البحث

التفاصيل

شهيد السنّة النبويّة (الشيخ محمد البشتي)

 نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا
______________________

كانت بدايات تعرّفي إلى قصّة الشيخ البشتي، ما وصلني من أخباره عبر عبد الحكيم سعد صالح البرغثي الذي كان طالباً بكلية الطب في السنة الرابعة، وهو رجل تظهر على ملامح وجهه أنوار الإيمان، وهو من تلاميذ الشيخ محمد البشتي، اعتقل مع الشيخ البشتي، ودخلا السجن لمدة أسبوعين، ثم خرج وساقه الله إلينا، فدخل السجن من جديد، شخصية محبوبة للجميع مع أدب وأخلاق وعلم، تأثرت بهدوئه وأخلاقه وتعلمت منه كثيراً من الفقه، وكنت أقول له أنت أستاذي، وهو من الذين أجرى الله على يديه الخير الكثير، ونقل إلينا صورة طيبة عن الشيخ محمد البشتي ودوره في الدعوة في مدينة طرابلس، وماذا حدث لهم من اعتداءٍ عليهم داخل المسجد بعد صلاة العصر من يوم الجمعة، وثبات الشيخ البشتي وتكفيره للقذافي الذي ألغى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل لنا صورة من تجربته القصيرة مع اللّجان الثورية وما قاموا به من تعذيب، فقد تركوه في تابوت ٍ واقفاً داخل سيارة النقل لمدة 9 أيام، ولم يألوا جهدا في محاولة تشويه صورة الشيخ البشتي في شرفه وعرضه، وامتنع الشباب من شهادة الزور.

هكذا تعرّفنا إلى الشيخ، وأحببناه من خلال عرض الأخ عبد الحكيم له، ولكن تفاصيل القضية وحياة الشيخ البشتي الربانية التي عاشها عرفتها في المرحلة الأخيرة التي عشت فيها مع الشيخ محمد الحراثي، التي لنا معه صفحات لا تنسى فهو يعتبر شيخ المشايخ في السجون الليبية في الفترة التي كنت فيها سجيناً ، فهو معلم الشباب الذين حفظوا القرآن على يديه، وعرفوا منه حقيقة الإسلام، فكان قاسماً مشتركاً لمعظم السجناء، وكان يشتهر بخفة الدم و الظرافة و صاحب نكتة.

الشيخ محمد الحراثي من تلاميذ الشيخ البشتي، عاش مرافقاً له 15 سنة، يتعلم من علمه وأدبه وسمته، وهو من خرّيجي الجامعة الإسلامية البيضاء، أدخله القذافي للسجن سنة 1980 عندما وقف وأفتى ضد القذافي في قضية إلغاء السنة النبوية، وكان الشيخ البشيتي له تلاميذ يناصرونه ، وكان له مؤيدون من الشيوخ المعروفين في القاعدة الشعبية، وفي بداية حياته انتهج الطرق الصوفية، ولكنّه بعدما تعلم وفهم الشريعة شنّ حرباً ضروساً على الطرق الصوفية المنحرفة، وتأثّر بالكتب الإسلامية السّلفية لشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم و العلامة المحدث ناصر الدين الألباني.

كان الشيخ البشتي يقول إنّ إلغاء السنة في ليبيا أشد على الناس من فتنة خلق القرآن في زمن الإمام أحمد بن حنبل، فاتفق هو وتلاميذه على التصجي للقذافي، وعلى إعلامِ الناس بخروجه عن الإسلام.
وقد التقى في السبعينات بالشيخ المحدث الكبير ناصر الدين الألباني الذي قال عن الشيخ البشتي( أنّه في ليبيا مثل الشجرة الخضراء في الأرض البيداء).

وبعد أن حضر السفير السعودي درساً للشيخ البشتي، أصبح من تلامذته، مما سهّل على القذّافي أن يتّهم الشيخ بفرية (الوهابية) – زعموا - عندما قُبِض عليه .

حاولت الدّولة إغراء الشيخَ البشتي بالجاه وبالوسائل المادية فما استطاعت، فقررت القضاء على الشيخ وتلاميذه بالقوة، فدخل رجالُ الشر والفساد من أتباع النظام في المسجد بالهراوات وشرعوا في ضرب المصلين، وحملهم بالسيارات إلى مقرّ اللجان الشعبية، حيث تفننوا في تعذيبهم بأساليب وحشية منها:
حرق اللحية بالنار، والضرب المبرح بالكرباج، والتجويع بقطع الطعام، والجرّ بالسيارات!

فيحكي لنا الشيخ محمد لطفي الحراثي عن لطفي امقيق وهو شاب من خريجي معهد الإمام أنس بن مالك ، أنّه عندما كان في التعذيب طلبوا منه أن يقول الفاتح أبداً شعار من شعارات القذافي، فامتنع وهو يردد لا إله إلا الله حتى فاضت روحه أثناء التعذيب ولم يجاوز العشرين من عمره.
أما الشيخ الحراثي فعُذب عذاباً عظيماً، وأحرقت لحيته بالنار، وأجرموا في حقه بغير ذلك من الأساليب.

وأما الشيخ البشتي فدخل السّجن، ثمّ قُتِل داخله، ويعتبر من رواد الدعوة الإسلامية الحديثة في ليبيا، وخسرته بلادنا خسارة فادحة، فقد نذر الشيخ نفسه لله للرد على ضلالات النظام الليبي وفساده، فكان يقول في دعائه في الخطبة : اللهم من فصل الكتاب عن السنة فافصل رقبته عن جسده، وقد خطب القذافي ذات مرّة وقال في خطابه:
(إذا ذكر محمد قلتم صلى الله عليه وسلم، وإذا ذكر الله لم تقولوا شيئاً، وهذا تعظيم لمحمد أكثر من الله)، فشكك الناس في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

ورد الشيخ على المنابر، وكان يقول:
(من وقف على منبر رسول الله يجب عليه أن لا يخاف أحداً إلا الله، وأن يقول الحقّ ولو كلّفه قطع عنقه)، ثم قال الشيخ رداً على ذلك الخطاب في بداية الخطبة: (اللهم صل على محمد رغم أنف الظالمين، اللهم صلّ على محمّد رغم أنف الحاقدين، اللهم صلّ على محمّد رغم أنف الحاسدين، اللهم صلّ على محمّد رغم أنف الكافرين، اللهم صلّ على محمد رغم أنف المنافقين...)، وشرع في الصلاة على النبي لمدة ربع ساعة، ثمّ بين أحكام الشريعة في الصلاة على النبي، وكان يتكلم دائماً عن مكانة السنة، ويبين أن بسبب ذنوب الناس سلطت عليهم هؤلاء من الأشرار، فقال: (إن من الذنوب التي ارتكبتموها، ما سلط الله عليكم بها شر خلق الله.. هؤلاء الطواغيت).

وكان مصطفى الخروبي العقيد والمفتش العام للقوات المسلحة يتردد على مجالس الشيخ فكتب الشيخ البشتي رسالة في مكانة السنة في التشريع الإسلامي، وأعطاها له ليحملها للقذافي وكان الشيخ الصبحي من مشايخ جمعية الدعوة يحضر دروس الشيخ، فقال للشيخ: (درسنا في الأزهر فما وجدنا هذا العلم)، فقال الشيخ: (أنتم أخذتكم السياسة ونحن تفرّغنا للكتب فوجدنا هذا العلم).

وحكى لي الشيخ محمد الحراثي مرّة، أنّه كان مع الشيخ البشتي ذاهبين إلى مقر جمعية الدعوة ، فدخل على الشيخ الصبحي وقال الشيخ البشتي: (أنتم المسؤولون أمام الله لانحراف القذافي، ماذا ستقولون لله)، فبكى الشيخ الصبحي، وقال: (يا شيخ محمد الرجل دخل في طريق ولن يرجع أبداً وقد أرسلت له رسالة في هذا الموضوع فما رد).
فعندما تمكن القذافي من البلاد والعباد ما سنحت له الفرصة للطعن في أحكام اللشريعة إلا فعلها، وقال مرة: (إن عقوبة الرجم في الزنا لم توردها آية من القرآن الكريم، ولا يوجد إلا الجلد للمتزوج أيضاً)، وقال أيضا: (لو أقمنا حد الخمر لوجدنا أنا مضطرين لجلد الوزير وكل الشعب)، وهذا مكرٌ أراد به إبعاد تفكير الناس عن الحكم بالشريعة، وتبنى القذافي فكرة إلغاء عقوبة الإعدام لأنها كما يقول: (لا تليق مع تقدم الإنسان)، إلا من حارب الثورة وأراد القضاء عليهم، ونسي قول الله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)

ولم يُظهر القذّافي عداءه للشّريعة إلا بعد سنوات، ففي بداية انقلابه طالب العلماء بالحكم بالشريعة، ولكنّه لم يكن جاداً في ذلك.
والشيخ البشتي كان له فهم جيد للاسلام من حيث أنه دين ودولة وسياسة، فدائماً يحض الناس على ضرورة سيادة الشريعة على الجميع وإعادتها في نظام الحكم، وبالتالي تفرغ لنقد النظام وكان معوله لايكلّ ولا يمل لضرب الطرق الصوفية المنحرفة في أعماقها، وكانت له صولات وجولات، مما جعل البعض يفرح بدخول الشيخ إلى المعتقل، وكان المرحوم الشيخ طاهر الزاوي مفتي الديار الليبية يطلب من الشيخ ألا يتهجم على النظام حتى يستفيد الناس منه، وكان الشيخ البشتي يحترم الطاهر الزاوي كثيراً، ومع هذا لم يتأثر الشيخ البشتي بنصيحة الشيخ الزاوي، الذي أراد أن ينصرف الشيخ البشتي لتعليم الناس الدين، والابتعاد عن الاصطدام بالدولة لأن ذلك يؤدي به للسجن ويحرم الناس من الاستفادة منه.

• بعض المواقف بين الناس للشيخ البشتي:
- يحكي الشيخ الحراثي كان مع الشيخ في سيارة فأشار إليهم ولد بالوقف لحمله فلم يقف السائق ، فأمره الشيخ بالوقوف للرجوع وحمله إلى المكان الذي يريده، ثم قال هذا الفتى سيكون له انطباع جيد عن المسلمين، وعن اصحاب اللحى الكبيرة، فإن كلموه عن الاسلام كان الانطباع عن المسلمين في نفسه يساعده على الانقياد لدين الله .
- ذات مرة في ساعة متأخرة من الليل مر على مسجد الشيخ سائح نمساوي يبحث عن مبيت، ففتح الشيخ البشتي المسجد وفرش للسائح بقرب المنبر، والشيخ الحراثي يحكي لنا ويقول: استشاط غضبي.. فكيف يدخل هذا الكافر إلى المسجد، وشعر البشتي بذلك فقال: (يا محمد هذا عندما يرجع إلى بلاده ويخبر قومه ما عملنا معه تكون دعوة إلى الله في صفوفهم).

- وجاءه مرة أحد أبناء الطرق الصوفية يريد ضرب الشيخ في خلوته، وبفضل الله انقلب الأمر، وأصبح من أتباع الشيخ.
- وكان للشيخ قريبٌ منحرفٌ عن جادة الصواب، وله أصدقاء أشرار فدخل معه الشيخ الحراثي في بيت ذلك القريب وهم يلعبون القمار، وعندما رأوا الشيخ خرجوا وتركوا المال فقال خذ هذه الغنائم يا محمد.
وتغيرت الأفراح إلى أفراح إسلامية، ففي فرح الشيخ الحراثي جاءه بعض الضيوف فوجدوا حلقات العلم والذكر والبشتي يتحدث للناس، فقال له بعض الضيوف: (هذا مأتم أم فرح!؟)، لأن الناس ماتعودوا الأفراح بهذه الطريقة، وتبادل تلاميذ البشتي الزواج فيما بينهم على أسس إسلامية، وأصبحت هذه القواعد تتوسع وتنتشر وكان محمود حمزة وهو ميكانيكي يُ:حضرُ الشباب للشيخ، ويقول الشيخ: اتق الله فيهم.
ولعلّ أبرز إنجازات الشيخ البشتي هي:
1_ مواجهة النظام في أخطائه والصدع بحكمة الحق ضد القذافي ونظامه.
2_ محاربة الطرق الصوفية المنحرفة بشدة عرف بها.
3_ تربية الشباب في مدينة طرابلس على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وبالطبع لم يتحمل طاغوت ليبيا قذائف الحق الموجهة له ولنظامه، فقبض على الشيخ وتلاميذه بوحشية، ومزقت كتبه التي في بيته في الشارع، وزج به في السجن، وأرجحُ الرواياتِ أنه استشهد لأنه عزل عن إخوانه من البداية.
وكان الشيخ الحراثي يقول لنا وهو لا يملك نفسه من البكاء: (ما عرفت قيمة الشيخ إلا بعد دخولي للسجن، رغم أنّي عشت معه أكثر من 15 سنة، ماتركته في سفر إلا حمل معه كتاب يقرأه في الطريق او يذكر الناس أو يتلو القرآن أو يدرس شباب العلم).

رحمه الله الشيخ البشتي وعوّض الأمة فيه خيرًا ..


: الأوسمة



السابق
شرف الانتماء إليهم !!

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع