البحث

التفاصيل

أسلافنا.. والوَحْدة الوطنية


إيمان هذه الأمة بالوَحْدة الوطنية والقومية إيمانٌ راسخ لا شك فيه، بل لقد رأت- ببصيرتها النافذة وحسها الفطري- أنَّ الشقاقَ الطائفي كان على مرِّ تاريخها الثغرةَ التي يحاول أعداؤها النفاذ منها؛ بحثًا عن الركيزة التي تضمن لاستعمارهم واستغلالهم الفعاليةَ والاستمرارَ!.

وأوضح ما كانت وتكون يقظةُ أمتنا لهذه الحقيقة في لحظات المحن والمواجهة مع الأعداء.

ففي مصر مثلًا أثناء الثورة العرابية (1881م-1882م) كانت أوروبا الاستعمارية وإنجلترا بالذات تسعى لشق وَحْدة الصف الوطني، الذي ارتفع متينًا وشامخًا خلف أحمد عرابي (1257-1329هـ/1841-1911م)، وفي مواجهة هذا المسعى الاستعماري كانت يقظة الشعب والثورة، التي تجلت في وحدة طوائف الأمة، على نحو لا مثيل له في غير مجتمعاتنا العربية التي تنعم بسماحة دين الإسلام.

فعندما انحاز الخديوي توفيق (1269-1309هـ/1852-1892م) وأعوانه إلى الإنجليز الغزاة- رفض الشعب الاستسلام، وخلع عن سلطة الخديوي شرعيتها، وتجسدت إرادة الشعب يومئذ في "برلمانه الثوري"، الذي سُمِّي بـ"المجلس العرفي"، وفيه تجسدت وحدة الشعب الوطنية والقومية كأروع ما تكون.

فمع عدد من الأمراء، ورجال الدولة، والإدارة، والتجارة والأعيان- كان علماء الإسلام، بمذاهبه المتعددة، وكذلك قضاة الشرع، ونقيب الأشراف، وأيضًا كان بهذا المجلس العرفي "مرخص الأرمن الكاثوليك"، ووكيل الأقباط الكاثوليك، ووكيل بطريكية الروم الأرثوذكسي.. كان جميع هؤلاء أعضاء في برلمان الثورة العرابية "المجلس العرفي" يجسدون وحدة الأمة الوطنية والقومية، على اختلاف مذاهبها وأديانها وشرائعها، يسدون الثغرات في وجه دعاة الاختراق.

فأين- في غير إطار أمتنا العربية الإسلامية- اشتركت وشاركت الأقليات جميعًا في صنع مصير الأمة عند الملمات؟.

إنَّ تاريخنا لم يعرف الحروب الدينية التي لطخَّت التاريخ الأوروبي بالدم والعار, بل عرف تاريخنا هذه الوحدة الوطنية والقومية التي تعدت إطار التسامح والإخاء إلى المشاركة في صنع المستقبل وتقرير المصير.

وفي ذات أحداث الثورة العرابية، عندما حاول الإنجليز تشويه سمعة هذه الثورة دوليًّا بزعم أنَّ لها مواقف طائفية معادية لغير المسلمين كان رد "الحزب الوطني الحر"- الذي سبق وكوَّنه جمال الدين الأفغاني (1256-1314هـ/1838-1897م)، والذي يقود الثورة العرابية- هو نَشْر برنامجه الذي يدحض هذا الافتراء.

ويزيد هذا الأمر أهمية أنَّ هذا البرنامج قد صاغه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/1849-1905م) وهو أحد قادة الثورة.

وفي المادة الخامسة من هذا البرنامج كتب الشيخ محمد عبده عن موقف الحزب من الطائفية ينفيها ويقطع بوطنية الثورة وقوميتها؛ فالحزب القائد لها لا تقتصر عضويته على المسلمين وحدهم, فهو ليس حزبًا دينيًّا خاصًّا بأبناء دين واحد, وإنَّما هو حزب كل المصريين على اختلاف عقائدهم ودياناتهم.

فجاء في هذه المادة الخامسة من برنامج هذا الحزب:

"الحزب الوطني حزبٌ سياسي لا ديني أي غير طائفي؛ فإنَّه مؤلَّف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها منضم إليه؛ لأنَّه لا ينظر لاختلاف المعتقدات ويعلم أنَّ الجميع إخوان, وأنَّ حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية، وهذا مُسَلَّم به عند أخص مشايخ الأزهر، الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أنَّ الشريعة المحمدية الحقَّة تنهى عن البغضاء وتعتبر الناس في المعاملة سواء.

هكذا تألَّق الفكر الوطني والقومي المنطلق من الشريعة الإسلامية، وهكذا تقرر وأُعلن في برنامج أول حزب سياسي عرفه الشرق والعصر الحديث- الحزب الذي كوَّنه الأفغاني ومحمد عبده، والذي قاد أولى الثورات الشعبية في الشرق- تَقَرَّر أنَّ الشريعة الإسلامية هي الضامنة للمساواة بين كل أبناء الوطن: من النصارى، واليهود، والمسلمين، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم لغتها؛ لأنَّها الشريعة التي تنهى عن البغضاء وتعتبر الناس في المعاملة سواء.

هذا هو صنيع أسلافنا الأقربين مع الوحدة الوطنية والقومية للأمة تجاه أعدائها، ومن هذا الصنيع يجب أنْ نتعلم لنكون خير خلف لهؤلاء الأسلاف العظام.


: الأوسمة



التالي
القابضون على الجمر
السابق
إلى الإمام يوسف القرضاوي.. نبضة قلب

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع