البحث

التفاصيل

*كيف تجرؤا على نبش قبرك يا عمر*

الرابط المختصر :

*كيف تجرؤا على نبش قبرك يا عمر*

بقلم: عامر الخميسي (عضو الاتحاد)

 

"استيقظ العالم صباح الأربعاء رابع أيام عيد الفطر المبارك من سنة ١٤٤١ه على نبش قبر الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز وأمرته الصالحة فاطمة بنت عبدالملك بن مروان وقد عبثت بالقبرين أيد آثمة وذهبت بما في داخل القبرين إلى جهة مجهولة".

كان هذا مفاد الخبر الكارثة الذي هز الوجدان وطغى على المشاعر وحرك الضمائر..

إيه يا عمر..

ها هم الغزاة يحفرون قبرك وقبر زوجتك ، هذه معاولهم تنهش التراب نهشا.

هذه مخالبهم يعلق بها تراب قبرك الطاهر ، ها هم يحملون رفاتك في جنح الظلام.

ها هم يتسللون لواذا.. لا .. بل أمام البشرية..

ها هم يهربون بجثمانك ويتوارون عن الأنظار ويتجهون إلى مكان مجهول..

كأني بك تنادي من وراء السنين: يا للعار..

أيوجد مسلمون هنا بجانب قبري وقبر فاطمة؟

أين خيول دمشق الصاهلة التي خلّفتها بعدي؟

أيوجد أعزة؟

أهنا بقايا من شهامة ونخوة وكرامة؟

أهنا عرب؟

أسفي على كل من تولى بعدك يا عمر..

أتدري ماذا فعل الطغاة بعدك؟ قتلوا الكبرياء ، دمروا النخوة ، بكت الإنسانية لأفعالهم..

أتخيل كبير الشعراء جريرا وهو يقف في بلاطك يقول:

وسع الخلائق عدله ووفاؤه * حتى أرعوى وأقام ميل المائل

وأتخيله وهو يقول:

 

إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا … من الخليفة ما نرجو من المطر

فأتصور خلافتك التي كانت رحمة على البشرية وإنقاذا للإنسانية وغيثا مريعا سحا غدقا هطل على هذه الأرض..

أتخيل الهناء الذي عم دولة الإسلام فلم يكن هناك خوف ولا قتل ولا جوع ..

حتى الطير في كبد السماء والوحش في العراء وصله خيرك يا عمر..

آهٍ .. كم تمنيتُ أن أكون طيرا في عهدك يفرش جناحيه ويجوب الآفاق يغني ويمرح فإن تعب وحط بجناحيه وجد الحَب ملقى على الجبال لئلا يجوع..

أتخيل عندما وصل نبأُ موتِك الذي قصم الظهور إلى إمبراطور الروم فإذا به يبكي بكاءً شديدًا أذهل حاشيته، فسألوه عن ذلك، فأجابهم بكلمات تُعتبر من أصدق وأجمع ما قِيل في تأبينك حيث قال: ماتَ والله رجلٌ عادلٌ، ليس لعدله مثيلٌ، وليس ينبغي أنْ يَعجبَ الناس لراهبٍ ترك الدنيا؛ ليعبدَ الله في صومعته، إنما العجبُ لهذا الذي أتته الدنيا حتى أناختْ عند قدمه، فأعرض عنها.

عندما حضرك الموت لم يكن في رصيدك المليارات كحكامنا ولم يكن عندك القصور ولا العقارات ولا البيوت ولا المزارع ولا الزخارف ولا الأبهة وعندما قيل لك ماذا تركت لأولادك؟

أجبتَ بكلمة واحدة : تركتُ لهم تقوى الله..

لا إله إلا الله، كيف يا أمير المؤمنين؟! فتقول: إن كانوا صالحين، فالله يتولَّى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك، فلن أترك لهم شيئًا يستعينون به على معصية الله.

ما وجد أبناؤك وبناتك إلا الخشن من اللباس.. وما عرفوا اللحم بل كان طعامهم العدس والبصل وكانت نفقتك درهمين كل يوم وأنت الذي تحكم الدنيا ويخضع لك العالم وتسجد كنوز الذهب بين يديك..

في حين أن خيولك تطرق أبواب باريس غربًا، وممالك الصين شرقًا، لم يكن لديك إلا بيت من طين إذا تصدع قمتَ تصلحه..

بنيتَ بيتك الطيني بيدك وفاطمة تناولك اللبن لبنة لبنة وأنت الذي لو شاء لسكن القصور..

يا لله .. أي عظمة وصلت إليها ما نالها أحد جاء بعدك..

في يومٍ من أيام العيد جاءت بناتُك وقُلْنَ لك: يا أمير المؤمنين، العيد غدًا، وليس عندنا ثياب جديدة نَلْبَسُها - فماذا كان ردُّك عليهِنَّ؟

يا بناتي، ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد!

يتدخل وزير ماليتك لما رأى المشهد الآسر فيقول: يا أمير المؤمنين، ما ضرَّ لو صرفنا لك راتبَ شهرٍ مُقَدَّمًا، فتنظر إليه نظرةَ غضبٍ، تكاد من شدة غضبها أن تهتكَ حِجاب الشمس، وتفلق صم الصخر وتقول له: ثكلتك أُمُّك، هل اطلعت على علم الغيب، فوجدتني سأعيش يومًا واحدًا بعد الآن".

كانت نقطةُ التحول البارزة في حياتك يوم أن فُتِحَتْ زخارف الدنيا ومتعها كلُّها بين يديك، تأخذ ما تشاء، وتتخير ما تشاء ولا يحاسبك أحدٌ إلا الواحد الأحد ، هذه اللحظة التي تنهار  فيها النفوس ويضعف فيها الرجال  كانت نقطة اليقظة في حياتك فخفت أعظم ما يكون الخوف، وعدلت أحسن ما يكون العدل، وسرت أحسن ما يكون السير، ولم يكن بينك وبين الله أحد تخشاه..

أنت الخليفة..

أنت القائد العام للجيوش..

أنت أمير المؤمنين..

أنت الحاكم المطاع..

أنت أعظم خلفاء بنى أمية..

بل الخليفة الخامس في تاريخ أمة الإسلام..

كانت خلافتك كالنسيم العطر الذي هب على الحياة، والشذا الفواح الذي ارتاحت له القلوب، جدّدت الأمل في النفوس وأخبرتهم بفعلك أنه بالإمكان عودة حكم الراشدين، وأن تمتلئ الأرض عدلاً وحرية وسلاما وأمنًا وكرامة وسماحة، وأنه يمكن أن يُقوم المعوَّج، وينصلح الفاسد، ويُردع الظالم، ويُنتصف للمظلوم، ويأمن الخائف، ويُجبر المكسور، وترفرف راية العدالة فوق كل شبر من أرض المسلمين..

لم تطل حياتك أيها الخليفة العظيم فتوفيت وأنت دون الأربعين، قضيت منها سنتين وبضعة أشهر في منصب الخلافة فعم الخير والنماء والازدهار والرخاء..

قالت فاطمة زوجتك وقد نبش قبرها أيضا مع قبرك: دخلتُ يوماً عليه_ تعنيك وهو جالس في مصلاه واضعً خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فقلت: مالك يا عمر.. فقال: ويحك يا فاطمة، قد وليّت من هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم فخشيت أن لا يثبت لي حجة عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت.

كتبَ أحد ولاتك يطلب مالاً كثيراً ليبني سوراً حول عاصمة الولاية

فأجبته: ماذا تنفع الأسوار؟؟ حصنها بالعدل ونقِّ طرقها من الظلم.

لقد كنت من طراز فريد وكنت مثالا يحتذى به وكنتَ نعمة الله لهذه الأرض..

لما توليتَ الخلافة عم العدل فرعت الذئاب مع الأغنام في لحظة زمن خاطفة لم تتكرر إلى الآن..

يقول مالك بن دينار: لما وَلِيَ عمر، قالت رُعاة الشاة في ذروة الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس؟ فقيل لهم: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إنّا إذا قام على الناس خليفة صالح، كَفَّت الذئاب والأُسْد عن الغنم.

وقال حسن القصار: كنت أحلب الغنمَ في خلافة عمر، فمررت براعٍ وفي غنمه نحو من ثلاثين ذئبًا حسبتهم كلابًا، ولم أكن رأيتُ الذئابَ من قبل، فقلت: يا راعي، ما ترجو بكل هذه الكلاب؟ فقال: يا بُني، إنها ليست كلابًا، وإنما هي ذئاب، يا بُني، إذا صلح الرأس، فليس على الجسد بأس..

لله أنت يا عمر ..

أي قلب كنت تحمل؟

وأي نهج كنت تتبع؟

وأي نظام كنت تستخدم؟

كيف قدرت على تطويع الزمان والمكان والإنسان لإرادتك الفولاذية التي تحطم الصخر القاسي وتذيب الجبل الراسي..؟

جئتَ يا عمر والأمة تمر بفترة حرجة ورياح عاصفة، وأوقات مزلزلة، وفتن مدمرة، وثورات مهلكة، لكن الدولة في عهدك والأمة في تاريخك تجاوزت تلك المخاطر، وفرضت هيبتها وسلطانها؛ فعاد الأمن والاستقرار، والرخاء والازدهار، واستؤنف الفتح الإسلامي الكبير، وضمّت الدولة إلى أراضيها بقاعا شاسعة في الشرق والغرب، وحسبك أنك وليّتَ في منصب قائد الجيوش مسلمة بن عبد الملك الذي حاصرت خيوله القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية..

كنت تختار ولاتك بعد تدقيق شديد، ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم وكفاءتهم ؛ فلا يلي عندك منصبًا إلا من رجحت كفته خبرة وأمانة وعلمًا وإيمانًا، ولقد كنت إلى جانب قيادتك فاتحًا مغوارا، وبطلا صنديدا، وإداريًا عظيمًا، وعابدًا قانتا، وخاشعا بكاءا..

بلغ من حرصك على الرفق برعيتك، واحترامك لحقوق الإنسان أن جعلت لكل أعمى قائدا يقوده ويخدمه، ولكل مريضين مرضًا شديدًا خادما لهما، ولكل خمسة أيتام أو من لا عائل لهم خادما يخدمهم، ويقوم على شؤونهم.

وفاضَ المال في بيت المال فيضا بفضل عدالتك الماضية وسياستك الحكيمة؛ فعملت جاهدا على فكّ رقاب الأسرى، وإعالة الفقراء والمساكين، ومواساة الغرباء والمنقطعين، وحمّلت بيت المال تكاليف زواج مَن لا يملك نفقاته.

فأتخيل مناديك وهو ينادي:

أين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين المساكين؟ أين اليتامى؟

لقد اغتنى كل هؤلاء في عهدك يا عمر..

لقد كنتَ فلتة من فلتات الزمان، نبكي لمجرد مرورنا عليها واستنشاق عبقها..

ويُذكر لك أنك أسقطتَ الجزية عن أبناء البلاد المفتوحة الذين دخلوا في الإسلام، وكان بعض عمال بني أمية لما أعوزهم المال بسبب الحروب واشتعال الثورات، أبقوا الجزية على هؤلاء، فأطلقتَ صيحتك المشهورة رفضًا لهذا الإجراء: “إن الله بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا”.

لقد تبوَّأت مكانة سامقة في تاريخنا الإسلامي لم ينلها إلا الأفذاذ من القادة والفاتحين، والعظماء العباقرة المصلحين ومنذ أن نلت تلك المكانة وانفردت بها لم ينلها أحد البتة إلى وقت كتابة هذه الأسطر..

في سنتين وبضعة أشهر قضيتها خليفة للمسلمين غيرت وجه الأرض في حين أن غيرك من الخلفاء والزعماء والملوك والسلاطين قضوا عشرات السنين دون أن يلتفت إليهم التاريخ أو ينصت لهم الدهر أو يذعن لهم الزمان ؛ أتدري لماذا؟

لأن سنوات حكمهم كانت أصفارا باهتة على الشمال، وكانت فراغًا في تاريخ الأمة، فما رأى الناس تحولا، ولا لمسوا نهوضا..

وهذا يجعلنا نؤمن بأن القادة الكبار يدخلون التاريخ بإنجازاتهم العظيمة التي تغير التاريخ لا بالسنوات التي عاشوها على الكراسي..

لقد كنتَ واحدًا ممن دخلوا التاريخ بإنجازه العظيم ولم تغرك مباهج السلطة وزخارف الملك وصنعت في ثلاثين شهرا ما عجز الخلفاء أن يصنعوه طيلة القرون الماضية منذ أن غادرت هذا الكوكب..

لقد كنت إداريا ناجحا نهض بمسؤوليته وقام بواجبه وواصل الليل بالنهار في سبيل خدمة شعبه وأمته فأحدث تغييرا باهرا وصنع نجاحا عجيبا فأصبح مثالا نادرا وتحفة عجيبة ودرة باهرة وغرة ناصعة في جبين الزمان..

إن العدل الذي اتخذته منهجا في حياتك سببه ولا سبب غيره خوفك من ملك الملوك يوم أن تقف وحيدا بين يديه..

تقول زوجتك فاطمة _ المنبوش قبرها مع قبرك _: والله ما كان_ تعنيك_ بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياماً، ولكن والله ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحَنَّ الناس ولا خليفة لهم".

وقال مكحول: لو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز، ولشدة خوفه من الله، كان غزير الدمع وسريعه، فقد: دخل عليه رجل وبين يديه كانون فيه نار، فقلت: عظني. قال: يا أمير المؤمنين ما ينفعك من دخل الجنة، إذا دخلت أنت النار، وما يضرّك من دخل النار، إذا دخلت أنت الجنة، قال: فبكى عمر حتى انطفئ الكانون الذي بين يديه من دموعه، وقد كان جلّ خوفه ـ رحمه الله ـ من يوم القيامة، فيدعو الله، ويقول: اللهم إن كنت تعلم إني أخاف شيئاً دون القيامة، فلا تؤمن خوفي.."

نعم يا عمر:

ذلك اليوم الذي أحدث تغييراً جذرياً في مجرى حياتك، ذلك اليوم الذي تقول أنت عنه: ".. لقد عنيتم بأمر، لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لتشققت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى أحداهما".

ها نحن نقف أمام ذكراك العطرة وأحاديثك المشجية ونأسف لما حدث ..

إنها فعلة عظيمة وحدث هائل..

إنها وصمة عار في جبين أمتنا ومن يحكمها ويسوس أمرها..

إنه حدث له ما بعده ولا يمكن أن يمر بسلام..

كيف وقد فعلوها؟

كيف وقد نبشوا قبر الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز وذهبوا بجثمانه؟

 

لم يفعلها الصليبيون ولا التتار ولا النصارى ولا الغزاة في كل العصور واكتفى غورو بركل قبر صلاح الدين ولم ينبشه كما فعل غزاة اليوم مع قبر عمر ..

أي زمن نحن فيه؟

أين وصل بأمتنا الانحطاط؟

لم نقرأ استنكارا إلا من دولة باكستان وعلى بقية دول أمتنا الممزقة السلام، ها هي أمتنا تغط في نوم عميق لا تريد أحدا أن يوقظها ومن يوقظها أو يحاول إيقاظها سرعان ما تحكم عليه بالموت..

 


: الأوسمة



التالي
أيُّ المخلوقات خلق أولاً؟
السابق
الصين تلاحق مسلمي الإيغور عبر تطبيق “الصقر الذهبي”

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع