البحث

التفاصيل

أسطورة "برج الجماجم" الصربية التى ينسبونها إلى الدولة العثمانية

الرابط المختصر :

كنت أعتزم الكتابة عن أسطورة "برج الجماجم" كواحدة من أشهر الأساطير الصربية العجيبة التى ينسبونها إلى الدولة العثمانية (إفكًا وبهتانًا) .. رغم انتشارها الإعلامي على أوسع نطاق .. ولكنىى آثرت أن أمهد للموضوع بإضاءة موجزة للخلفية الفكرية التى نشأت فيها هذه الأسطورة ونَمَتْ مثل غيرها من الأساطير الصربية ..


أذكر فى -نهاية تسعينات القرن العشرين- أن سيدة تدعى الدكتورة نيفين مسعد هاتفتنى بالنيابة عن شخص آخر يسمي"جميل مطر" تستكتبنى مقالا عن كوسوفا لمناقشته فى لجنة ما ، تمهيدًا لنشره فى مجلة تسمي "المستقبل العربي" .. وكعادتى سألت بعض أسئلة لأفهم الظروف المحيطة ، ولماذا تطلب منى أنا بالذات أن أكتب لهم مقالًا .. فهمت منها أشياء واعترضت على أشياء ، واشترطت شروطًا .. فذهبت ثم عاودت الاتصال بعروض وتفصيلات رفضتها تماما .. منها أن السفير الصربي سيحضر ضمن لجنة المناقشة ، ولأنى أعرف من هو ذلك الأفاق وأعرف مهمته القذرة فى مصر قلت لها إذا رأيت هذا الرجل فسأخلع حذائى وأضربه به ، ولن أبالى بالنتائج..! و كلّما عاودَتْ الاتصال أفاجأ باقتراحات جديدة .. لأرفضها ..


القصة طويلة وتستحق الحديث المفصل لأنها جزء من الصراع الذى خضته فى مصر وعانيت منه كثيرا مع الصحافة ومحطات التلفزة ، بسبب موقفى وكتاباتى عن حقائق الأوضاع المأساوية فى كسوفا والبوسنة ومقدونيا، والدور الإجرامي الذى قامت به صربيا فى تدمير المجتمعات المسلمة فى هذه المناطق .. واستهداف منزلى فى كانبرا فلما .. لم يجدونى فيه هدموا سور المنزل ثلاث مرات ، فى الليل والناس نيام ..

اخيرًا كتبت البحث المطلوب وأرسلته ، وتمت مناقشته و نشره بمجلة المستقبل العربي ولكن يبدو أننى كتبته وأنا تحت تأثير التحديات التى واجهتُها ، بأسلوب أدهشتنى صراحته عندما عاودت قراءته أمس بعد مرور ما يقرب من ثمانية عشر سنة .. قلت فى المقدمة:

"النقطة التى أبدأ منها فى كتابة هذه الورقة تبدو كرد فعلٍ على استفزازٍ ما .. وهذه حقيقة لا أُنكرها ولا أخجل من ذكرها .. فالكاتب الباحث عن الحقيقة لا يمكن إلا أن يكون متحيّزا لشئٍ ما .. لمبدأٍ ما ؛ لا ذلك التحيّز الأعمى الذى ينكر الواقع .. أويتجاهل الحقائق الموثّقة .. أو يحاول تأويلها بما لاتحتمل .. أو يكتفى بأنصاف الحقائق لإثبات وجهة نظره أو خدمةً لميوله الأيديولوجية .. بصرف النظر عن المنطق ، أو تجاوزًا لمنهج البحث العلمى الذى تواضع عليه المتخصصون فى مجالاتهم المعرفية المختلفة ..!


نعم أنا متحيز ..! متحيِّزٌ فى اختيار موضوعات بحثى التى أرى أنها لم تحظ باهتمام كان يجب أن تحظى به .. موضوعات أُرِيدَ بها أن تبقى خافيةً بعيدة عن الوعى.. والهدف هو أن تبقى فى حالة كمون لا توقظ نائمًا ولا تبعث همةً لنضال أو تغيير ما ينبغى تغييره .. أو الثورة عليه .. وقد كان بين أهم إختياراتى:

الأقليات المسلمة فى العالم .. بدءًا من الفلبين على حافة المحيط الهادى إلى قلب أوربا .. حيث توقفت طويلا فى منطقة البلقان .. إبتداءًا من عام ١٩٩٢م لأسجل يوما بيوم عدوانا صربيا متواصلًا مدعوما بقوى دولية كنت أحسن الظن بها .. فإذا بها تسقط فى مستنقع من التعصّب العنصري.. فتكشف بذلك عن حقيقتها ، وعما تكنّه فى أعماقها من كراهية للإسلام والمسلمين لا حدود لها ..


كانت دراسة منطقة البلقان تشكّل عندى تحدّيًا هائلا .. شعرت فى بداية التصدّى له بأننى أخبط رأسى فى جدار مصمت ... والسبب أن الذين كتبوا عن هذه المنطقة من العالم كانوا واقعين تحت تأثير ركام هائل من الإدعاءات والأكاذيب .. وتلفيق للوقائع .. بل تبيّن لى أن تاريخ البلقان قد تم تحريفه مرتين: مرة خلال انتشار القومية فى دول البلقان التى لم تظهر مبكرا كما حدث فى أوربا الغربية بل تأخرت حتى القرن التاسع عشر.. ثم تم تحريفه مرة ثانية خلال فترة انتشار الشيوعية فى النصف الأول من القرن العشرين ...


كان التحريف الأول قائما على أساس من فكرة خلق عدوّ خارجي ظالم اعتبروه العقبة فى طريق بعث القوميات .. وهو الوجود العثماني الإسلامي فى البلقان .. فى هذا المناخ العدواني تم إنكار كل أثر فكري أو حضاري أو حتى معماري خلّفه العثمانيون فى البلقان ..

حتى الأدباء والشعراء والفنانون ملأوا الساحة الصربية -بصفة خاصة- بأكاذيب وقصص خرافية وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان .. وكان للكتابات الأدبية الصربية .. وفى مقدماتها رواية إيفو أندريتش : "جسر على نهر درينا" أكبر الأثر فى شيوع هذه الأفكار والمشاعر السلبية ضد الوجود العثماني والتاريخ العثمانيّ الذى استغرق فى البلقان مايزيد عن خمسة قرون ..

"جسر على نهر درينا": رواية أدبيّة (رغم ما حفلتْ به من أكاذيب تاريخية) أهّلتْ كاتبها لجائزة نوبل .. ولم يكن "إيفو أندريتش" هذا بمنأي عن التعصّب الصربي الأعمى ضد كل ما يتعلق بالدولة العثمانية وكل ما يتعلّق بالإسلام فقد ألّف كتابا كان فى الأصل أطروحته للحصول على درجة الدكتوراه ؛ خلاصته أن الأتراك العثمانيين لم يخلّفوا أثرا ثقافيا ذا قيمة فى البلقان .. وأن البلقان ظل طوال عهدهم صحراء جرداء فى هذه الناحية .. وقد رد عليه المؤرخ البريطاني نويل مالكوم مفصّلا ومعدّدًا للآثار الفكرية والثقافية والحضارية العثمانية عميقة الأثر فى البلقان (رغم ما ألحقه الصرب بها من دمار وتشويه) .. مما لايمكن أن ينكره إلا أعمى ، وفى حالة إيفو أندريتش هذا، على حد قول مالكوم: "هو عمى إختياري ..."

أما فى العهد الشيوعى فقد ظهرت مصطلحات جديدة لتشويه التاريخ العثماني فى البلقان مرة أخرى ولكن فى إطار أيديولوجيّ .. فمثلا

: إستدلّ الكُتاب الشيوعيون على أن الحكم العثماني كان حكما إستبداديا طاغيا لمجرد وصفه بأنه كان إقطاعيا وما دام كذلك فهو (أوتوماتيكيا) لا بد أن يكون حكما إستبداديا .. والسؤال هو: هل صدر هذا الحكم بناء على دراسة موثقة ؟ أبدا.. فلم تحدث دراسة من هذا النوع ولا من أي نوع آخر .. إنما هو استنتاج نظري لمجرد أن الفكر الشيوعي قد صنف نظم الحكم على أسس إفتراضية .. وحكم عليها طبقا لهذا التصنيف ومن هنا جاءت حتميةُ أن يكون الحكم العثماني استبديا طاغيا لمجرد أنه وُصف بأنه إقطاعي ..


لم ينظر الكُتَّاب الشيوعيون إلى الواقع الذى وُصف بأنه إقطاع .. ولم يدرسوا حقيقة هذا النظام الإقتصادي الذى لا علاقة له من قريب أوبعيد بالإقطاع الذى عرفته أوروبا .. والذى كان يملك فيه الإقطاعي الأرض ومن عليها من البشر الذين أعتُبروا عبيدا له .. أما "التِّيـمار" العثماني فليس بينه وبين نظام الإقطاع الإستعبادي أى وجه شبه .. وقد شرحت هذا فى كتابين لى أحدهما عن البوسنة والآخر عن كوسوفا ..

كذلك لست أنكر أننى متحيز أيضا لمبادئ حقوق الأنسان وحقوق الشعوب فى تقرير مصيرها ، ومن هذا المنطلق .. ومن واقع دراستى تاريخيا وقانونيا للعلاقة بين صربيا وكوسوفا .. كنت ولا زلت أري أن استقلال كوسوفا هو العلاج الوحيد الصحيح للعلاقة التاريخية الشاذة بين الإحتلال الصربي الإستيطاني وبين كوسوفا التى لا تربطها بصربيا أى علاقة شرعية على مر التاريخ .
والذين تحدثوا عن كوسوفا باعتبارها جزءًا من صربيا لم يقرأوا التاريخ قراءة صحيحة .. وإذا كانوا قد قرأوا شيئا فهم لم يفهموا ولم يستوعبوا حقائق التاريخ .. أو أنهم قرأوا التاريخ فى الكتب الصربية .. ولم يدركوا أنهم وقعوا فى شباك مجدولة بالأكاذيب والقصص الأسطورية ..

فالصرب على طول تاريخهم عندما تُعْوِزُهمْ الحقيقة يلجأون إلى مخزون الأساطير الشعبية .. يرفعونها إلى مستوى الحقائق المقدسة .. تـماما كما تفعل الصهيونية العالمية فيما يتعلق بمزاعم الحقوق التاريخية لليهود فى أرض فلسطين العربية .. وقد عالجت أوجه الشبه بين الصهيونية وبين القومية الصربية فى مقدمة كتابى عن كوسوفا .. "

لقد ناضل الشعب الألباني في كوسوفا عبر قرن من الزمن (يزيد ولا ينقص) نضالا بطوليا دفع فيه ثمنا باهظاً جدًّا لا يدرك أبعاده المأساوية إلا من بحث صابرا مدققاً في تاريخ البلقان بتركيبته البشرية وصراعاته المعقدة ، ثم هذا القدر الهائل من الكتابات التي إختلطت فيها الحقائق بالأكاذيب والأساطير والوقائع المزورة بل الوثائق المزورة، التي أشاعها الكُتاّب الصرب عبر عقود ماضية .. حتى انطمست الحقائق التاريخية تحت ركام من الأكاذيب.

أذكر أنني عندما بدأت أبحث عن الحقيقة في الحرب اليوغسلافية ابتداءً من سنة١٩٩٢، خصوصا عندما فوجئ العالم بما سمي بالتطهير العرقي في البوسنة ، وكانت حرب إبادة جماعية للمسلمين هناك – شعرت آنذاك كأنني أبحث في الظلام عن إبرة في كومة من القش .. لم تسعفني الكتابات التي شاعت وانتشرت آنذاك في أوروبا فقد كنت مقيما في لندن أتابع الأحداث المتلفزة والمنشورة في الصحف اليومية وهالني أن ما شاع علي ألسنة المعلقين وفي كتابات الصحفيين في ذلك الوقت يتناقض مع المعلومات القليلة التي تمكنت من تحصيلها في وقت مبكر .. ويتعارض في نفس الوقت مع الصور المبثوثة عن الحرب...

فقد ارتفعت في الإعلام مقولات تُرجع أسباب الحرب إلي إنطلاق الأحقاد الدينية والعرقية التاريخية من عقالها .. بينما الذي شاهدته كان عدوانا صربيا مبيّتاً، مصدره الأساسي أطماع سياسية واقتصادية توسعية للقومية الصربية ، ونزعة إستعلائية عنصرية ، يعبر عنها "رادوفان كراجيتش" وجنراله "راتكو ملاديتش" بصلف ظاهر..


كان واضحا لى أن هناك مخططا لاستبدال الاتحاد اليوغسلافي بدولة توسّعية هي صربيا الكبرى وإن تنكَّرت في ثوب زائف سمّته الاتحاد اليوغسلافي الجديد .. لذلك أسْقطتُ شعار (الأحقاد الدينية والعرقية) من تفكيري .. كما أسقطت الشعار المتداول في وصف حرب البوسنة بأنها (تطهير عرقي) .. وكانت المسألة عندي ببساطة مجرد أكذوبة لأن الحرب هنا لا تدور بين عرق وعرق آخر مختلف وإنما هو عدوان على فئة من الناس ينتمون إلي عرق واحد؛ فالصرب والبُشْناق (البوسنويون) والكروات كلهم ينتمون إلي عرق واحد هو العرق السُّلافيّ ..

وقد بدأ الصرب بقتال الكروات أولا.. وهم ليسوا مسلمين بل مسيحيين "كاثوليك" والصرب مثلهم مسيحيون وإن كانوا "أرثوذكس" .. وإذن فنحن لسنا أمام حرب عرقية ولا حرب دينية كما يروّج البعض وإنما هي حرب إبادة جماعية لتمكين الصرب من بناء دولة إمبريالية على أنقاض الاتحاد اليوغسلافي .. وقد عبرت عن هذا الرأي بوضوح شديد في برنامج تلفازي لـ"حمدي قنديل" في وقت مبكر من بدايات الحرب.. فهو شاهدي على هذه الواقعة ..

أقول: أنني في لحظة إلهام (لا فضل لي فيها) تأكدت أن العبقرية الصربية تتجلى على أقوى ما تكون في تزييف التاريخ وتزييف الوقائع .. وأحمد الله أنني وقعت بمحض الصدفة على وثيقة ورد فيها على لسان أب المؤرخين الصرب قوله : " لقد حصل الصرب بأكاذيبهم على مكاسب أعظم مما حصلوا عليه بحروبهم ...!" .

من تلك اللحظة.. وابتداء من هذه النقطة الكاشفة تحولت وجهتى فى البحث والدراسة إلى الاتجاه الصحيح .. وكان علىّ أن أخُطَّ لنفسي منهجًا ً خاصًّا للبحث يجنّبني المزالق والفخاخ الصربية.. وكان من عناصر هذا المنهج أن أنقّب عن وثائق سجّلها زوار أجانب إرتادوا المنطقة أو أقاموا فيها فترة من الزمن ؛ نظروا وتفاعلوا مع مجتمعاتها.. وسجّلوا -بحياد وموضوعية- إنطباعاتهم ومشاهداتهم عنها .. وفي هذا المجال جمعت ثروة معرفية لا تقدر بثمن ..


وإلى لقاء فى "برج الجماجم" بمشيئة الله ..


: الأوسمة



التالي
علَّمَني التواضع!
السابق
من مكتبة القرضاوي - درس النكبة الثانية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع