البحث

التفاصيل

الريسوني: الدفاع عن الأخلاق ليس انغلاقا ولا تشنجا، وإنما هو خيار واع متبصر

نشرت يومية المساء في عدد نهاية الأسبوع المنصرم حوارا شاملا مع الفقيه المقاصدي نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور أحمد الريسوني، تناولت فيه مجموعة القضايا والأحداث التي عبر الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح عن رأيه فيها.

وفيما يلي نص الحوار: 

1– أثار مقالك المعنون بـ"الحِدَاد على امرأة الحَدَّاد" غضب المنظمات النسائية في المغرب، فوصفتك بعض الناشطات بالفقيه الذي يمتح من مرجعية متخلفة ورجعية.. ألم يكن أجدر بك أن تنأى عن هذا النقاش، خصوصا وأنَّ المرحلة الدقيقة التي يجتازها العالم العربي تقتضي تعبئة الحداثيين والأصوليين، لمواجهة أخطار الإرهاب، والانقلاب على نتائج الربيع العربي، وأشكال الاستعمار الجديد؟

ليس الأجدر بي أن أسكت، وليس السكوت عن الحق من شيمتي، ولست ممن يؤمنون بأن السكوت من ذهب. بل الأجدر بهن وبأصحابهن أن يتعلموا النقاش العلمي والفكري، وأن يخرجوا من مدرسة السب والشتم والغوغائية، وأن يرتقوا إلى مناقشة الأفكار والمحتويات. أنا أسألك وأنت تتابع أكثر مني: هل منهم من ناقش فكرة واحدة مما ذكرته وأظهر خللها وخطأها وزيفها؟ إنهم لا يطيقون ذلك بل يهربون منه، لأنهم يعرفون أن ما قلته هو عين الحقيقة، ولم آت في ذلك بجديد، وإنما ذكرت ما يعرفه الناس جميعا، لكني نبهت على ما في ذلك من تلاعب بالمرأة واستغلال لها وهدر لكرامتها.

2– انطلقت في مقالك من كتاب العالم التونسي الطاهر الحداد "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" الذي أشدتَ به، واعتبرته دعوة إصلاحية وصيحة نهضوية، من دون أن تذكر أن الشيخ الحداد طالب في هذا الكتاب بإلغاء تعدد الزوجات والمساواة بين الرجل والمرأة حتى في الإرث، وهذا سقف أعلى من مطالب عدد من المنظمات النسائية الحقوقية المغربية؟

أولا أنا عرجت على كتاب الطاهر الحداد، وكذلك على نقيضه كتاب (الحِداد على امرأة الحدّاد)، لمحمد الصالح بن مراد، لأغراض ذكرتها في المقال، ولم يكن من غرضي استعراض ما في كتاب الطاهر الحداد، ففيه أشياء كثيرة لم أذكرها مما يعجبني ومما لا يعجبني. وقد أشدت إجمالا بالكتاب، تقديرا لدوافعه وغاياته الإصلاحية واعترافا بمنطلقاته الواقعية. ولم أقل إني أتبناه أو أوافقه في كل تفاصيله وجزئياته، بل أبديت عليه عدة ملاحظات، ليظهر أن الكتاب يؤخذ منه ويُرَدّ. أما موقفه من الميراث، فهو أنه يرى أن منهج التدرج في الشريعة لا يمنع من المساواة فيه بين الرجل والمرأة، متى توافرت الظروف والأسباب لذلك. وشبيه يهذا رأيه في تعدد الزوجات. وأنا لي رؤية اجتماعية شرعية سياسية مغايرة في هذا الموضوع، وفي موضوع الأسرة عامة. وأن أشيد دوما بالعلامة علال الفاسي وبجهوده لتحسين أوضاع المرأة، مع أنه هو أيضا من الداعين لإلغاء تعدد الزوجات. فوجود عناصر جزئية مختلف فيها لا يمنعني من الاصطفاف مع هؤلاء في مسار التحرر والإصلاح والنهضة، في ظل الهوية والمرجعية الإسلامية.

3– ما كتبته عن استغلال المرأة في الإشهار والاستعراض.. هو ما تسميه المقاربات السيميائية النقدية، ومواقف الحركات المناهضة للعولمة بتشييء المرأة. الفرق هو أنها تقدم ذلك في تصور شمولي ينتقد نمط الإنتاج الرأسمالي النيوليبرالي، فيما تقدمه أنت من منظور أخلاقوي ضيق. ما رأيك؟

أنا لم ألزم أحدا بأن ينطلق من رؤيتي ولا من مرجعيتي، ولذلك فليس لأحد أن يحدد لي المنظور الذي يجب علي أن أنطلق منه، أو يمنع علي المنظور الذي أتبناه وأعبر من خلاله. وليس لأحد أن يفرض علي مصطلحاته. هذا تحجير مرفوض. ومع ذلك فأنا أعتز وأسعد بوجود غربيين وغيرهم — نساء ورجالا — يناهضون استغلال المرأة وتشييئها وامتهانها، أيا كانت منطلقاتهم ومعاييرهم ومصطلحاتهم. لكن المؤسف أن أصحاب الحملة علي لم يفعلوا شيئا من هذا، وهم على الدوام يصفون كل ما أقوله ويقوله أمثالي بالرجعية والظلامية والتطرف والتحجر ومعاداة للمرأة… هذه بضاعتهم وهذه معزوفتهم المفضلة.

4– لماذا يبقى خطاب رجال الدين المسلمين والمنظمات الدعوية حبيس دعاوى أخلاقوية، غالبا ما تكون متشنجة ومستفزة، من قبيل الحملة التي نظمتها حركة التوحيد والإصلاح، في 2008، تحت شعار "حجابي عفتي"؟

أولا: نحن نقول مع الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ،،، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فالدفاع عن الأخلاق ليس انغلاقا ولا تشنجا، وإنما هو خيار واع متبصر.

وثانيا: موقفنا "الأخلاقوي" هو في الحقيقة موقف أخلاقي عقدي إنساني سياسي اقتصادي. فرؤيتنا نعتبرها أكثر شمولية وأبعد مدى من مجرد استحضار البعد الرأسمالي في المسألة.

أما حملة "حجابي عفتي" التي سبق أن نظمتها حركة التوحيد والإصلاح، فقد كانت في غاية الهدوء واللطف واللياقة، فلست أدري من أين اكتشفتم أو تذكرتم أنها كانت متشنجة ومستفزة؟!

5– ألا يعني ذلك مثلا أن غير المحجبات لسن عفيفات؟

لا أبدا، لا تدل على ذلك ولا تعنيه ولم يخطر لنا على بال، ويمكن لمن شئن أن ينظمن حملة مضادة تحت شعار: "تبرجي عفتي" أو "عفتي في تبرجي"، ولن نقول لهن: هذا يعني أن المتحجبات غير عفيفات. وحتى اللغة لا تسمح بهذا الفهم وهذا التأويل، لكن ربما "اللي فيه الفز كيقفز". أنا أعتقد أن المستفز لبعض الناس في تلك الحملة ليس هو الحجاب، وليس هو مفهوم المخالفة الذي يشمه البعض في تلك الجملة، وإنما هو إعادة الاعتبار لمفهوم العفة وقيمة العفة. فالمشكلة في كلمة العفة في حد ذاتها…

6– مؤخرا أثير نقاش حول النقاب في عدد من دول الخليج، بعد قيام امرأة منقبة بقتل أستاذة أمريكية في مركز تجاري في أبو ظبي. ألا ترى أن النقاب لباس متخلف ذوقيا وعمليا ودينيا؟

وصف النقاب بأنه لباس متخلف ذوقيا وعمليا ودينيا، هو مجرد حكم ذوقي مزاجي لا أقل ولا أكثر، فدع الناس وأذواقَهم المختلفة، وللناس فيما يعشقون مذاهب. أما التخلف الحقيقي فلا يوجد في النقاب ولا في العمامة، وإنما يعشش في العقليات والنفسيات وسوء الأخلاق.

7– هل يمكن، شرعا، وبالنظر إلى سلبيات النقاب، منع ارتدائه في الأماكن العمومية؟

النقاب يا سيدي إنما تلبسه من تلبسه في الأماكن العمومية، فهل تقصد أن يمنع في الأماكن العمومية ويسمح به في البيوت؟!

من الناحية الفقهية أنا لا أقول بلزوم النقاب، ولكني أعرف أن من رضيته واقتنعت به تكون سعيدة به مرتاحة معه. وأنا شخصيا لا أعرف ما هي سلبيات النقاب سوى كونه يغيظ بعض الناس. فهل سلبيات النقاب هي أن امرأة منقبة ارتكبت جريمة قتل لأول مرة في تاريخ البشرية؟ طيب لو فرضنا أن القاتلة كانت سافرة هل سيمنعون السفور ويفرضون النقاب؟ ثم هل المرأة المنقبة قتلت ضحيتها بالنقاب أم بالسكين؟ وإذا كانت جريمة قتل واحدة قد صدرت من امرأة منقبة، فمن يقتل الآلاف يوميا عبر العالم، هل هن المنقبات؟ على كل حال هذا مجرد تعليق وقول على قول وجواب على سؤال، أما من أراد أن يمنع النقاب أو الحجاب أو الجلباب، أو حتى العمامة واللحية، فذاك شأنه ولن أمنعه. وكما كان المرحوم عبد الله بها يقول: "كل واحد يدير شغله".

8– يبدو أن محور "الثورات المضادة" بقيادة السعودية والإمارات قد انتصر على المحور الداعم للثورات، والمتمثل في قطر وتركيا. ما رأيك؟

على كل حال نهنئهم على الانتصار، ونحن في الانتظار، والزمن طويل، والتاريخ لا يُحسب بسنة أو سنتين أو جولة أو جولتين، أو جيل وجيلين. التاريخ يسجل اليوم بالعربي الفصيح الصريح أن بعض الشعوب العربية انتفضت ضد الظلم والاحتقار والفساد والاستبداد، ونجحت في زحزحة طغاتها وجلاديها ومغتصبي إرادتها، لكن حكاما خليجيين متخمين ارتعدت فرائصهم وزاغت أبصارهم، فهبوا بأموالهم المكدسة لتمويل حركات الردة والثورة المضادة، مولوا القتل وحضوا عليه، مثلما فعلوا من قبل ضد المسار الديموقراطي في الجزائر.

للتاريخ كلمته، وللسنن كلمتها، وفوق ذلك كله لليوم الآخر كلمته، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ…).

9– على حساب من ستكون المصالحة القطرية المصرية؟

ليس عندي معطيات، ولا أحب التكهنات ولا استباق الأحداث. لحد الآن هناك نوع من تطبيع العلاقات. وهذا ما نرجوه لجميع الدول العربية الغارقة في الحزازات والخصومات، كما هو شأن الجزائر مع المغرب، ودول الخليج فيما بينها. لكن هل سيكون هذا التطبيع القطري المصري موجها ضد جهة أخرى أو أنه ليس موجها ضد أي جهة؟ هذا ما ستكشفه الأيام.

10– كيف تقرأ مستقبل "الشرعية" في مصر؟

بدون شك مصر تمر بفترة حالكة من تاريخها، والشرعية السياسية فيها قد تعرضت للإبادة العسكرية. ها هو أكبر جيش عربي صار متفرغا بالكامل لخوض حرب شوارع ومنازل ضد الشباب والطلبة وغيرهم ممن يصيحون ضد الانقلاب وضد الظلم وضد الفساد. ومع ذلك كله لا بد للَّيل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر. أما متى وكيف؟ فعلم ذلك عند ربي.

11– إذا كنت ترفض استراتيجية التحالف الدولي ضد الإرهاب، فأي تصور آني تقدمه لقطع دابر الإرهابيين الذين يفتكون بالأبرياء، ويقطعون الرؤوس ويسبون النساء.. في سوريا والعراق؟

أولا أنا ضد الإرهاب والإرهاب المضاد، أنا ضد الإرهاب الأصلي وضد الإرهاب الفرعي. وأما هذا التحالف الدولي، العربي الأمريكي، فاعتقادي أنه هو الذي يصنع الإرهاب ويشجعه ويسلحه، ثم يقوم لمحاربته، وكل ذلك لأجل ابتزاز الشعوب وفتنتها وقهر إرادتها وامتصاص ثرواتها. فالحال معهم كما قال الشاعر: "فيك الخصام وأنتم الخصم والـحـَكَم”. ولقد كشف السيد مسعود البرزاني مؤخرا العديد من الحقائق حول تشجيع المالكي لداعش وتغاضيه عنها وتعمده تدمير الجيش العراقي وترك أسلحته غنيمة لداعش، وذلك لكي يجر الحرب والدمار على العشائر السنية المناوئة له. وهكذا فعل بشار الأسد، وكل هذا برعاية ومباركة أمريكيتين. ودول ما يسمى "التحالف الدولي" هي التي تعمل على استدراج الشباب المسلم المتدين — المغفل المتحمس — من كل أنحاء العالم، والزج بهم وتصفيتهم في المحرقة الكبرى. وأما الحلفاء النفطيون فيكفيهم دفع الفواتير.

أما الحل الذي أراه ولا يريدونه، وهو من "السهل الممتنع": فيكمن في التصالح مع الشعوب ومنحها حريتها، والتخلي عن الظلم الفساد والاستبداد.

12– هل ما زال الحوار السني — الشيعي، الذي كنت أحد المنخرطين فيه، ممكنا الآن؟ وما أهمية ذلك الحوار في حقن الدماء، والمساهمة في وضع حد للفتنة القائمة في الشرق الأوسط؟

أنا أؤيد هذا الحوار وأتوق إلى أن أراه قائما وفاعلا، وهو من أوجب واجبات المرحلة، فعلى كثرة مآسينا وكوارثنا، يبقى الصراع الشيعي السني هو الأخطر والأسوأ إلى أجل غير مسمى. وهذا الحوار لو كان فيجب أن يكون في البداية بين علماء ومفكرين وسياسيين مستقلين. أما المرتبطون بدولهم وحكوماتهم كملالي إيران ومشايخ آل سعود، فلا يصلحون الآن إلا لخدمة المشاريع الاستبدادية والمشاريع التدميرية الطائفية.

13– عادة ما يعتب البعض أنك تتبادل الأدوار مع عبد الإله بنكيران، وأنك تنوب عنه في قول ما لا تسمح له إكراهاته الحكومية بقوله. ما تعليقك؟

بنكيران والريسوني وغيرهما: كل ميسر لما خلق له، نحن نعمل على سجيتنا وعفويتنا، ولا نحسن التمثيل والمخادعة.

14– ما هي القيمة المضافة التي يمكن أن تحملها حكومة عبد الإله بنكيران إلى المغاربة، عدا أن تكون كأي حكومة تقنوقراطية نزيهة؟

لو ربحنا فقط النزاهة في العمل الحكومي فهذا شيء عظيم. مع العلم أن المنجزات ذات الطبيعة السياسية والاستراتيجية لهذه الحكومة لا يستهان بها. والتقارير والشهادات والتصنيفات الدولية في هذا الباب تصدر تباعا، وهي في أكثرها إيجابية ومشرفة. والطبقات الفقيرة يعرفون ذلك ويلمسونه في مداخيلهم ومصروفاتهم. وكثير من التدابير الحكومية لا تعطي ثمارها إلا بعد سنوات. ومع ذلك تبقى النزاهة والشفافية هي الربح الأكبر.

15– يبدو أن مشاركة حزب العدالة والتنمية في الحكومة قد قطع كل إمكانيات الحوار الإسلامي في المغرب، خصوصا مع العدل والإحسان والبديل الحضاري الذين يمنعان في ظل حكومة إسلامية. ما رأيك؟

هذا الملف حاله بعد المشاركة في الحكومة كحاله قبلها، لم يتقدم بفضلها ولم يتأخر بسببها، ولم يطرأ عليه أي جديد منذ أكثر من عشر سنوات. فعلاقة الإخوة المذكورين معنا من جهة، ومع الدولة من جهة أخرى، لم تستفد ولم تتضرر من هذه الحكومة. وهذه الحكومة كسابقاتها لا تأثير لها في الموضوع.

16– ما هي قراءتك لوصول الباجي قايد السبسي إلى رئاسة تونس؟

كل ما تأتي به النزاهة وحرية الاختيار، فأنا سعيد به مرحب به. ولذلك هنأت بالأمس بعض أصدقائي التونسيين بنجاح تجربتهم ومسارهم، وهو نجاح لنا جميعا. ربحت تونس تجربة ناجحة محترمة. والسجل الريادي لتونس سجل حافل وعريق.

17– ألم يكن من شأن دعم النهضة للمرزوقي، بوضوح وقوة، أن يقطع الطريق على السبسي ورموز "العهد البائد"؟

هذا صحيح فيما يبدو لي أنا أيضا، ولو كنت تونسيا لأيدت المرزوقي وصوتت له، لكن أهل مكة أدرى بشعابها. ومع ذلك فالسبسي ليس هو السيسي رغم التشابه الكبير في جزء من الإسم. ثم إن السبسي يأتي في سياق التغيير، فهو من "العهد القديم” صحيح، لكنه جاء بمنطق "العهد الجديد”. فهو سياسي مدني وزعيم تيار حقيقي، وليس مجرد قائد جيش أو شرطة أو مخابرات، ومجيئه ليس ثورة مضادة، وليس انقلابا، ولا يستطيع السبسي أن يكون كذلك. ولذلك لا يسعنا إلا الترحيب به والدعاء له بالتوفيق.

جريدة المساء العدد :2565 / 27-​12-​2014


: الأوسمة



التالي
راشد الغنوشي: "نريد أن نكون نموذجًا للديمقراطية العربية"
السابق
القره داغي لـ موقعنا: خيرية الأمة ليست بالشعارات

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع