البحث

التفاصيل

الفتوى في خدمة الانقلاب

أصدر مفتي مصر مؤخرا فتوى بجواز تهجير أهالي سيناء شرعا بشروط، استنادا إلى قاعدة "درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح". وقبل ذلك نشر موقع "البوابة نيوز" ما قال إنه نص "تقرير دار الإفتاء المصرية" في حكم عزل الرئيس محمد مرسي، وإن الدار تكتمت عليه، ولكن الموقع نجح في الحصول على نسخة منه.

هذه الفتوى وذلك التقرير هما غيض من فيض الفتاوى التي فاضت بها الساحة السياسية المصرية في السنوات الماضية، وهي تحيل مجددا إلى تعقيدات الدين والسياسة في الدولة السلطوية. الفارق أن جل الفتاوى السابقة كانت جزئية، بينما في فتاوى الثورة وعزل الحاكم نحن أمام فتاوى تتناول أصل السلطة ومنشأها.

يدور تقرير دار الإفتاء حول تحديد "الإمامة" في الفقه ثم يقوم بتنزيل أحكامها على حالة عزل مرسي الذي ارتكب مخالفات شديدة بحسب التقرير، وهي "وعود بمشاريع لم تتحقق، تفريط في الثغور والمياه، إرسال القوت والوقود لغزة مع شدة الحاجة إليه، تفاقم حوادث الطرق، صداقة اليهود، تهميش الأزهر، مخالفة الدستور).

المتأمل لتلك الفتاوى ومستنداتها الفقهية الانتقائية يذهله التشابه الكبير بين الجهاديين وفقهاء السلطة في استخدام الفقه كذريعة لقناعات مسبقة، فكلا الفريقين يقوم بعملية انتقائية خارج منطق الفقه نفسه وخارج نظامه، لأن الالتزام بالنظام الفقهي لا يتيح لهم إسناد قناعاتهم المسبقة.

الملحوظة الأولى التي نجدها في نصوص الفتاوى المصرية أنها تتأرجح بين الاحتكام إلى منطق الدولة الحديثة تارة ومنطق الفقه تارة أخرى، فالتقرير يتحدث بمنطق الدولة الحديثة حين يتحدث عن النظام التعاقدي، والتظاهر، والدستور، وحكم القانون، والوحدة الوطنية، والانتخاب، وإرادة أهل مصر.

ثم هو يتحدث بمنطق الفقه ويزعم الاستناد إليه حين يتحدث عن الرعية، وعن الحاكم بأنه ولي وأجير ووكيل، وخلع الحاكم، والإمامة، والفسق، وأهل الشوكة الذين قاموا بعزل الحاكم، وهم هنا "رجال الأزهر، والكنيسة، والقضاء، والعمل السياسي".. لعله نسي أن يذكر الجيش!

يتأرجح التقرير بين تينك المرجعيتين بينما يصرح في الوقت نفسه بالتحلل من "الالتزام الحرفي بنظم لم يأمرنا بها الإسلام" في سياق الرد على "دعوى" أن الحاكم لا ينعزل إلا بالانتخاب!

يجد هذا التأرجح أهميته في أنه يساعد على التحلل من الاتساق وفق منطق واحد ليلبي حاجة التذبذب واللعب على حبال السياسة، فالالتزام بمنطق الدولة وحده أو منطق الفقه وحده سيؤدي به إلى طريق مسدود ويُسفر عن تناقضات جمة.

فمرجعية الدولة الحديثة لا تقبل بإزاحة حاكم شرعي منتَخب، بطريقة غير دستورية ومن دون الاحتكام إلى الصندوق، ولذلك ادعت دار الإفتاء في تقريرها أن "الدعوى بأن الحاكم لا ينعزل بغير انتخاب دعوى باطلة تتجاهل مقاصد السياسة الشرعية وتهدم علم السياسة الشرعية"، وهو كلام هلامي لا مستند علميا له.

فعلم السياسة الشرعية المشار إليه يدور كله على "الإمامة" وأحكامها، وهي الفكرة المركزية في تقرير دار الإفتاء المصرية، والإمامة عند الفقهاء "نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، وعليه فتعريف الدار للإمامة بأنها "عقد بين الإمام والشعب" اقتباس من فقه الإخوان المسلمين الذين هم أول من عرّفها بهذا، وإن أرادت دار الإفتاء أنها من العقد الاجتماعي في الفكر السياسي الحديث فهي نفسها قالت في تقريرها: إننا غير ملزَمين بنظم غير إسلامية.

ومن الطريف جدا أن دار الإفتاء تقول "إن الحاكم بمنزلة الولي والوكيل والأجير"، وهذه ثلاثة أوصاف متنافرة لا تجتمع عند الفقهاء، فالولي -سواء كانت ولايته عامة أم خاصة- سلطته سلطة إلزام الغير وإنفاذ التصرف فيه دون تفويض منه، ويحددها الشارع، وتطبيق ذلك على مرسي يعني أن الخارجين عليه خرجوا على الشارع.

وفي حالة الوكيل، فإن الوكالة في الفقه تقتضي وجود موكل معين، ولا موكل معينا هنا سوى الصندوق الذي فرز الأصوات، فالجزء الذي خرج من الشعب لا يستطيع أن يُسقط وكالة الجزء الذي لم يخرج.

 

وفي حالة الأجير، فالإجارة في الفقه عقد لازم لا يسقط إلا بانتهاء مدة العقد، وعليه فالذين خرجوا على مرسي خرجوا على عقودهم ومواثيقهم.

إن القول بالإمامة والخضوع لمنطق الفقه يستلزم أن تتحقق شروط مخصوصة في الإمام، ومنها الاجتهاد والاستقلال بتأدية الأصوب شرعا في المسائل التي يختص بها الإمام، وهو ما لا يتوفر في مرسي ولا في السيسي.

كما أن الإمامة في السياسة الشرعية التي تحرص عليها دار الإفتاء توجب عدم الخروج على الإمام للمبررات التي ساقتها الدار، فخَلْع الإمام وانخلاعه لا يكون إلا بموجب شرعي وهو غير متحقق هنا، كما أن الفقهاء يكادون يُجمعون على أن الإمام لا ينخلع بالفسق، وقد أفاض في ذلك الإمام الجويني (478هـ)، على عكس ما زعمت دار الإفتاء.

إن الناظر في عامة فتاوى المؤسسة الدينية المصرية لا يقف فيها على أي استدلال فقهي معتبر على طريقة الفقهاء، فضلا عن أنها لا تستعمل لغة الفقه والعلم، فهي لا تزيد على زَعْم الاستدلال بعموميات وقواعد كلية كمقاصد الشريعة والمصالح، وارتكاب أخف الضررين، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وهذا المنطق في الاستدلال العمومي بعيدا عن آليات الفقه وضوابطه شاعَ لدى فقهاء الإخوان المسلمين في سياق ابتكار فرائض جديدة في الصراع مع السلطة، كما شاع لدى فقهاء السلطة في توفير ذرائع ومستندات فقهية لتدعيم خيارات النظام القائم.

فنحن هنا أمام استخدام للفقه واستخدام مضاد يحتكمان إلى المنطق نفسه، ويدعيان توظيف الآليات نفسها من المقاصد والمصالح والسياسة الشرعية، والنتيجة أن نظام الفقه الإسلامي يوضع في مأزق بالنسبة للعامة الذي يَحارون في شأن هذا الفقه الذي يصلح للاستعمال من كلا الطرفين المتصارعين.

فدليل المقاصد عند الفقهاء لم يكن يوما دليلا مستقلا، وإنما كانوا يأتون به كدليل مكمل لأدلة متعينة ومحددة، فإن أرادت دار الإفتاء الاعتماد على المقاصد كدليل أصلي ووحيد -كما هو ظاهر من نصوصها وتصرفاتها- فهي قد خالفت الفقه الذي تزعم أنها حريصة عليه، وتكون قد خرجت على نظامه أصولا وفروعا.

وإن أرادت أن المقاصد والمصالح دليل تكميلي فلا يبقى لها أي دليل تستند إليه، فشيخ الأزهر لم يجد ما يستدل به يوم عزل مرسي إلا قاعدة "ارتكاب أخف الضررين"، كما لم يجد مفتي مصر لتجويز تهجير أهل سيناء إلا قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".

ومثلُ هذه القواعد الكلية لا يصح الاستدلال بها في وقائع جزئية، فعلم الفقه قائم على أصول وفروعٍ تنتظم جميعا في نظام كلي، وإنما تتضح الفقاهة في "تحقيق المناط" وهو تنزيل تلك الأحكام الكلية على الوقائع والتدليل على أن تلك الوقائع داخلة في ذلك الحكم العام.

 

ثم إن الأحكام لا تُقبَل إلا مدللة، ومبينة لا مجملة، فلا يصح لفقيه أن يستدل بقاعدة كلية مثل "ارتكاب أخف الضررين" دون أن يبين لنا ما هو الضرر الأخف والضرر الأشد، وكيف قدّر هو أن هذا أخف وذاك أشد، وما مستندُه في ذلك التقدير.

ثم ماذا لو خالفه غيره من الفقهاء في تقدير الأشد والأخف؟ وهل يجوز الحكم بمثل هذه التقديرات في مسائل عامة؟ وهل له هو مصلحة شخصية في هذا التقدير؟ وهل هذا التقدير مبني على اعتبارات معيارية أم ذاتية؟ وهل هي متوقعة أو متحققة؟ وهل هي مظنونة أو متيَقنة؟

إن قاعدة "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" التي وُظفت لتهجير أهل سيناء قاعدة ليست مطلقة عند الفقهاء، فهي مقيدة بحالة ما إذا تعارضت المصالح والمفاسد ولم يمكن الترجيح، ثم هي مقيدة بالضرر المحقق والآني لا المظنون والمستقبلي، فمِلكية الأفراد (أهل سيناء هنا) لا تُنزع -بالإجماع- إلا لمصلحة عامة محققة، وهو ما لا يتوفر هنا.

لم يهتم مفتو السلطة بتعليل فتاواهم والاستدلال لها، لأنها تأخذ طابع البحث عن مَخرج شرعي أو مستند يوافق هوى السلطة، ولذلك كانت تلك العموميات هي المَخرج، كما أن تلك الفتاوى تتورط في لغة السياسة والإنشاء وتتجاوز حدود وظيفتها في بيان الحكم إلى مخاطبة الناس بترك منازلهم وبمديحهم على هجرها ومغازلة وطنيتهم!

نقطة أخيرة يجب التنبيه إليها، وهي أن دار الإفتاء "تكتمت" على تقريرها عن عزل مرسي، وهو ما يفيد بأن التقرير لم يكن معدا لمخاطبة العامة كما يقتضيه البيان الشرعي، وهذا التكتم يحيل إلى دلالتين: فهو إما تقرير استُخدم ذريعة لتسويغ الانقلاب العسكري في حينه، أو أنه تقرير معدّ للاستعمال -قضاء- في مجريات محاكمة مرسي، لأن المفتي هو الذي يمثل الشريعة أمام الدولة، وهي المصدر الثالث الذي تُستمد منه الأحكام إذا لم يُسعف القانون والأعراف في ذلك، وهو ما عجزت السلطة عن توفيره حتى الآن في المحاكمة.


: الأوسمة



التالي
منهج الخطاب الديني كما رسمه القرآن
السابق
الديمقراطية والتبعية.. والتجربة التونسية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع