البحث

التفاصيل

الوحدة والخلافة والديمقراطية

لعل إحدى أهم الإشكالات في وعي شريحة من الشباب الإسلامي ومن التيار المحافظ تحديدا والتي تمنع فهمه الدقيق المطمئن لخوض التجربة الديمقراطية أو حتى القبول بها هي شكوكه في موقفها من الوحدة الإسلامية وواجبات التضامن التي نصّ عليها القرآن الكريم وصحيح السُنّة وتواترت معانيها كثابت قطعي لا مجال للتشكيك فيه.

وهو مفهوم طبيعي لحماية كل مجتمع إنساني وتشريعات تضامنه ورعايته الذاتية ليُحقق العدل له ولمن التحق بذمته ولكل مظلمة تَرِد إليه في هذا العالم الإنساني، والوحدة المنظمة المفضية لتحقيق العدالة للأغلبية والأقليات وردت في أحكام ومفاهيم يُغطّيها النّص الشرعي قبل الخطاب الفكري.

لكن أول أساس يُناقش فيه هذا المفهوم الخاطئ يتعلق بصورة النظام الدستوري الديمقراطي الذي يتصوره الشاب المحافظ، فهناك إشكالية عميقة هنا في الفهم، فهذا النظام الدستوري هو الذي يكفل للمواطنين من الأديان والطوائف الحق الدستوري الوطني وأن مسار فهم دفع الجزية في الشريعة التي وردت في تنظيم الحروب، إنما يؤسس على مفهوم الشراكة في المواطنة من حيث المساهمة في الدخل الاقتصادي مع الحاجة إلى فهم هذا المجال بعد انصرام الحرب والمواجهة العسكرية.

أي إن هذا الإنسان المنتمي للدولة الأممية أو الدولة القطرية أضحى بعد هذه المواجهة مواطنا من أبنائها وعلى ذلك كان تعاطي الدول الإسلامية من الأمويين إلى العثمانيين يقترب من هذه الصورة وأضحت هذه الجماعات البشرية من الأديان شركاء مواطنة شاملة يُستثنى منها الرئاسة، مع التأكيد بأن جوانب من الظلم كانت نتيجة استبداد عاشتها هذه الدول أو سوء تفسير خالف الفقه الراشد.

واستثناء الرئاسة للمسلمين في بلدانهم حق طبيعي للمجتمع القائم أصلا على رابطة الرسالة الإسلامية أو تأسست أقطاره لهذه المجتمعات المنتمية للدين الإسلامي، ورغم كثرة الجدل وتوسّعه حول الحق الدستوري للرئاسة لغير المسلمين في الوطن العربي، فإن هذا الأمر في الغرب وخاصة في الممارسة العملية له لم يُخرق وبقي موقع الرئاسة لدى الغالبية الدينية وهي في أوروبا وأميركا الدين المسيحي، ولذلك فحلقات الجدل ليست مهمة عملية في التقنين الدستوري بقدر ما هي بضاعة للمناكفة مع الإسلاميين.

إن الفكرة التي تستقر لدى بعض الشباب الإسلامي من أنّ هذا التضامن الحقوقي يؤثّر على الرابطة الإسلامية خطأٌ أصلي في فهم النّص، كما أن الاعتقاد بأن تأسيس العقد الاجتماعي الدستوري لهذه الدولة أو تلك يعني منع التضامن مع المسلمين المظلومين أو المحرومين هو خطأٌ أيضا، فهذا مداره على التشريعات التي تُقنّن في كل عقد اجتماعي ومساحة حرية المجتمع المدني، والإطار الديمقراطي ممكن جدا لتحقيق تطبيقات واسعة من التضامن والعون إذا سَلِم بالطبع من بطش الدكتاتورية أو تفسيراتها.

وحديثنا هنا دائما ينصب على أن المقصود هو مناقشة المسارات الديمقراطية وأدواتها كوسيط تنظيري مناسب جدا لتحقيق العدالة في مجتمعات المسلمين بالتراضي، وليس حين يُختطف أو تقلب تطبيقاته، فهذا مسار آخر يتحوّل فيه النقاش إلى أدوات وثقافة المستبد الجبري أو القهري باسم الحكم الشمولي أو الديمقراطية المزورة، أو الممسوخة كالتي خلقها الاحتلال المزدوج في العراق.

ومن هنا نقترب من الصورة الأدق وهي أن النظام الديمقراطي والحريات التي تسود فيه قُطريا، هو إطار لتحقيق هذا التضامن ومد يد العون لمناطق المسلمين، بل هو الأفضل والأكثر سعة للحراك الشعبي مقابل قبة المنع الشاملة أو القطيعة مع العالم الإسلامي المنكوب التي يُنفّذها نظام حكم شمولي يُدعم ويُحارب أي تطوير ديمقراطي له بحجة رفض الديمقراطية دينيا.

فالبلدان التي تعيش مساحة أو هامشا ديمقراطيا هي الأقدر اليوم على تحقيق معايير تضامن وتواصل مع مفهوم الوحدة الإسلامية من غيرها من الأنظمة الشمولية، كما أن مساحات الحرية تعطي روح التضامن مادة أخلاقية سلسة ومهذبة وليس سلة مواسم تعلن لأجل هدف سياسي بحت، مع جفاف وبأس شديد يعتري علاقات المسلمين في هذه الأقطار التي يغيب عنها روح النظام الدستوري الديمقراطي.

إن مفهوم الخلافة كتنظيم تشريعي لا يزال أحد أهم المصطلحات السائدة في أدبيات الحركة الإسلامية والموجود بكل تأكيد في مدونات الفقه الإسلامي، والتعاطي الدقيق مع هذا المصطلح من حيث اعتباره مشروعا نهائيا لمسيرة الرسالة الإسلامية، يحمل في طيّات آماله وخطابه أن هذا التجمّع الإنساني العابر للحدود سيكفل في نهايته وحدة المسلمين وممانعتهم وإقامة العدل بينهم.

هذا من حيث الآمال المعقودة وأمّا من حيث استعراض التجارب التاريخية للمسلمين فإن هذا المصطلح أي الخلافة قد يُطلق على غير مستحقه شرعا، بمعنى أنها دولة إسلامية صفة لمناطق المسلمين وليس دولة استكملت الشروط الشرعية للخليفة العدل واختياره.

وهكذا جرت مواجهات ورفض من حركات إصلاحية ومن الصحابة والتابعين لرفض اعتبار التوريث خلافة شرعية للظالم وإنما حكم جبري، وبغض النظر عن وقوع مدارات إيجابية وتطويرات إنسانية في هذه الدول التي تولّت بعد الحكم الراشد للخليفة عمر بن عبد العزيز والحسن بن علي وما بين حكمهما وعهد الإمام علي بن أبي طالب.

والمقصود هنا طرح مسارات الخلاف ابتداء في تحقيق معنى الخلافة التي تُوجب العمل لأجلها عند من يرون ذلك بناء على صفات الخليفة وعدالته وليس لأنه انتزع المصطلح، فالتسمية التاريخية لا توجب فصلا شرعيا ولا حكما تفصيليا، ولكن من المفهوم أيضا أن جزءا من هذه المشاعر يعود إلى أنّ حالة الضعف للمسلمين وكثافة الاعتداء عليهم مردّه لعدم وجود مركز وحدة تملك قرار النجدة والدعم وليس المقصود هو تحقق الشرط في هذا الخليفة أو ذاك.

وهي مشاعر متفهمة كليا في ظل الوضع الذي يعيشه العالم الإسلامي مع الأخذ بالاعتبار أن بعض الكوارث والحروب التي شُنّت على العالم الإسلامي والمذابح التي جرت كان أيضا خلالها تواجد لمسمى خليفة على العالم الإسلامي رمزيا أو نسبيا.

وعليه فإنّ التعلق بهذا المصطلح كيفما كان وكيفما اتفق وبناء أحلام العدالة والقوة المانعة عليه ليس صحيحا، بل هي تصورات تعيشها الأمة وتتأثر بها في خطابها إثر الضغط الهائل من الاستبداد القُطري والاعتداء الخارجي والتحالفات التي تعصر الوطن العربي والعالم الإسلامي.

ستبقى هنا مسألة رئيسية تتمثل في أن إقامة الوحدة بين المسلمين تفرضه نصوص قطعية كما أن أمر تنظيم شؤونهم في الحياة السياسية له دلالته من التجربة التاريخية وبعض ما ورد من نصوص، وبغض النظر ودون الحاجة إلى التوسّع في الخلاف ورؤية البعض لصحة حديث الخلافة على منهاج النبوة الذي يعزز معناه وسياقه التاريخي صحته.

فإنّ هذا الخلاف لا يُغيّر من المفهوم الأصلي للتعاطي مع مشروع الوحدة والخلافة الإسلامية عند الإسلاميين ذاتهم، فتحوّل دول قطرية إلى نجاح في حكمها العادل والأمين أو مقاربته ثم تحولها إلى قوّة إقليمية تتوزّع في جغرافيا العالم الإسلامي، يترتب عليه حينها تأسيس إطار وحدوي عبر اتحاد فدرالي أو كونفدرالي، فيكون رئيس هذا الاتحاد في مكان الموقع المعنوي للخليفة أو السلطان الموحد دون الضرورة لهذه التسمية التي تَسمّى بها فئام، وهو بأقوال أهل العلم ليسوا خُلفاء ولا حتى أمراء صالحين.

من كل ذلك يتضح أن مساحة الفقه النظري والتقعيد الفكري لمصطلح الخلافة في الشرع وفي تاريخ المسلمين ثم في مدلولاته السياسية المعاصرة، ليس كما يعتقد بعض الشباب، وليس مبررا معقولا لرفض إطار سياسي تحققه الديمقراطية لصناعة هذا الوطن كقوة سياسية واجتماعية لهذا الشعب المسلم أو ذاك، ودعم المقاومة المشروعة للتحرُّر.

بل المشروع الديمقراطي حين ينجح هو رديف لتحقيق الوحدة القوية بين أقطار المسلمين وصناعة ثقافة ونهضة ذاتية ترفعهم من العدو الثلاثي الذي حاولت حركة الإحياء الإسلامي في مطلع القرن العشرين أن تحرّك الوعي الديني والثقافي لمواجهته وهو الجهل والفقر والمرض ولا يزال هو ذاته يفتك بالعالم الإسلامي ويحجبه عن الوعي الحقيقي لرسالته الإسلامية ويُمكّن الاستبداد الداخلي والخارجي من اضطهاده مع مسؤولية هذا الاستبداد في تفشيه.

فأيُّ الفريقين خير، اتحاد قوي قام على حريات شعوب وأوطان ويوحدها بعد ذلك حين تتيسر لها العناصر الموضوعية وتقرّ مرجعية رسالتها بقوانين العدل والتقدم الحضاري، أم أسماء لزعامات بغي أو مشاريع عاطفة لم تُقِم وحدة مانعة ولم تنقذ شعبا واحدا من تفريق صفوفه ولا انتزعت له حقوقه؟


: الأوسمة



التالي
عاداتنا هي الأفضل! 1/2
السابق
الوسطية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع