البحث

التفاصيل

عندما تعمل دار الإفتاء لحساب المخابرات السورية

المؤسسات الدينية الكبيرة والمحترمة لا تجعل من نفسها ألعوبة في يد أجهزة المخابرات ، سواء المحلية أو الدولية ، فانتسابها للدين واضطلاعها "بشرف" الحديث باسم الشريعة وأصولها وأحكامها ، واحترامها "للأمانة" التي وضعت في أعناقها ، يجعلها أحرص الناس على التدقيق والتثبت من الأخبار ، والروية في التعليق ، وعفة اللسان في النقد ، والتجرد في الحكم على الأشياء ، وهذا كله ما غاب عن دار الإفتاء المصرية ، التي يستباح اسمها ومكانتها خلال الأشهر الماضية بصورة بالغة الإسفاف ، وكان آخر هذه الاستباحة التعليقات المتدنية والمنحطة التي صدرت عن بعض قيادات دار الإفتاء ضد فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي ، العالم الجليل ، وعضو هيئة كبار علماء الأزهر ، وأهم مرجعية دينية إسلامية في العالم كله حاليا ، دون أن يكون لذلك صلة بموقفه السياسي أو قناعاته السياسية ، تختلف معها ، لكن لا تختلف على أن الأمة مجمعة على علمه وفضله ، وبناء على تلك الأفضلية كان قرار علماء مصر الكبار باختياره ليكون عضوا في أعلى مرجعية علمية..

وكان القرضاوي حتى عام واحد ونيف مضى صاحب الهيبة والاحترام الكبير في الإعلام المصري والمؤسسات الدينية كافة ، وكان كبار الإعلاميين يحرصون على التقاط الصور معه أو تقبيل يده أو تقبيل رأسه أمام الكاميرات التماسا للبركة أو إظهارا لاحترام مرجعية علمية كبيرة ، والآلاف من العلماء بالأزهر وغيره حاليا هم تلاميذ للقرضاوي ، وكان صاحب فضل عليهم في علم أو دين أو دنيا ، فلطالما قضى لبعضهم حاجات وسهل لبعضهم سبل الرزق وأعان آخرين على نوائب الدهر ، والآن كلهم ـ إلا قليلا ـ يتنكرون له ويهربون من اسمه ويخافون أن "يضبطهم" صاحب السلطان وهم يذكرونه بخير ، وقلة مارقة، منهم تتطاول عليه بالسباب وتبرز عضلات مزيفة في التعقيب على فتاواه ، وأنا على يقين من أنه لو قرر السيسي الأسبوع المقبل مصالحة القرضاوي وتسوية الخلاف "السياسي" معه ، لعادت نفس تلك الأصوات والعمائم لتقبل رأس الشيخ ويده ، وتشهد بعلمه وفضله وتتسابق لالتقاط الصور معه.

سرب موقع الكتروني للمخابرات السورية ، مخابرات بشار الأسد ، خبرا كاذبا ومختلقا عن أن القرضاوي أفتي بأن الجهاد في فلسطين غير مشروع ، وأن الجهاد الواجب هو الجهاد في سوريا ضد بشار فقط ، واللعبة واضحة ، لمحاولة إظهار الشيخ الجليل بأنه باع فلسطين وتواطأ مع الصهاينة ، الموقع المشار إليه لا يحتاج سوى نظرة سريعة في دقيقة واحدة لتعرف محركاته ودوافعه ومموليه ، وهو متخصص في هجاء قطر والسعودية بوصفهما أكثر دولتين داعمتين للثورة السورية ، وقامت الصحف القومية المصرية بنشر هذا الخبر المزور وكأنه منقول من وكالة رويترز ، وكذلك فعلت الصحف الخاصة وعلقت عليه فضائيات السوء ، وقد لاحظت أن الأهرام عندما نشرته تحاشت ذكر المصدر ، وقالت أنه قناة فضائية قطرية ، وهو كذب مزدوج ، لأنها تعرف مصدر الخبر وكذبت بإخفائه لأن مجرد ذكره يسهل عليك معرفة أنه مخابرات بشار ، وكذبت بنسبة هذا الهراء لفضائية قطرية دون أن تجرؤ على ذكر اسم تلك الفضائية حتى لا يتتبع أحد الكذب الصراح . كل هذا التضليل كان يمكن تفويته ، لكن الذي يصعب تفويته أن تنبري دار الإفتاء المصرية للتعليق على الفتوى المزعومة والكاذبة ، دون أي جهد للتثبت ، ويفرد بعض قيادات دار الإفتاء عضلاتهم على الشيخ والحناجر الكاذبة تصول وتجول في عرض العالم الجليل بدعوى استنكارا ما قاله القرضاوي ، رغم أنه لم يقله.

أحدهم ويدعى : محمد وسام ، يتبوأ منصب أمين عام الفتوى بدار الإفتاء، اتصل بفضائية المحور لكي يقول أن فتوى القرضاوي "أوغلت في الضلال"، ثم يضيف "المفتي العفيف" : أن "القرضاوي فقد علمه ووطنيته؛ بسبب تجاهله للقضية الفلسطينية، واعتبار أن الجهاد فيها ليس واجبا شرعيا، رغم كونها قضية الأمة الإسلامية الأولى لما تحتويه من مقدسات مثل المسجد الأقصى". ، ثم أضاف قبح الله وجهه : إن "تلك الفتاوى تعد بمثابة «عمالة» لدولة إسرائيل؛ بسبب دعوتها لهجرة القضية الفلسطينية والتنازل عنها".

هذا هو المستوى الأخلاقي عند بعض قيادات دار الإفتاء ، محض بذاءة ووضاعة وطول لسان ، والحقيقة أن العمالة الحقيقية هي تلك التي تورط فيها هذا المنتسب لدار الإفتاء ، لأنه بما قال إنما يعمل لحساب المخابرات السورية ، ويخدم على أكاذيبها ويروجها ويساعدها في تشويه صورة علماء الإسلام ، القرضاوي الذي كان يفتي للجهاد في فلسطين وجعلها قرة عينه وفكره وظل مرجعا لكل قوى المقاومة حتى اليوم ، قبل أن تدخل أنت كتابا من الكتاتيب وأنت طفل صغير يلهو بالطين ، القرضاوي تشهد له مواقفه وكتبه وفتاويه ومقالاته وأشعاره التي يصعب حصرها دعوة لتحرير القدس وفلسطين ودعم المقاومة وجهاد الشعب الصابر ، فمن أنت أيها الدعي حتى تتطاول لتذكره بسوء ، ومثلك لا يرقي ليكون تلميذا في مجلس علم للقرضاوي ، ولا قدمت لفلسطين وجهادها عشر معشار ما قدم القرضاوي .

لم يقف الأمر فقط عند هذا المجهول المشار إليه ، وإنما أسفت أن يتورط في ذلك أيضا الصديق الدكتور إبراهيم نجم ، المستشار الإعلامي لمفتي الجمهورية ، وذنبه مضاعف ، لأنه أهدر أحد ضوابط عمله الجوهرية ، وهي التثبت من الأخبار وما نشر وصحة نسبته لمن نشر عنه ، بوصفه مستشار إعلاميا ، هو لم يفعل ذلك ، ولكنه اندفع لكي يعلق بأستاذية لا تليق عن فتوى القرضاوي المزعومة والمزيفة ، دون أن يبذل أدنى جهد للتحقق من مصدرها ، وهي مخابرات بشار الأسد ، فظهر وكأن دار الإفتاء المصرية تدعم تسريبات المخابرات السورية وتعمل على موجتها ، صحيح أن الدكتور إبراهيم لم يسف في تعليقه ولم يهبط لما هبط إليه الجهول المجهول الأول ، لأن أخلاق نجم ـ كما أعرفها ـ لا تتسق مع ذلك ، ولكن كيف استباح لنفسه أن يعلق على خبر كاذب دون التحقق ، خاصة وهو كلام يسهل جدا معرفة أنه منحول على الشيخ لأنه يتعارض مع تاريخه كله وسيرته كلها.

أثق أن فضيلة الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية لا يرضى بهذا الذي حدث ، ولا يقبل مثل هذا التطاول والسفاهة على علماء الأمة استغلالا لمناخ سياسي مضطرب وسيء ، وأنا أدعوه من منطلق واجبه الشرعي والأخلاقي كعالم قبل أن يكون المسؤول الأول عن دار الإفتاء أن يفتح تحقيقا فيما جرى ، وأن يقطع ألسنة السفهاء الذين يسيئون إلى دار الإفتاء وإليه هو شخصيا.

_______

- عن صحيفة المصريون 

* رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير


: الأوسمة



التالي
يا أبي آدم
السابق
موقفان إزاء المقدسات

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع