البحث

التفاصيل

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟

الرابط المختصر :

الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟

الحلقة الرابعة

بقلم: التهامي مجوري

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

[الذكرى المئوية لسقوط الخلافة: نهاية مرحلة، ام نهاية مهمة؟ الحلقة الثالثة]

 

الردة السياسية وتطورها
ذكرنا فيما سبق، أن الأمة أصيبت بردة سياسية مبكرا، بمجرد الانقلاب على الخلافة الراشدة، والعودة إلى منطق التوريث، وإدارة الحكم على الطريقة الامبراطورية المعروفة في مجتمعات أخرى قبل الإسلام، وفكرة الفتوحات نفسها التي كانت في تلك المرحلة المبكرة، من الناحية السياسية، كانت عبأ ثقيلا على كاهل الدولة الفتية، كما كانت تمثل امتدادا للمعنى الامبراطوري الذي تبنته السلطة السياسية في تلك المرحلة. وذلك ساعد على اختلال التوازن بين النمو الاجتماعي، وما يطرأ عليه بدخول مجتمعات أخرى غير عربية لها عوائدها ومخزونها الثقافي، والنمو المعرفي للأمة في ظل الوحي والخبرة القصيرة المتمثلة في النبوة والخلافة الراشدة.
لا شك أن واجبات الخلافة تجاه العالم، ليست مثل واجبات الدول الصغيرة، مثل واقع الدول العظمى اليوم، وممارساتها تجاه غيرها من الدول، كدول ذات ثقل تشعر بمسؤولية على ما يجري في واقع الناس.
ولكن ما كان ملفتا في الخلافة الإسلامية يومها أن الفتوحات من الناحية السياسية لم تكن من الأولويات؛ بل ما كان من الأولويات هو بناء المؤسسات، على قواعد متينة، ومنها نظام الخلافة نفسه، الذي كان متجها إلى تقليد التجارب القديمة التي استغنت عنها المرحلة بمنظورها الجديد.
وهذه الردة لم تقف عند هذا الحد من التراجع عن نظام الخلافة الراشدة، وإنما راحت المبادئ السياسية تتدحرج في إطار واسع من التقاليد القديمة، ومنها التقاليد العربية، التي جاء الإسلام لتهذيبها وتنقيتها من العناصر الجاهلية التي كانت فيها، وترسيخ ما فيها من القيم الفاضلة.
لقد كان عنصر القبيلة حاضرا في جميع مراحل الحكم الإسلامي، ابتداء من الانقلاب على الخلافة الراشدة، وإلى سقوطها نهائيا في سنة 1924؛ بل كان عنوان السلطة السياسية الأبرز هو عنوان القبيلة: بني أمية، بني العباس والفاطميين وبني عثمان...إلخ.
وقد شُرّع لهذا التوجه بفهوم جزئي لنصوص الوحي كرست لهذا المعنى، الذي كان يمكن تجاوزه لو استمرت الخلافة الراشدة. فحديث "الأئمة من قريش"[1]، مثل، الذي فهم على أنه شرط في الإمامة قد استمر ردحا من الزمن، وإلى عهد قريب كان كل من يتكلم في أحكام الإمامة، يذكر أن القرشية شرطا فيها، وكذلك بالنسبة للفكر السياسي الشيعي الذي انطلق من أن الإمامة تثبت بالوصية، فحصروها في آل البيت من ذرية فاطمة رضي الله عنها، الذين اعتقدوا فيهم العصمة؛ بل حصروها في سلسلة معينة من الأئمة الذين اختفى آخرهم!! وهم اليوم ينتظرون خروجه وهو المهدي المنتظر، وإنقاذا للموقف وسدا لهذا الفراغ الفكري السياسي الذي حدث بغياب الإمام في الفقه الشيعي، وفي انتظار خروجه، خرج الإمام الخميني بفكرة جديدة على الفقه السياسي الشيعي وهي ولاية الفقيه، أي أن العالم الفقيه يمكنه أن يحل محل الإمام في غيبته، وصدر في ذلك كتاب بعنوان "الحكومة الإسلامية"، جمعت فيه محاضرات الخميني في الموضوع، وهكذا استمر الفكر السياسي في الأمة معتمدا نظام القبيلة حتى في غير مذهبي أهل السنة والشيعة، مثل الإباضية والزيدية الذين هم من فروع الخوارج والشيعة...، رغم أن من مسلمات الفكر الإسلامي الذي جاءت به الرسالة الخاتمة، سقوط المرجح القبلي، فلم يعد للقبيلة شأن إلا في إطار ما اقتضاه الجانب الوظيفي لها وله تأثير في الواقع، وهذا ما فهمه العلامة ابن خدون من حديث: "الأئمة من قريش"، إذ اعتبر التنصيص على الإمامة في قريش ليس تقديما للقبيلة وتبجيلا لها، وإنما لكونها ذات الشوكة القادرة على حماية الدولة، في إطار نظريته المعروفة بفكرة العصبية أي القوة القادرة على تحقيق الغلبة والاستقرار الاجتماعي واستمرار الدولة[2].
لا شك في أهمية القبيلة في تلك المرحلة المبكرة، وما تتمتع به من استقرار وتماسك اجتماعي، خاصة بالنسبة للقبائل التي كانت كلها أو اغلبها على دين واحد، إذ كانت القبيلة في ذلك الوقت بمثابة تنظيمات المجتمع المدني اليوم: الأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية والخيرية والنقابات...إلخ-، بل إن نظام القبيلة أقوى وأصدق في الولاء لكل ما احتضنته القبيلة من قيم ومبادئ ومواقف، ولكن ما جاءت به الرسالة الخاتمة هو إبطال الولاء القبلي خارج نطاق القبيلة وأطر علاقات الرحم، خاصة في المواقف السياسية المنحرفة، إذ لم يبق من الولاء القبلي إلا ما كان في ولاية الرحم (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الأنفال 75]، فلم يعد للقبيلة سلطان على التوجه العقدي والسياسي لأفراد الأسرة؛ لأن الولاء العقدي والولاء السياسي لهما مجالاتهما الأخرى، التي لا يكفي معها العلاقات القبلية، إلا في قضايا محدودة جدا عندما يكون أفراد القبيلة على دين واحد، مثل العاقلة في دية القاتل والتوارث...إلخ.
إن النصوص التي تتكلم عن الاصطفاء الإلهي للأفراد والقبائل والجماعات ثابنة وحقيقة لا جدال فيها، وقد اصطفى الله سبحانه بعض خلقه (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج 75] (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) [آل عمران 33]، وكما جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كِنَانَةَ من وَلَد إِسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم"[3]، ولكن اصطفاء قريش ثابت هنا في هذا الحديث وفي غيره، لا يمكن فهمه اصطفاء خارج الإطار العام والأسس الكلية للفكر الإسلامي، ولذلك جاء في بعض النصوص المتعلقة بالإمامة في قريش، جاءت بصيغ ومنها الناس تبع لقريش، خيرهم تبع لخيرهم وشرهم تبع لشرهم، ولذلك ذهب البعض إلى أن حديث "الأئمة من قريش"، مجرد إخبار لما سيقع وليس أمرا للتنفيذ[4]، بمعنى أن الإمامة ستكون في قريش لسبب من الأسباب لكثرتهم أو لشهرتهم أو لسبقهم في خدمة البيت، أو لقوتهم التي تمكن الأمة من حماية بيضة الإسلام، كما قال ابن خلدون.
وما عمَّق الهوة بين ما ينبغي ان يكون من مقررات الإسلام في حياة الأمة، وما هو كائن من خضوع لمقررات الواقع، أن التنظير للمسألة السياسية لم يكن حاضرا، ليحسم في واجب الوقت، وما تقتضيه مقاصد الشرع، بسبب تفرق الصفوة التي كان على عاتقها كل ذلك.
وما كان من اجتهادات لم يخرج عن عرض لكيفية إدارة الواقع كما هو، وكأن الأمر تقرر بهذه الصفة وعلى هذا النهج ولا شيء غيره، غير قابل للتغيير، وفق تخريجات فقهية جزئية، مثل كتاب الأحكام السلطانية للماوردي وغيره. واستمر هذا الضعف في التدني والتدحرج، إلى أن بلغت الأمة حدا من العجز والغفلة عن أهمية المسألة السياسية في حياة الأمة ومصيرها ومصير قيمها، حتى أنه في مرحلة من مراحل تاريخ الأمة، وقد فرض عليها في ظل الاستعمار القانون الغربي، أراد الخديوي اسماعيل في مصر أن يصوغ رزمة القوانين وفق الشريعة الإسلامية ومذاهب الفقه الإسلامي، فأسند الأمر إلى شيوخ الأزهر، ولكنهم رفضوا بسبب ما خيم عليهم من التعصب المذهبي فحرموا الأمة خيرا كثيرا، نتيجة الجهل بما سيحققون للإمة لو أنهم فعلوا ما طلب منهم[5].
لا شك ان المحاولات السياسية المسجلة لعلماء الأمة في المعارضة التي قادها بعضهم مثل حركة عبد الله بن الزبير والحسين بن علي، وفي المواقف الفردية من قضايا جزئية معينة مثل مواقف الأئمة الأربعة من السلطة السياسية وتصرافتهتا، ولكن كل ذلك لم يعصم المنهج السياسي من الانحراف، بسبب غياب التظير في إطار الأمة ككل.
وحتى لا نتهم بالتحامل على تاريخ الأمة ورجالها والإمعان في جلد الذات، لا بد من الاعتراف بأن ما سارت عليه الأمة الإسلامية، في نظمها الإجتماعية والأخلاقية والتربوية، كان فيه فضل كبير على الأمة وعلى الإنسانية جمعاء، وعلى رأس هذه الفضائل، الالتزام بالمرجعية الدينية. وعلى الرغم من انحراف السلطة السياسية وشيوع الاستبداد في المجتمع الإسلامي، فإن الالتزام بالإسلام مرجعا في كل ما يتعلق بالمجتمع ونظمه التي تدير شأنه كان ثابتا من الثوابت، وكما قال وائل حلاق فإن نظام الخلافة على ما فيه من أخطاء أفضل بكثير من النظم الحداثية التي تحكم العالم اليوم، بفضل ما فيها من قيم اخلاقية[6].
وما ذكرناه من قصور يبقى قائما، وذِكرُنا له ليس قدحا في الأصل أو في اجتهاد المجتهدين، وإنما لأن نهوض الأمة لا يمكن إلا بالكشف عن النقائص ومواطن القصور.
يتبع
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.



[1]- محمد ناصر الدين الأباني، صحيح الترغيب والتعيب، أنظر موقع dorar.net

[2]- انظر مفدمة ابن خلدون

[3]- رواه مسلم والترمذي عن واثلة بن الاسقف رقم 6337 انظر جامع الأصول

[4]- امظر لذة العيش في طرق الأئمة من قريش، ومنه ص 50

[5]- عبد القادر عودة، الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه ص 27

[6]- وائل حلاق صاحب كتاب الدولة المستحيلةـ وهذا الكلام نقلته معناه من حوار معه في الجزيرة مع علي الظفيري





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع