البحث

التفاصيل

التاريخ الهجري

الذين يقرؤون الكتب المطبوعة حديثا، والصحف والمجلات، تمر أعينهم بسرعة على الكلمات، فتلتقط ما خلفها من معاني، وما لها من مضامين، وقد يحتاجون إلى وقفات متأنية إذا كان المعني غامضا، أو الموضوع متخصصا، أو اللفظ مما ليس بمألوف.

لكن الذين يعانون تحقيق التراث ومقارنة المخطوطات يعانون عناء من نوع غريب وفريد، فكثيرا ما يقف الواحد منهم أياما أمام كلمة واحدة أو أمام تاريخ موقعة أو قرار، لأن صاحب النص قد مات، وأيدي النساخ قد عملت عملها في النقل تصحيفا وتحريفا، فأصبحت هذه الكلمات "يتامى" في كنف وصي، تُفترض فيه الأمانة والنزاهة عند الضبط والتحقيق والتقويم!.

وواحدة من المشكلات التي نعانيها ونحن نقرأ تراثنا ونحققه هي مشكلة "التواريخ" التي حدثت فيها وقائع وتطورات عصورنا الماضية، فلقد كانوا يؤرخون بالهجري فقط في أغلب عصورهم ومجتمعاتهم، وهناك طوائف غير إسلامية أرخت لحوادثها وحوادث الأمة بغير التاريخ الهجري - كالقبطي، أي المصري القديم مثلا- .

ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالتحديد منذ عام 1875م ومع قيام المحاكم المختلطة ذات القانون الفرنسي واللغة الفرنسية والقضاة الأجانب، دخل التأريخ بالتقويم الأوربي - الميلادي - إلى بلادنا في عملية التأريخ.

وقبل وضع الجداول لتحويل التواريخ ومقابلتها - وهي الجداول التي اعتمدت على الحساب الفلكي، والتي ضمها كتاب "التوفيقات الإلهامية" - كانت الصعوبات بالغة في ضبط تواريخ الوقائع والأحداث ومقارنتها.

لكن من الغريب - بل والشاذ - أن نقصد قصدا، وبعمد وسبق إصرار إلى "تضليل" أجيالنا المستقبلية، وتعمية الأمور عليها فيما يتعلق بتواريخ الأحداث التي نصنعها حاليا؟! كيف ذلك؟.

إننا نؤرخ معاهداتنا واجتماعات منظماتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، وكذلك ما نصدر من صحف ووكتب ومجلات.. إلخ، نؤرخ كل ذلك وغيره بالتاريخين الهجري والميلادي، ولأن أوائل الشهور الميلادية لا خلاف فيها ولا تبديل، فإن التاريخ الميلادي لأحداثنا هذه صادق لا خلاف فيه، أما التاريخ الهجري فهو الذي يحدث بصدده ما لا يليق من المفارقات.

فمن البلاد العربية ما تعتمد على "الحساب الفلكي" فتثبت أوائل هذه الشهور، ومن هذه البلاد ما تعتمد على "الرؤية البصرية" للهلال أول كل شهر، فلا تثبّت ولا تطرد في تقويمها أوائل هذه الشهور. 
والذين ينظرون في صحفنا ومجلاتنا الصادرة ما بين المحيط والخليج، لابد سيزعجهم الاتفاق في التاريخ الميلادي، والاختلاف في تقويمنا القومي والديني، أي الهجري!.

وعندما تجتمع وفود حكوماتنا في جامعتها العربية، فتؤرخ لاجتماعاتها وقراراتها ومعاهداتها بالهجري والميلادي، فإن الواقعية والاتفاق متحققان في الميلادي دون الهجري!.

ولنتصور باحثا عراقيا مثلا يأتي بعد مائة عام ليؤرخ لأحداثنا المعاصرة، فيجد اجتماعا شاركت فيه حكومته مؤرخا بتاريخ مغاير لما اعتمدته وسارت عليه نفس الحكومة!، وهكذا الحال في جميع أقطارنا من الخليج إلى المحيط!.

وللذين يردون مثالا صارخا على هذا الأمر غير المبرر، نقول من منا لا يعرف أن حربنا مع إسرائيل في عام 1973م قد حدثت في السادس من أكتوبر؟ نعرف ذلك جميعا، وفي كل عالمنا العربي والإسلامي، وفي جميع بلاد الدنيا.. لكن التاريخ الهجري لهذه الحرب المجيدة لم يكن عند جميعنا هو العاشر من رمضان!، ففي مصر وبعض الأقطار العربية والإسلامية، أّرخوها بالعاشر من رمضان عام 1393 هـ، لأنهم شرعوا في صوم رمضان يوم جمعة وفق رؤيتهم البصرية للهلال، على حين كان تاريخ هذه الحرب المجيدة هو التاسع من رمضان عند الذين يعتمدون الحساب الفلكي في التأريخ للشهور العربية!!.

بل إننا نرى - الآن - ما هو أكثر في الغرابة والشذوذ، فبعد تحالف الشيعة مع أمريكا على غزو العراق عام 2003م، وبعد التحكم الطائفي الشيعي في حكم العراق، يصوم العراقيون ويعيّدون بتوقيتين مختلفين، أحدهما للشيعة والثاني للسنة!، الأمر الذي يجعل التأريخ بالهجري غير موحد داخل البلد الواحد!.

فهل نظل عاجزين عن الاتفاق على كلمة سواء في هذا الأمر؟!، وهل نظل نعميّ تواريخنا الهجرية على أهل الحاضر والمستقبل فنفقدهم الثقة فينا؟! أم نأخذ بعلم الحسابات الفلكية التي تحقق اليقين في رؤية الهلال أكثر مما تحققه الرؤية البصرية، فنعيد الاحترام والمصداقية لتاريخنا القومي؟!.



: الأوسمة



التالي
314 ثلاثمئة وأربعة عشر
السابق
المشروع الإيراني أم ميثاق الأمة الإسلامي؟

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع