البحث

التفاصيل

كوني عاقلة جادّة يا أمّة رسول الله!

الرابط المختصر :

كوني عاقلة جادّة يا أمّة رسول الله!

بقلم: أ.د. عناية الله أسد سبحاني (عضو الاتحاد)

 

هناك ضجيج وصراخ، وشكوى وملام على ألسنة المسلمين في أنحاء العالم!

وهناك زئير وأزيز في الصحافة العربية والإسلامية، والجرائد المحلية والعالمية على حدّ سواء!

وذلك كله احتجاجا على كلمات سخيفة هذى بها الرئيس الفرنسي ماكرون حاليّاً!

هذى بها الرئيس الفرنسي قبل أيام بدون استحياء، وفيها سخرية من الإسلام ونبيّ الإسلام وإساءة أيّ إساءة إلى كرامته عليه الصلاة والسلام!

 وتصريحات الرئيس الفرنسي شاعت وانتشرت في المنطقة كلها، بل في العالم كله، مثل النار في يبيس العرفج، وكانت لها آثار سلبية ممقوتة في المجتمع الفرنسي وغيره.

وزاد الطين بلّة أن شخصا من فرنسا صنع فيلماً فيه إساءة إلى كرامة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، والرئيس الفرنسي استجاده وفرح به، وشجّع على نشره وإذاعته رسميا، فتسمّم الجوّ كله في ليلة وضحاها، واشتعلت نار إسلاموفوبيا في كل مكان، في فرنسا وفي عواصم الغرب كلها.

وأدّى ذلك إلى مقتل مدرس في فرنسا، وكان المدرس مدرس التاريخ، وكان يعتبر ذلك الفيلم، وما قيل في الطعن في شخصية رسول الله والإساءة إلى كرامته عليه السلام، كان يعتبر كل ذلك من الحرية الذاتية التي هي حق كل إنسان.

وكلام المدرّس الفرنسي، وموقفه المؤيد للفيلم المسيء إلى كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهب مشاعر طالب من طلابه، وأثار حفيظته، فقرر في نفسه أمرا، وترصده، وانقضّ عليه حينما واتته الفرصة، وقَتله ثم قُتل.

هذا ما فعله ذلك الطالب المسكين، وبئس ما فعل، فقد كان عمله هذا جريمة، وكان من التطرف والإرهاب الممقوت عند الله وعند الناس.

وعلماؤنا الأجلاء في العالم ندّدوا به، وأنكروه إنكارا، والحمد لله!

ولم يكن هذا نهاية الأمر، بل تبعته أحداث وكوارث من قتل وهدم وتحريق في فرنسا وغيرها من بلاد العالم، استنكارا لما فعله الرئيس الفرنسي ماكرون من إساءة إلى كرامة الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم

وهنا لابد لنا من وقفة جادّة متأنية أمام تلك الأحداث والكوارث، ولم تحدث تلك الكوارث في فرنسا أول مرة، بل هي حلقات من تلك السلسلة المشؤومة التي تكررت وتكررت في فرنسا وأخواتها منذ عقود.  

لابد لنا أن نعلم أن ردود الفعل التي ظهرت منا –معشر المسلمين- وتظهر دائما بمثل هذه المناسبات كانت صحيحة موفّقة، أم كانت خاطئة مشوّهة لصورة الإسلام والمسلمين؟

لابد لنا أن نعلم هل هي تمثّل سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مع الأعداء، أم تخالفها؟

وماذا كانت سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم مع الأعداء؟

روى البخاري عن شقيق، قال: قال عبد الله: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء ، ضربه قومه فأدموه، فهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»                 .                                            (صحيح البخاري- رقم: 6929)

وعن عبد الله بن مسعود قال: لما قسم رسول الله غنائم حنين بالجعرانة، ازدحموا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عبدا من عباد الله بعثه الله إلى قومه فضربوه وشجوه، قال: فجعل يمسح الدم عن جبهته ويقول: رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون!"

 قال عبد الله كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن جبهته يحكي الرجل ويقول: "رب اغفر لقومي إنهم لا يعلمون!"

                (مرويات غزوة حنين –إبراهيم بن إبراهيم قريبي: 1/383)

تصوروا أيها المسلمون! إن رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم ماسبّ أعداءه الذين ضربوه وشجّوه، وما شتمهم، وما لعنهم، بل دعا لهم بالعفو والمغفرة.

دعا لهم بكلمات رقيقة تفيض بالنصح والحب والحنان: "رب اغفر لقومي، إنهم لا يعلمون!"

وحياة رسولنا صلى الله عليه وسلم كلها حياة كريمة شامخة، حياة ليس فيها إلا العفو والصفح، والرأفة والرحمة، ورحابة الصدر ولين الجانب. وصدق ربنا سبحانه وتعالى إذ قال:

لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (سورة التوبة: 128)

وهنا يثور سؤال:

إذا كان رسولنا رؤوفا رحيما، وكان عفوّا كريما، فمن أين جاءت فينا تلك الشدة؟

 ومن أين جاءت فينا تلك القسوة القاسية؟

ومن أين جاءت تلك الغلظة في أمة رسول الله؟

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رحمة للعالمين، وكان قلبه يذوب همّا وكمداً إذا رأى الناس يتيهون في الظلام، ولا يستجيبون لداعي الإيمان، كما قال تعالى:

 فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (سورة الكهف:6)

  لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (سورة الشعراء: 3)

فكان المفروض أن يكون أتباعه وعُشّاقه كلهم رحمة للعالمين، وهداة للمذنبين! ولكن...

فلماذا لم يستنّ المسلمون بسنّة رسولهم، إن كانوا يحبون رسولهم؟ 

ومن أين استباح المسلمون دم رجل شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساء إلى كرامته، أو لم يبذل له عليه السلام من الحب والاحترام ما يبذلونه؟

ألم يكن كفار مكة يؤذون رسول الله ويستهزؤون به، ويسبّونه ويشتمونه؟ فماذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟

هل كانوا يقتلونهم؟

أو كانوا يحرقون بيوتهم؟

أو كانوا يكيلون لهم الصاع صاعين؟

أم كانوا يدعونهم إلى سبيل ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وكانوا يجادلونهم بالتي هي أحسن، وكانوا يبذلون جهودهم حتى يزيلوا الغشاوة عن أبصارهم، ويقرّبوهم إلى دين الله، ويعمروا قلوبهم بحب الله وحب رسوله؟

فهل فعلنا مع أعدائنا مثل ما فعل رسول الله وأصحابه مع أعدائهم؟

 

إن ما فعله الرئيس الفرنسي فعل قبيح ولا شك، ولكنه ما فعل ما فعل إلا عن جهالة وقلة وعي، وعلاج الجاهل هو التعليم والتبيين بأسلوب الناصح الأمين.

فهلّا أوفد إليه المسلمون وفدا من علمائهم البررة الصالحين؟ حتى يعرّفوه عظمة رسول الله، ويذكروا له نماذج مشرقة من سيرة رسول الله، وحتى يشرحوا له حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحنانه للبشرية جمعاء.

ألم يكن هذا من واجبنا؟ ونحن شهداء على الناس، اذكروا قول ربنا سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

 

وأيم الله! لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا حيّا، وحدثت هذه الأحداث، لم يقر له قرار، ولم يهدأ له بال حتى يوفد وفدا كريما من أصحابه الفقهاء إلى الرئيس الفرنسي، حتى يبينوا له الحق، ويزيلوا عن بصره الغشاوة، ويأخذوا بيده إلى طريق الهدى.

 ثم أين نحن من قوله تعالى أيها المسلمون!

وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (سورة فصلت:36).

 

إن ديننا دين الله رب العالمين، وهو لا يأمرنا أن نسيء إلى من أساء إلينا من أعدائنا، بل يأمرنا أن ندفع السيئة بالحسنة، ويأمرنا أن نكسب ودّهم، ونفتح أعينهم بالإحسان إليهم.

هذا هو الخلق العظيم، وهذا الخلق العظيم هو الذي كسب قلوب الأعداء في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وجذبهم إلى دين الله، فدخلوا في دين الله أفواجا.

وأين نحن من قوله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (سورة طه:44)

فأُمر موسى وهارون عليهما السلام أن يقولا للطاغية فرعون، الذي كان يسوم قومهما سوء العذاب، وكان يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم، أُمر موسى وأخوه هارون عليهما السلام أن يقولا لذلك الطاغية قولا ليناً!

فهل نقول إن الرئيس الفرنسي ماكرون أطغى من فرعون؟ وهل نقول ليس من حقه أن نقول له قولا ليّنا!

لا والله، لا يجوز لنا القول الخشن، ولا يجوز لنا السب والشتم، ولا يجوز لنا الزئير والوعيد كائنة ما كانت الظروف! حتى ولو كانت الإساءة إلى كرامة نبينا عليه الصلاة والسلام!

لا يجوز لنا أبدا أن ننزل من مستوانا الرفيع العالي إلى مستوى الأعداء السافل النازل!

ولنا العبرة فيما قاله الشاعر العربي العاقل: 

كم من لئيم ود أني شتمتــــــــــــه * وإن كان شتمي فيه صاب وعلقم

وللكف عن شتم اللئيم تكرماً ... أضر له من شتمــــــــــــه حين يشتم

وليس الأمر هنا أمر الدفاع عن كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم، فربنا سبحانه وتعالى أكرمه إكراما ليس بعده إكرام، وأنزله منزلا رفيعا شامخا لا تعطوه الأيدي مهما حاولت، ومهما تعبت وبذلت من جهود!

ومن أراد أن ينال من عظمة رسول الله، وأراد أن يمسّ كرامته عليه السلام فلن يضرّ إلا نفسه، ولن يفسد إلا عاقبته.

فالأمر ليس أمر الدفاع عن كرامة رسول الله، فهو عليه السلام في غنى عن دفاعنا، وإنما الأمر أن يكون حبّنا حبا صادقا عاقلا جادّا يسوقنا إلى الاستنان بسنته عليه السلام في تربية العقول وتزكية النفوس، وفي دعوة الناس إلى دين الله، كما كان يفعل أصحاب رسول الله.

فلا يجوز لنا السبّ والشتم، يا أمة رسول الله! فليس هذا من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم

ولا يجوز لنا الزئير والوعيد، ولا يجوز لنا اللعن والطعن، ولا يجوز لنا سفك الدماء وهتك الأعراض، ولا يجوز لنا التخريب والتدمير بدليل الذبّ عن بيضة رسول الله، والدفاع عن كرامته، فهذا كله ليس من سنة رسول الله، وذلك ينفّر الناس عن ديننا ونبينا!

 

وإنما واجبنا أن نمثّل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الأعداء. وأن نكون دعاة صادقين عاقلين جادّين، ندعو الناس برفق ولين إلى دين الله، ولا نقول قولا، ولا نعمل عملا ينفّر الناس عن دين الله، ويسيء إلى سمعة ملّة الإسلام.

إن هذه الغلظة والشدة، والقسوة التي تعوّدناها ليست من حب الله، ولا من حبّ رسول الله في شيء، والصحابة الذين تربّوا على يدي رسول الله لم يكن فيهم إلا الرفق والمودة، ولم يكن فيهم إلا النصح والحنان لعباد الله. روى الإمام مسلم، قال:

 حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، واللفظ لأبي بكر، قالا: حدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال:

 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره، قال: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا» (رقم: 1732)                                                             

نسأل الله ربنا أن يلهمنا رشدنا، ويسدّد خطانا، ويعيذنا من شرور أنفسنا، إنه سميع قريب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.

 


: الأوسمة



التالي
بمشاركة القره داغي.. علماء وأكاديميين وسياسيين يشاركون في "ملتقى علماء تركيا لأجل القدس"
السابق
الددو والقرضاوي في جلسة أخوية تناولت هموم الأمة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع