البحث

التفاصيل

الفِكْرُ: تَوْحِيدٌ وتَزْكِيةٌ وعُمْران

قد يخطر لقارئ التراث الإسلامي أن عمليات التفكر، والتدبر، والتذكر، والتعقل،... التي يقوم بها الإنسان، إنما تتوجه إلى تزكية النفس، والاتصاف بالتقوى، والزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، وتقتصر عليها. ويقع هذا الخاطر على وجه الخصوص عند قراءة أعمال الحارث المحاسبي، وأبو حامد الغزالي، وابن قيم الجوزية، على سبيل المثال. لكن ذلك لا يعني بالضرورة، حتى عند مثل هؤلاء العلماء، عدم الأخذ بنصيب الإنسان من الدنيا؛ فمجالسة العلماء وحضور دروسهم، والرحلة إليهم طلباً للعلم، والسعي في مناكب الأرض، طلباً للأكل من رزق الله، وإتقان متطلبات المهنة في الحياة، من تجارة وزراعة وحرفة، كل ذلك من نصيب الدنيا، وكلُّه يتطلب تعقلاً وتفكراً وتذكراً، فضلاً عما يلزم المؤمن من التفَكُّر والتذكر في ثواب المجاهدين في سبيل الله والمرابطين على الثغور، والنفرة في هذا السبيل.


فالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، هو زراعةٌ في الدنيا وحصاد في الآخرة، فالذي يَعْقِلُ عن الله شيئاً مما أمره به، يحرص على تنفيذ أمره، فإذا كان من أمر الله الرحمة بخلق الله، تمثل هذه الرحمة في علاقته بالناس، فإذا "عقل عن الله عزّ وجلّ ما ابتدأ العباد به من الرحمة... ألزم قلبه رحمة الأمة، فأحبَّ محسنَهم، وأشفق على مسيئهم، ودعا إلى الله سبحانه -إذا أمكنه- مدبِرَهم، ولم يدّخر مالاً عن فقيرهم... من سأله منهم مايقدر عليه لم يتبرّم بطلبه... ومن آذاه وأساء إليه لم يجد في نفسه كراهية للعفو والصفح عنه، يعدُّهم جميعاً كأقرب الخلق منه، كبيرهم مثل أبيه، وصغيرهم كولده، وقِرنُه كأخيه..."  وإذا عقل عن الله أمره بالتعليم والإصلاح، فإنه: "يذكِّرُ الناس بما قد علمه فينسيه، وينبه المتهاون لما كا قد اشتغل عن العناية بالقيام به، ويبيّنُ للزائغ عن طريق الرشد أنه قد تركه." 


ومن ناحية أخرى يكون من المفيد كذلك أن نشير إلى التعقل والتفكر والتذكر، كما يقوم به المؤمن، طلباً لما يريده من شؤون الدنيا والآخرة، يقوم به غير المؤمن كذلك، طلباً لما يريده من العلم في ظاهر الحياة الدنيا، وبعض الناس يصل بهم إتقان عمليات التفكير في فنون العلم إلى حدّ العجب. وفي ذلك يروي المحاسبي - بسنده - عن الحسن البصري في قوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (الروم: ٧) قال: لا جرم واللهِ لقد بلغ من علم أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفرِه، ويخبرك بوزْنه، وما يحسن يصلِّي."


وإذا كان أبو حامد الغزالي قد فصّل في التفَكُّر في آيات الله المتلوة وآيات الله المنظورة لتكون نتيجة التفَكُّر على معرفة الله والتقرب بالزهد في الدنيا وطلب الآخرة وذلك في ربع المنجيات من كتاب الإحياء، فإنه قد قدم قبل ذلك كثيراً من متطلبات التفَكُّر في أمور الكسب والمعاش، من أنوع المهن والصنائع والحرف، والمأكل والملبس ومسائل الزواج وآداب المعيشة الاجتماعية. وكان في كل فصل يبدأ بذكر ما يختص بموضوع الفصل من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ثم بأقوال الصحابة والتابعين، وغيرهم من السابقين. وحتى في الحديث عن الزهد تحدث مطولاً عن ضرورات الحياة ودرجات الزهد فيما هو من هذه الضرورات. فثمة ضرورات إذاً، لا بد من الأخذ بنصيب منها، ومن هذه الضرورات ما جرت به عادة الناس في حياتهم، مما يلزم التفَكُّر فيه والقيام بأمره والعلم بمسائله والمهارة في أدائه.


أما ابن القيم فهو كذلك يتحدث عن بعض الأمثلة من نصيب الإنسان في الدنيا، فهو يقول: والله سبحانه "كما يحب الجمال في الأقوال والأفعال واللباس والهيئة يبغض القبيح من الأقوال والأفعال والثياب والهيئة، فيبغض القبيح وأهله، ويحب الجمال وأهله."  ثم يتحدث عن فريق من الناس ضلّوا في النظر إلى الجمال، حتى إن "العارف" من هذا الفريق "يصرح بإطلاق الجمال ولا يرى في الوجود قبيحاً، وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم، والبغض في الله، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيله، وإقامة حدوده." فهو إذاً لا يرى مشكلة في رجاء الآخرة، والسعي في مدارج السالكين نحوها والقيام بما أمر الله من حب الجمال وبغض القبح، ومنه الحب والكره في الله، والجهاد في سبيله وإقامة حدوده. ويفصل النزاع في مسألة الجمال حين يقول: "وفصل النزاع أن يقال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة على ثلاثة أنواع: منه ما يحمد ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم، فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبي  يتجمل للوفود، وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال، ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محموداً إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه، وغيظ عدوه...."  ويضع ابن القيم تصنيفاً لأنواع الفكر تحت عنوان "قاعدة نافعة" فيقول: "أصل الخير والشر من قبل التفكر، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض، وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد، وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هي أجلُّ الأفكار، ويليها أربعة: فِكْرٌ في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها، وفكرٌ في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء." 


ومع هذا الاستدراك، يتوقع من الإنسان المؤمن وهو يستجيب لدعوة رب العالمين المتكررة بإلحاح وبأساليب ومفردات متعددة إلى التفكر، والتدبر، والتبصر، والتعقل، والنظر، والفقه، والاعتبار، أن يبدأ هذه الاستجابة عبر سلسلة من مراحل التعلم والتعمق في الفهم والزيادة في العلم، تتناسب مع التفصيل الذي أوردته الآيات القرآنية في مجالاتها المختلفة: فمنها الآيات الكونية وعددها يزيد عن ألف وثلاثمائة آية في القرآن الكريم، ومنها آيات تفصل خلق الإنسان طوراً من بعد طور، واختلاف الليل والنهار، وبناء السماوات، ومهد الأرض ونمو النبات وعجائب الحيوان، ومقصدها الأساس هو التفكر، ومنها الآيات القصص والتاريخ والحضارات السابقة والقصص وهي كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ثلث القرآن،  ومقصدها الأساس هو الاعتبار، وآيات القرآن المتلوة في مجملها على أية حال مقصدها الأساس التدبر:نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (ص: ٢٩)، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (محمد: ٢٤).


فالتدبر للآيات القرآنية بصورة عامة وللتفكر في الآيات الكونية منها، والاعتبار من قصص العابرين، كل ذلك يهدف إلى أن يقود في نهاية المطاف إلى الإيمان بالخالق؛ بوحدانيته وأسمائه وصفاته، ومن ثم السعي الحثيث في تزكية النفس بطلب رضوان هذا الخالق الواحد، وتجنب سخطه.


ولكن ما الذي يحصل في الطريق إلى هذه النهاية، وأثناء السعي، وقبل الوصول؟! كيف لا يقود طول التفَكُّر والاعتبار والتدبر، أثناء ذلك السعي إلى بناء الفكر والعلم والفهم والاكتشاف؟


ومن أين تأتي السنن والقوانين والنظريات، إذا لم تكن صياغات علمية لذلك العلم والفهم والاكتشاف وما يلزم ذلك من قياس وتجريب؟!


وما قيمة هذه العلوم والاكتشافات إن لم يصاحبها تطبيقات عملية ومنافع حقيقية تيسر للسالكين سبل السعي في هذه الحياة الدنيا على هذه الأرض، وحمل الأمانة في الدنيا، والقيام بحق الخلافة في الأرض، وإدراك الدلالات العملية لآيات التسخير، والتبصر في آيات التمكين؟


وكيف حقق الله دعوة إبراهيم أثناء في بناء البيت الحرام، أن يجعل الله ذلك البلد آمناً يأتيه رزقه من الثمرات إلا عن طريق رحلة الشتاء والصيف، فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟


فالتجارة والصناعة والزراعة وسن القوانين والتشريعات، التي تضبط الأمن وتحمي الطريق، وتنظيم تفاصيل العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول.. وإدارة أمور الاجتماع والاقتصاد والسياسة... كل ذلك علوم نافعة، لماذا لم يسبق إليها المؤمنون بالآخرة وهم في طريقهم إليها يتفكرون ويتدبرن؟ ألم يكن بالإمكان أن تنمو هذه العلوم وتكون امتداداً للبذور التي زرعها السابقون من العلماء في أبواب فقه المعاملات؟


ترى لو كان كل ذلك من كسب المجتمع المسلم في الوقت الذي تسير فيه القافلة وعيونها على نهاية الطريق إلى الله، أكان ذلك عائقاً دون الوصول؟ نعم، سيكون في الطريق أناس يشغلهم كل ذلك عن التدبر في مآلات الأمور والمصير إلى الله، وقد يصيب بعض هؤلاء السالكين من الغفلة، والغرور، والكبر، والاعتداد بعلم يعلمونه من باب "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" وقد يكون هؤلاء أكثر الناس: " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ" ومع ذلك فإن المؤمنين أولى بهذا العلم من غيرهم؛ لأنهم يجمعون علم ظاهر الحياة الدنيا وعلم حقيقة الحياة الدنيا وأنها طريق إلى الآخرة، ولو تعلم المسلمون هذه العلوم الدنيوية "وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقاً لما أمر الله به... كانت أشرف العلوم وأنفعها، لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جلّ وعلا، وإصلاح الدنيا والآخرة، فلا عيب فيها إذاً، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ (الأنفال: ٦٠)، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالاً لأمر الله تعالى، وسعياً في مرضاته، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة."


لو تحقق هذا الجمع بين التوحيد والتزكية والعمران، سوف تصبح الآيات الكونية، والآيات النفسية، والآيات الاجتماعية، والآيات التاريخية، وكل آيات القرآن الكريم عناوين لموضوعات التفَكُّر والتدبر والاعتبار، وموضوعاتٍ للمشاريع البحثية المتعمقة التي توسع فضاءات العلم يوماً بعد يوم. وتجعل الأمة المسلمة في موقع الخيرية والقيادة والريادة.


وإذا كان الله سبحانه قد ذكر - في مقام الذم - أولئك الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، فإن من العجز أن يقول قائل من الذين يدعون علم الآخرة وهم عن علوم الدنيا هم غافلون: الحمد لله لهم الدنيا ولنا الآخرة، أو يقول: الحمد الله الذي سخر لنا هؤلاء الكفار الغافلين عن الآخرة، المنشغلين بالدنيا، يستخرجون من أرضنا أنواع المعادن والبترول، وينتجون لنا منها عجائب الصناعات، ويوفرون لنا أطيب المآكل والمشارب وأحسن الملابس، لننشغل بالآخرة كما انشغلوا بالدنيا! ألا تعساً للطاعم الكاسي!


: الأوسمة



التالي
وسطية الدعاة بين الفرق والاتجاهات
السابق
مذبحتان.. تل الزعتر ورابعة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع