البحث

التفاصيل

من إفساد الضمائر إلى خطف الذاكرة

الصراع الحاصل في مصر توسل بإفساد الضمائر وانتقل إلى اختطاف الذاكرة، ونهايته لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات.

(1)

من أخبار يوم 4 مايو/أيار الجاري أن وكيل وزارة التعليم بمحافظة المنيا أحال واضع امتحان اللغة العربية للصف الرابع بمدرسة المنيا الصناعية للتحقيق بسبب وصفه يوم 25 يناير الذي انطلقت فيه الثورة بأنه "من أعظم أيام المصريين".

وذكر الخبر أن تلك الإشارة في موضوع التعبير لمادة اللغة العربية اعتبرت مخالفة لقرار وزير التعليم القاضي بحظر ذكر ثورتي 25 يناير و30 يونيو في الامتحانات، لماذا؟ لأنها -والعهدة على الجريدة- موضوعات خلافية من شأنها إثارة الخلافات بين الطلاب. ذلك أن البعض يعتبر 25 يناير ثورة عظيمة، والبعض الآخر يصفها بأنها مؤامرة.

إذا صحت رواية صحيفة "المصري اليوم" التي نشرت الخبر فإن وزير التعليم اعتمد قرار إحالة موجه اللغة العربية بالمدرسة الصناعية الذي وضع السؤال في امتحان التعبير إلى التحقيق، وطلب إفادته بنتيجته.

تصادف أن تم نشر ذلك الخبر في يوم ميلاد الرئيس الأسبق حسني مبارك (4 مايو/أيار) ونقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورة له وهو يحيي أنصاره من نافذة مقر إقامته في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي.

ووجهت إليه صفحة "آسف يا ريس" على موقع الفيسبوك التهنئة بهذه المناسبة باعتباره يجسد "كل معاني الوطنية"، ووصفته في عيد ميلاده السادس والثمانين بأنه "من أشرف رجال مصر"، وناشدته ألا يحزن "من قلةٍ أساءت إليه وشوهت تاريخه".

ما سبق يقربنا من المعنى الذي قصدته بالإشارة إلى مسألة اختطاف الذاكرة. ذلك أن مدير التعليم في محافظة المنيا اختار الحياد بين القائلين بأن ما حدث في 25 يناير مؤامرة وبين من ادعوا بأنها ثورة. ولا أحد يعرف إن كان موجه اللغة العربية سيعاقب ويحال إلى التحقيق لو اكتفى بالإشارة إلى "ثورة" 30 يونيو أم لا.

على فرض صحة ما ذكرته الصحيفة السابقة الذكر، فإن التشكيك في ثورة يناير حدث في نفس اليوم الذي جرى فيه تمجيد مبارك الذي ثار الشعب ضد استبداده وفساد نظامه.

من ثم فإن الرسالة التي نتلقاها إذا وضعنا الخبرين جنبا إلى جنب، هي أن ما حدث في 25 يناير ليس موثوقا فيه ويشك في كونه مؤامرة، وأن مبارك رمز وطني جرى تشويهه، وهو ما يعد قراءة جديدة وصياغة للحدث مختلفة عما استقر في الأذهان خلال السنوات الثلاث التي خلت.

(2)

ما سبق مجرد لقطة من تجليات حملة اختطاف الذاكرة المصرية.. هذا الاختطاف الذي عنيت به السعي لمحو الذاكرة وإعادة كتابة محتواها من جديد لتحقيق مآرب معينة، من بينها تعزيز موقف القوى المتغلبة أو إدانة طرف وتبرئة طرف آخر.

وهو التقليد الذي كان متبعا في عصور الفراعنة، حين كان الفرعون الجديد يمحو آثار سابقه المكتوب على المسلات، ليسجل تاريخه الخاص، كي يظل هو التاريخ الوحيد الجدير بالذكر. لسنا بصدد تصرفات فردية تنسب لأصحابها، لكننا بصدد حالة جديرة بالإثبات والنظر.

في هذا الصدد فإن الباحث لا تفوته ملاحظة خفوت الجدل حول ما إن كان ما حدث في 30 يونيو ثورة أم انقلابا، كما تراجعت أصوات التوفيقيين الذين اعتبروا حدث 30 يونيو موجة جديدة في ثورة 25 يناير، ووجدنا أنفسنا أخيرا أمام موجة الجدل حول حقيقة ثورة يناير ذاتها والجهر إما باعتبارها مؤامرة أو بمجرد التشكيك في أنها ثورة.

وخلال الأشهر القليلة الماضية قرأنا أوصافا اعتبرتها نكسة، وأخرى وصفت المشاركين فيها بأنهم "مرتزقة يناير"، وأخيرا قرأنا لمن كتب في جريدة الأهرام (عدد 27/4/2014) أن "الولايات المتحدة وعددا من دول الغرب كانت أطرافا مباشرة في التآمر على مصر خلال عملية يناير 2011، ومحاولة هدم الدولة"، وهو وصف ضنَّ على ما جرى بوصف الثورة، وآثر التهوين من شأنها مع التشكيك في خلفياتها وبواعثها.

التشكيك في الثورة مجرد حلقة في مسلسل الاختطاف، لأن ما حدث بعد ذلك ذهب إلى بعيد، حيث مُحي التاريخ تماما وجرى تثبيت تاريخ جديد مكانه.

وللتذكرة فقط فإن الثورة مرت بأربع مراحل حتى الآن هي: انطلاقها الذي أدى إلى إسقاط الرئيس حسني مبارك وتنحيه عن السلطة، ثم مرحلة الحكم العسكري، وبعدها جاءت مرحلة حكم الإخوان التي انتهت بعزل الدكتور مرسي، وبدأت المرحلة الرابعة يوم 3 يوليو/تموز التي أعقبت العزل وفي ظلها عين رئيس المحكمة الدستورية رئيسا مؤقتا للجمهورية.

شاءت المقادير أن يتم توثيق أحداث المرحلتين الأوليين عبر لجنتين لتقصي الحقائق شكلتا برئاسة اثنين من أبرز رجال القضاء وأكثرهما استقامة ونزاهة، هما الرئيس الأسبق لمحكمة النقض المستشار عادل قورة الذي رأس لجنة تحقيق أحداث الثورة، والمستشار محمد عزت شرباص نائب رئيس محكمة النقض الذي ترأس اللجنة الثانية الخاصة بمرحلة حكم المجلس العسكري.

وقد عمل مع كل واحد منهما فريق من الخبراء والمتخصصين الذين بذلوا جهدا هائلا في تقصي أحداث المرحلتين، وقدم الأول تقريره في 450 صفحة وجاء تقرير الثاني في 750 صفحة. ولأن التقريرين اتسما بأعلى درجات الأمانة والنزاهة ولم يجاملا أحدا من أهل الحكم أو رجال المؤسسة الأمنية خصوصا، فإن التقريرين دفنا وتم تجاهلهما تماما.

ولم ير النور منهما غير خلاصة في 42 صفحة أفلتت من الحصار مصادفة، لأنها أعلنت في مؤتمر صحفي يوم 18/4/2011 عقب تسليم التقرير الأصلي لرئيس الوزراء آنذاك الدكتور عصام شرف.

ونشرت صحيفة "المصري اليوم" ملخص التقرير في عدد 19/4، وهو موجود إلى الآن على الإنترنت.
أما التقرير الثاني الذي تقصى الأحداث التي وقعت في ظل مرحلة الحكم العسكري، فقد وئد بالكامل ولم يظهر له أثر، باستثناء المعلومات المثيرة التي أدلى بها المحامي أحمد الراغب الذي كان أحد أعضاء الفريق الذي أعده، ونشرتها صحيفة "الشروق" يوم 3/1/2013.

هذا المشهد يمثل فصلا آخر من فصول خطف الذاكرة ومحوها ثم شحنها بتاريخ جديد مختلف تماما. ذلك أن تاريخ هاتين الفترتين من عمر الثورة طُمِست حقيقته مع دفن التقريرين المذكورين، وأعيدت صياغته بناء على تقارير الأجهزة الأمنية.

وكل المحاكمات التي جرت بعد ذلك -بما في ذلك تبرئة ضباط الشرطة من جرائم قتل المتظاهرين في 42 قضية- تمت بناء على تلك التقارير، علما بأن تقريري تقصي الحقائق شهدا بإدانتهم، ولم يشيرا في أي موضع إلى الأطراف التي اتهمتها الصياغة الجديدة، الأمر الذي أدى إلى تبرئة المدانين وإدانة الأبرياء.

(٣)

حين تساءلت يوم 2/4/2012 بعد اتجاه الإخوان لترشيح أحد قياداتهم للرئاسة، عما إذا كانوا قد وقعوا في الفخ، لم يخطر على بالي أن يكون الفخ بتلك الخطورة التي حدثت، إذ كنت مقتنعا بأنهم ليسوا جاهزين للحكم ولا كان المجتمع جاهزا لحكمهم، على الأقل من زاوية النخب ومراكز القوى وشبكات المصالح المهيمنة.

كانت إرهاصات التشكيك في الثورة قد لاحت في الأفق بعد اتهام بعض المشاركين فيها بالعمالة واستقبال التمويل الخارجي، وكانت حملة إخفاء الحقيقة في الأحداث التي تتابعت خلال المرحلتين السابقتين قد حققت نجاحا مشهودا، الأمر الذي أعاد الثقة إلى الجهات صاحبة المصلحة في إجهاض الثورة وتوجيه الضربة القاضية إليها، وفي هذه الأجواء ظهر الإخوان على المسرح وتسلموا السلطة بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية.

كان الإخوان صيدا سهلا وثمينا في الوقت ذاته.. كانوا صيدا سهلا لأن أخطاءهم وقلة خبرتهم بإدارة البلد سهلت انفضاض كثيرين من حولهم، فاستدعوا مزيدا من الخصوم ولم يتمكنوا من كسب تأييد المزيد من الحلفاء والأصدقاء، مع الإقرار بأن بعض الأخيرين تعمدوا إفشالهم.

وكانوا صيدا ثمينا لأنهم كانوا بمثابة القوة السياسية الأكبر في الساحة المصرية، وبدا أن من عداهم كانوا من دلائل الجدب والخواء في تلك الساحة. من ثم فقد غدا إسقاطهم بمثابة ضربة قاصمة ليس فقط للوضع الذي استجد في مصر، ولكن أيضا للربيع العربي كله الذي تناثر رذاذه وترددت أصداؤه في العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.

ليست لدينا مصادر محايدة أو نزيهة تسمح لنا بالتعرف على حقائق ما جرى أثناء العام الذي أمضاه الدكتور محمد مرسي في منصبه رئيسا للجمهورية، لكن كل ما نعرفه أنهم لم ينجحوا في التواصل مع المجتمع، كما أنهم وقعوا في سلسلة من الأخطاء السياسية التي نجمت عن قلة الخبرة وغياب الرؤية وسوء التقدير.

وفي كل ذلك فإننا سمعنا وجهة نظر واحدة من جانب الرافضين لحكم الإخوان أو خصومهم السياسيين والعقائديين، وهو ما اقترن بجهد كبير بُذل لإشاعة الكراهية وإفساد الضمائر وإذكاء الرغبة في الانتقام وتسويغ القتل.

ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن تاريخ تلك المرحلة التي انتهت بعزل الدكتور مرسي فيه من المجهول أكثر من المعلوم، حيث لا تزال لدينا أسئلة كثيرة معلقة حول العوامل والأطراف الأخرى التي أسهمت في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه، وكيف تطورت المطالب من الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة إلى الإطاحة بالنظام كله، وانتهت باتهام الرئيس بالتجسس والتخابر واتهام جماعته بأنها إرهابية، إلى غير ذلك من العناوين التي أفاض فيها الإعلام وغذتها المؤسسة الأمنية بسيل من الروايات التي لم تكتف بإدانة حكم الإخوان، ولكنها أعادت كتابة تاريخهم من جديد منذ عام 1928.

(4)

الخلفية التي أوردتُها باختصار وراء عدم ترحيبي بالدعوة التي تلقيتها للإدلاء بشهادتي أمام اللجنة القومية لتقصي حقائق أحداث "ثورة" 30 يونيو، لاقتناعي بأن المناخ ليس مهيأ للتعرف على حقائق تلك المرحلة الأخيرة التي شهدت أعلى درجات العنف، حيث قتل فيها حتى نهاية يناير/كانون الثاني الماضي 3248 شخصا حسب موقع "ويكي ثورة" المستقل، وبعدما وجدت أن المؤسسة الأمنية المهيمنة لم تكتف بإدارة الأحداث فقط، ولكنها عكفت على كتابة تاريخها أيضا كما ذكرتُ في مرة سابقة، إذ إنني مقتنع بأنه ما لم ينشر على الملأ تقريرا المستشارين عادل قورة ومحمد عزت شرباص، فلا يحدثنا أحد عن تاريخ، لأن تقارير الأجهزة الأمنية ستظل هي المصدر المعتمد والمعول عليه.

تلك خلاصة أولى أردت التنبيه إليها. أما الثانية والمهمة فهي أن هذا الذي نحن بصدده يشكل انشغالا بالماضي وحساباته، وانصرافا عن تحديات الحاضر والمستقبل. وأخشى ما أخشاه أن تصدق فينا مقولة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في أعقاب الحرب العالمية الثانية، من أننا لو تركنا الحاضر يصارع الماضي فسيضيع منا المستقبل.

الخلاصة الثالثة والأهم أن القرائن التي تحت أعيننا -خصوصا التحالفات الإقليمية التي تشكلت بعد ٣٠ يونيو- تدل كلها على أن المستهدف في النهاية ليس فقط إجهاض الثورة واستعادة نظام مبارك، وإنما الهدف هو الربيع العربي الذي فتح شهية الجميع للتغيير في العالم العربي، فأثار النقمة والغضب، حتى احتشد المضارون من التغيير فشحذوا هممهم وفتحوا خزائنهم وسنوا سكاكينهم للانقضاض عليه والخلاص منه، قبل أن يطرق التغيير أبوابهم.


: الأوسمة



التالي
عندما تتساقط اللحى والعمائم
السابق
المراقبة والمحاسبة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع