البحث

التفاصيل

القرار الديمقراطي التركي.. السؤال الأهم

الرابط المختصر :

باتت تركيا الحديثة اليوم محط أنظار العالم الجديد في تكويناته السياسية المتلاحقة وهو يرقب تطورات المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط التي كانت في الأصل محل تركيز من حلفاء الحرب العالمية الأولى، والتي كان من نتائجها التعجيل بسقوط الدولة العثمانية بعد أزيد من سبعة قرون على قيامها.

ولا يختلف الباحثون بأن تحييد الدولة العثمانية عن مركز النفوذ العالمي كان ضمن أهداف الحلفاء الغربيين الذين تقاطعت مصالحهم مع تصفية "الرجل المريض" واقتسام تركته السياسية والجغرافية والاقتصادية في العالم الإسلامي، وعليه فإن عودة تركيا للتمرد على القرار الغربي وتحول أنقرة إلى قوة صعود في المشرق العالمي والإسلامي يعنيان الكثير للقوى الدولية في العالم.

كما أن صعود تركيا الحديثة وزحفها في محور التوازن الإقليمي للشرق الأوسط تدفع ضريبته إسرائيل وإيران قطبا التأثير الإقليمي الأكبر كما النظام الرسمي العربي الحليف لواشنطن، وهو ما يعني أن معايير المعادلة الدولية تخضع لاستشراف تغيرات كبيرة في حسابات المصالح والسياسات العالمية التي تتعامل مع قوة جديدة لا تحمل رداء تاج السلطان العثماني ولكن تعلن تأسيسها الجديد عبر مضمار الحريات الدستورية التي سادت في أوروبا الحديثة.

وتتعاطى تركيا الجديدة مع مفهوم العلمانية برؤية جديدة منفصلة لا تتفق بالضرورة مع الفهم العربي أو التبشير الغربي بمفهوم الديمقراطية العلمانية للمشرق الإسلامي والعالم الجنوبي الذي يحمل مصطلحات مشتركة، ولكن مساحة التنفيذ المتاحة من المركز الغربي ليست مطلقة لهم كما هي حريات دوله في الناتو أو في مجلس الأمن للآخرين وإنما بتفصيلات تقنن الديمقراطية للآخرين.

لكن البعد الجديد وربما الأهم في حركة التحول السياسي في تركيا الحديثة هو العودة من بوابة الهوية الإسلامية الجامعة للشرق العربي والأعجمي ثم التأسيس عليها في برنامج بدأ يختط مفاهيم تتجذر مع الفكر الإسلامي وتستثمر الوسائط المدنية في صناعة الحياة الدستورية الجديدة للشرق.

ويعني هذا الكثير بالنسبة للمنطقة، حيث إن نجاح هذه التجربة الإسلامية التركية يحمل أكثر من شق حيوي ومؤثر في المنطقة، فهو يبعث رياح تغيير فكرية وسياسية معا تزيد من مخاوف تلك الأقطاب الإقليمية من حيث صناعة القرار الدستوري المستقل لشعوب المنطقة، وخلق بيئة استقلال حساسة ومهمة للمشرق الإسلامي تكرس صناعة القرار وفق مصالح هذه الشعوب وليس تبعا لمصالح المركز الغربي أو وفقا لشروطه.

ويتأكد ذلك خاصة حين يكتمل نضج التجربة الشرقية الإسلامية مع الحياة الدستورية وتتواصل شعوبه وفق هذا الإطار الذي أُسقط بعد سايكس بيكو وكان في الأصل يقوم على أصول مشرقة، لكن هيمن عليه تراث مريض عربيا وتركيا وشرقيا بسبب أمراض الاستبداد والتخلف والصراعات الإثنية والطائفية التي عاشتها وتعيشها المنطقة.

كما أن استمرار نجاح التجربة الإسلامية التركية -التي تواجه اليوم مفصلا مهما من قصة صعودها وتنافسها مع الفكر العلماني الجمهوري الصلب الذي أعلن تركيا الحديثة وأصر على بقاء الإسلام في زاوية محصورة- جعله يتغلب على تحالفات محكمة لخصومه، وبرز ذلك في انتخابات 30 مارس/آذار 2014، وانتخابات الرئاسة في أغسطس/آب المنصرم قبل الانتخابات البرلمانية القادمة.

وأسست هذه الانتخابات لمواصلة الحركة الإسلامية التركية الحديثة مشروعها بعد تنحي رجل المشروع المركزي لها الطيب رجب أردوغان عن رئاسة الحكومة وتسلمه رئاسة الجمهورية لتبدأ تحديا جديدا لإثبات مشروع الفكر والمؤسسة وليس كارزمية الشخص المبدع فقط، وبالتالي صار السؤال المطروح هل ستفوز الحركة الإسلامية ومشروع تحالفها الديمقراطي في حزب العدالة مع التوجهات الوطنية الأخرى، أم ستتراجع التجربة في البرلمان القادم؟

وسواء استمر الصعود المتوقع أو تعرضت التجربة الإسلامية التركية مع الديمقراطية لتراجع بسبب أخطاء داخلية وخصومة شرسة عززت تحالفاتها اليوم بعد موقف تركيا الحديثة من الربيع العربي، مما أثار مخاوف عديدة من محاور إقليمية وأنظمة عربية رسمية تخشى من صعود مشروع مماثل للمشروع التركي ينطلق لفكرته الإسلامية بوسائط الدستور والديمقراطية المدنية، فإن هذه التجربة الحديثة لإسلاميي تركيا تستحق الدراسة والتأمل العميق فيها عبر العقل العربي الجديد.

إن التجربة الشاملة التي عبرت منها تركيا منذ إسقاط الدولة العثمانية حتى مراحل صناعة الجمهورية الأولى التي أسسها كمال أتاتورك حملت مسارات مهمة جدا وأحداثا وصراعات ودورات حكم انتهى بعضها بمشهد درامي دموي بعد الانقضاض على المحاولة الديمقراطية لرئيس الوزراء عدنان مندريس وإعدامه في 1960 من قبل الجيش مؤيدا بحكم حزب الشعب العلماني المتطرف والذي لا يزال يقود المعارضة حتى اليوم.

هذا الإرث ساهم في تحالف كتلة ديمقراطية ليبرالية ويسارية معتدلة مع الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا والتي توافقت مع شركائها على تحقيق المشروع الديمقراطي الشامل في تركيا، وهي كتلة متواجدة داخل حزب العدالة وخارجه، وهو ما يؤكد أن الروح الإسلامية والحنين إلى الشرق ومسارات التضييق على الحريات الدينية في المجتمع كان لها تأثير بارز في دعم مسيرة العدالة.

لكن ذلك لمن يكن هو السبب الوحيد وإنما تدحرج كرة الثلج في العقل الوطني التركي الذي رأى أول منجزات تحقيق المشروع الديمقراطي وأمانة الشريك الإسلامي في بلدية إسطنبول وما أعقبها من تطور شامل وفي مسارات الحريات السياسية والثقافية وبنى عليها قناعته التي صبت في صناديق الانتخابات، كما أنها عززت هذا التحالف داخل العدالة في المؤتمر الاستثنائي للحزب نهاية أغسطس/آب 2014 الماضي، ولذلك فإن الاعتقاد أن كتلة التصويت لرئاسة أردوغان أو حزب العدالة كانت في التوجهات الإسلامية فقط هو خطأ محض.

وإنما كان هذا النجاح يقوم على كسب شرائح متعددة من خارج المتدينين أيضا صوتت بقناعة وإرادة لبقاء قوة الحزب، وهو ما يساعد اليوم على مشروع تأمين تركيا من أي قدرات لتحقيق انقلاب عسكري عن طريق النماذج الماضية التي أطاحت بمندريس وأحزاب ديمقراطية وإسلامية وحظرت الحريات السياسية لها عبر فريق القضاء المتحالف مع حزب الشعب وبعض ضباط الجيش عبر جماعة كولن وغيرها، وهي المعركة التي يصر عليها أردوغان ويطلق عليها حرب الدولة مع التنظيم الموازي.

صحيح أن قاعدة التغيير السياسي للدولة الحديثة في تركيا سمحت بعودة هذه التجارب الديمقراطية خطوة خطوة، لكن الأمر في النهاية كان يحاصر وتسقط إرادة الشعب فضلا عن السماح له بتحقيق صعوده الأكبر لبناء ديمقراطية حقيقية لهذا البلد المركزي في الشرق الإسلامي، هذه الحريات -التي صنعها عهد العدالة- سمحت لأول مرة بعودة الروح والحياة الثقافية إلى أكراد تركيا ونزعت من متطرفي الجيش وحزب الشعب ورقة الوطنية التي تقوم على كره مناطق الأكراد الثقافة القومية بدلا من الجامعة الإسلامية والحقوق الوطنية الدستورية.

وقد أكسب ذلك حزب العدالة شركاء اجتماعيين مهمين تُدعم بهم المسيرة الديمقراطية بقناعة ذاتية للمجتمع الكردي وأفراده، وهي مسيرة يواصل أردوغان وحزب العدالة السعي للوصول إلى خاتمة إستراتيجية فيها تنهي الصراع المؤلم والمستنزف في الداخل التركي، وهو ما ضمن للقرار الديمقراطي كتلة تصويت مركزية تدعم مشروع السلام التركي الداخلي وحرياتها، خاصة بعد أن استشعرت حجم التقدم التنموي مقابل كتلة صلبة مصوتة لحزب الشعب تقوم على توجيه الناخب من الطائفة العلوية ضد أردوغان والعدالة كقالب طائفي إضافة لكتلة التطرف العلماني القديم.

من هنا يبرز لنا أن هذا القرار الديمقراطي لم يعبر بسهولة على أرض الواقع بل عبر تحقيق إجابات مهمة لتيارات الشعب التركي وتوجهاته الاجتماعية التي صوتت لأردوغان وتثبيت تجربة العدالة التي قدمت نموذجا لحياة عصرية وتنموية وحريات سياسية، فلم تفلح معركة الإعلام داخل وخارج تركيا في تغيير قناعته فقرر التمسك بالقرار الذي يعيش أجواءه عمليا وأعرض عن لغة الانقلابات وقرار العسكر والدبابات.


: الأوسمة



التالي
كلفة السلاح وكلفة الإصلاح…؟
السابق
الحج توحيد ووحدة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع