفادة منه وتجييره لصالحها.

    "وجه بعض الدارسين التهمة إلى الربيع العربي بأنه صناعة أميركية، وهذا الكلام باطل لأن دور أميركا لم يكن صناعة الربيع العربي، بل كان دورها في مسايرته والاستفادة منه وتجييره لصالحها"

وأبرز دليل على ذلك هو اضطرارها للتخلي عن بعض عملائها الذين علفتهم ورعتهم ودعمتهم بكل الوسائل التكنولوجية والمالية والإعلامية والمواقف السياسية... إلخ، وهما: حسني مبارك، وزين العابدين بن علي، والتضحية بهم من أجل أن لا تكون خسارتها أكبر في حال التمسك بهم والإصرار على بقائهم.

2- لقد كان الربيع العربي تعبيرا عن حيوية الأمة التي ثارت على كل ألوان الفساد والاستبداد والظلم والقهر الذي مارسه الحكام لعقود طويلة.

ويمكن أن نعطي هذه الحيوية علامتها الحقيقية عندما نعلم أن تلك الجماهير التي ثارت، كانت قد تعرضت إلى تدمير وتمزيق وتشويه لكل عوامل بنائها الذاتي الذي يشمل العوامل الثقافية والاجتماعية والخلقية والسلوكية والنفسية، من خلال خطط وبرامج وآليات، ومن خلال رسم مراحل لتنفيذ تلك الخطط والبرامج والآليات، لكنها لم تفلح في قتل حيوية الأمة وإماتتها، وإن كانت قد استطاعت أن تقتل حيوية بعض الأفراد، وأن تجعلهم يعيشون في متاهات الضياع والاغتراب.

3- من الواضح أنه ما زال للإسلام الدور الكبير والقيمة الأولى في صياغة جماهير الأمة، وأكبر دليل على ذلك هو أن جماهير الأمة ذات الصبغة الإسلامية، كانت هي الجماهير الأكثر حضورا وفاعلية وتأثيرا من الجماهير الأخرى ذات الصبغة الليبرالية أو الشيوعية أو اليسارية أو الحداثية أو غيرها.

وأكدت تلك الحقيقة أن تلك الجماهير هي التي صوتت لصالح القيادات الإسلامية في دول الربيع العربي، وأنجحتها في الانتخابات التشريعية أو الرئاسية أو في التصويت على مشاريع الدساتير ذات الصبغة الإسلامية.

حدث ذلك من جماهير الأمة مع تعرض الإسلام لحملة تشكيك عميقة وواسعة في قيمة الإسلام من جهة، وبضرورة قراءته قراءة حداثية من جهة ثانية، أما التشكيك فهو قديم وتناول السنة المشرفة والقرآن الكريم والصحابة -رضي الله عنهم- واللغة العربية والفقه والحكم الإسلامي وغير ذلك.

وأما القراءة الحداثية فقد قام بها عدد من الكتاب المعاصرين ومنهم: محمد شحرور وأدونيس ومحمد سعيد العشماوي ومحمد أركون وحسين أحمد أمين وعبد المجيد الشرفي ومحمد عابد الجابري... إلخ.

وتدور الدعوة إلى القراءة الحداثية حول محور أساسي واحد هو أن نثبت النص القرآني ثم نفسره حسب معطيات عصرنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية مع اختلافات متعددة بين قراءة وأخرى، لتصبح الحضارة الغربية هي الأصل في وجود الأمة وحياتها، وليصبح الإسلام عنوانا وديكورا، دون أن يكون أي دور لقيمه وأفكاره وآرائه وطروحاته.

العامل الذاتي
أما بالنسبة للعامل الذاتي في الربيع العربي فنذكر بما يلي:
1- الفهم الخاطئ للدولة الوطنية: ظنت القيادات الإسلامية أن الدولة الوطنية -بكل مؤسساتها من جيش وقضاء وإدارات محلية- دولة محايدة وأنها يمكن أن تستجيب لإرادة جماهير الأمة وأكثريتها وأنها خالية من أي موقف مسبق، وهذا قصور ونقص في وعي تاريخ هذه الدولة التي جاءت بعد رحيل الاستعمار والتي طبعها الاستعمار بطابعه الأساسي وهو العداء للدين الإسلامي.
وهذا ما حدث قبل عشرين سنة في الجزائر عندما حصل الإسلاميون على أكثر من تسعين بالمائة من البرلمان، وكان المفروض أن يكونوا الحكام الفعليين للجزائر، لكن الجيش الذي هو أحد أعمدة الدولة الوطنية انقض على البرلمان وحله، ولم يأبه بإرادة الجماهير ورغبة الأكثرية.

    "ظنت القيادات الإسلامية أن الدولة الوطنية محايدة وأنها يمكن أن تستجيب لإرادة جماهير الأمة وهذا قصور ونقص في وعي تاريخ هذه الدولة التي جاءت بعد الاستعمار وطبعها بطابعه "

وهذا الأمر هو الذي تكرر في مصر وكان على التيار الإسلامي أن يحسب حسابه مسبقا لكي لا يكرر خطأ من سبقه، ويقع في نفس المطب، ولو فقه الدولة الوطنية على حقيقتها لما وقعنا في هذه الكارثة التي نواجهها -الآن- في مصر، والتي من المحتمل أن تتكرر في غير مصر مستقبلا.

2- الموقف من دولة الملالي في إيران: لقد أبطنت دولة الملالي في إيران عداوتها للأمة منذ أن قامت عام 1979، وقد وضح ذلك في إصرار الخميني على شيعية الدولة منذ اللحظة الأولى، وتدوين ذلك في الدستور، ثم تتالت الأحداث مؤكدة هذا العداء منذ وقوفها إلى جانب الأسد في مواجهة الثورة السورية عام 1980، وفي إصرارها على تمزيق الأمة من خلال تسخير جهود الدولة لنشر المذهب الشيعي في كل مناحي العالم الإسلامي، وإثارة الفتن الطائفية نتيجة لتلك الجهود والحال هو أن المطلوب هو الوحدة من أجل مواجهة الخطر الغربي الإسرائيلي.

لم تدرك -بكل أسف- كثير من الفصائل الإسلامية في العالم الإسلامي عداوة دولة الملالي للأمة، وبقيت تتعامل معها على أنها قوة تخدم الأمة وربما التبس عليها الأمر نتيجة موقف إيران من القضية الفلسطينية، ودعواها معاداة إسرائيل، لذلك بنت عليها كثيرا من الآمال لخدمة الربيع العربي.

ولكن اتضح موقفها الصارخ في معاداة الربيع العربي، وفي معاداة الأمة في موقفها من الثورة السورية، حيث سخّرت إمكانات دولة الملالي لمساعدة نظام بشار في قتل السوريين وتدمير سوريا، ودفعت المليشيات الموالية لها في لبنان والعراق وإيران: كحزب الله وكتائب أبو الفضل العباس والحرس الثوري الإيراني للمقاتلة إلى جانب النظام وتثبيت أركانه، بعد أن تخلخل بناؤه، وانهارت دعائمه.

3- الفقر في تقويم التجارب الإسلامية المعاصرة: لقد مرت الحركة الإسلامية بتجارب متعددة على امتداد العالم الإسلامي خلال القرن الماضي بدءا من تجربة الأفغاني ومحمد عبده، ومرورا بتجربة حسن البنا، ثم بتجربة أبو الأعلى المودودي، ثم بتجربة الجهاد الأفغاني في أفغانستان عام 1980، ثم بتجربة الثورة السورية في مواجهة حكم حافظ الأسد عام 1980، ثم بتجربة تحرير مورو في الفلبين، ثم انتهاء بالصحوة الإسلامية التي كانت بعد نكسة عام 1967 وسقوط التيار القومي العربي أمام اسرائيل وخسارته لسيناء والجولان والضفة الغربية.

مجالات قصور
والحقيقة أن الحركة الإسلامية لم تقم بتقويم التجارب الإسلامية السابقة وغيرها بشكل تفصيلي، وكان الواجب أن تقوم بتقويمها في عدة مجالات أساسية من أجل أن تسدد مسيرتها الحالية، ونستطيع أن نبرز أهم مجالات القصور وهي:

أ‌- في مجال المنهج:
يجب أن يرصد التقويم رصيد الحركات الإسلامية من المنهج الحق في بناء الفرد والجماعة والقصور في ذلك، وأثر ذلك على عدم التوصل إلى النتائج السليمة في تغيير الواقع، ثم كيفية معالجة الخلل في مراحل قادمة، ووضع البرامج الكفيلة بالارتقاء في بناء الفرد والجماعة.

ب‌- في مجال القيادة:
يجب أن يرصد التقويم تحقق الشروط الشرعية التي طلبها الشرع في القيادات التي قادت الجماعة في تلك المرحلة وأبرزها: الربانية، والتبحر في العلم الشرعي وإدراك واقع الحضارة الغربية والواقع المحيط بهم، وقدرتهم على الإبداع والاجتهاد العميق، والارتباط بالأمة، ومحاولة استكمال وتحقيق ذلك في قيادات المراحل القادمة، لأن استيفاء القيادات للشروط الأساسية في بنائها الذاتي يعتبر من أحد العوامل الرئيسية في نجاح الحركات الإسلامية في تحقيق أهدافها، وغياب هذه الشروط أحد العوامل الرئيسية في فشلها.

    "من المؤكد أن أحد الأسباب الرئيسية لتعثر الحركات الإسلامية هو خطؤها في فهم الواقع، لذلك عليها أن تتأكد في مراجعاتها من صحة فهم الواقع ومطابقته للحقيقة وتحديد مكان الخلل فيه وإصلاحه"

ج- في مجال فهم الواقع:
من المؤكد أن أحد الأسباب الرئيسية لتعثر الحركات الإسلامية في تحقيق أهدافها هو خطؤها في فهم الواقع لذلك عليها أن تتأكد في مراجعاتها من صحة فهم الواقع ومطابقته للحقيقة وتحديد مكان الخلل فيه وإصلاحه.

ويشمل فهم الواقع تحديد وضعية الدولة، ووضعية الجماهير، وعلاقة الدولة بالجماهير، وتوزيع الطوائف، وسياسة الغرب تجاه الدولة... إلخ، ووضع خطة للتغلب على كل الصعوبات، والنجاح في التغيير.

الخلاصة: ألقينا بعض الأضواء على العاملين: الموضوعي والذاتي في الربيع العربي، وتبين لنا أن التعثر في الربيع العربي جاء من القصور في العامل الذاتي، وقد نفينا تهمة الصناعة الأميركية للربيع العربي.

كما تبين لنا أن الربيع العربي كان نتيجة لحيوية الأمة ولدور الإسلام في بناء هذه الحيوية رغم الاستهداف المبرمج لتدمير تلك الحيوية ولدور الإسلام.

وأوضحنا القصور في العامل الذاتي وبيّنا ثلاث قضايا في هذا القصور، وهي: الفهم الخاطئ للدولة الوطنية، الموقف من دولة الملالي في طهران، الفقر في تقويم التجارب الإسلامية المعاصرة.


: الأوسمة



التالي
لماذا اهتمت جماهير الأمة بانتخابات تركيا؟
السابق
نظرية جديدة لتفسير اسباب صعود و هبوط الامم

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع