البحث

التفاصيل

سفر المرأة وشرط المحرم في زمننا .. قراءة في النص ومقصوده

الرابط المختصر :

سفر المرأة وشرط المحرم في زمننا .. قراءة في النص ومقصوده

د. فضل مراد

 

عموم الآية (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)

تشمل الرجل والمراة ، وهل يشرط لتكليف المرأة بالحج المحرم للسفر

أقول النص عام مطلق لم يشرط سوى الإستطاعة وهي القدرة على الحج في الجملة وهذا العموم والاطلاق يقابله من جهة حديث إيجاب المحرم لسفرها وهو في الصحيحين

فمن رجح هذا الشرط قال باشتراط المحرم للمرأة في سفر الحج وهذا ما رآه أبو حنيفة فنظر إلى ظاهر النصوص وخص بعضها ببعض وهو نوع من الجمع معتبر

ومن قال لا يشترط المحرم لكن لا تسافر إلا مع أمن الطريق برفقة مأمومنة وهو مالك والشافعي واحمد

فنظروا إلى معنى الحديث ومقصده وعموم الآية

 

وهل يجوز في غير الحج من سفر واجب أن تخرج مع أمن الطريق

الجواب إن كان للهجرة فلا خلاف ، وإن كان لواجب غيره فهل يمكن قياسه على الهجرة مع شرط أمن الطريق

الناظر إلى استثناء الهجرة يرى أنها ضرورة وفي الغالب لا يتوفر المحرم لأن المقصود الفرار بالدين كيفما تيسر فإن شرط عليها المحرم ضيق عليها وعاد بالضرر على دينها

والواجب الوسيلي إن أدى إلى عكس مقصوده ألغي

مثاله المحرم للسفر فمقصوده صيانة المرأة ورعايتها في السفر والأمن عليها

وإن شرطناها في الفارة بدينها أو عرضها كنا قد ألزمناها البقاء في دار الفتنة حتى تجد المحرم

فعرضناها للتفتنة في دينها وعرضها

فأدى طلب المحرم في هذه المسألة إلى عكس مقصوده الشرعي

وانظر إلى الوضوء مثلا فهو وسيلة مفروضة للصلاة ، وله معنى معقول ومعنى تعبدي أما المعقول فهو النظافة ودفع مضار النجاسات والقاذورات عن البدن وهي وسيلة لحفظ البدن من جهة وحفظ الدين من جهة أما البدن فظاهر وأما الدين فلأن إقامته متعلقة بالبدن فإن عجز أو تلف عاد على إقامة الدين بالتأثير السلبي . لهذا كان المؤمن القوي خيرا وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف

أما المعنى التعبدي فلأنه عبادة تتعلق باعضاء معينة لا شأن لها بالحدث فإن الحدث وهو ما ينقض الوضوء ما خرج من أحد السبيلين

وكان القياس والنظر غسل ذلك المكان التي خرجت منه النجاسة فقط

لكن تعدى هذا إلى غسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس

فكان فيه تعبد محض من هذه الجهة .

والتعبد مقصود كما أن التطهر مقصود فهما مقصودان لا يسقط أحدهما الآخر لذلك كان في رأي من غلب المعقولية فأسقط اشتراط النية نظر كثير لأنه أسفط جهة التعبد البتة ..

وأما النظر المقاصدي فالوضوء وسيلة لإقامة التعبد ووسيلة للتطهر والتنظف لدفع الأضرار عن البدن

ولكن إن كان المكلف به جراحات لا يقدر معها على الوضوء سقط

لأنه لو كلف به والحال هذه لعاد على أصل مقصوده بالإبطال لأن له مقصدين من جهة دفع ضرر النجاسات والقاذورات عن البدن ومقصد تعبدي

فلو كلف صاحب الجراحات بالوضوء لأدى إلى الضرر على البدن

وأدى إلى الضرر على التعبد لأن الضرر على البدن ينعكس على القدرة التي هي مناط القيام بالعبادة ..

وانظر إلى التخفيفات التي تلحق بالمريض فإن مقصدها الحفاظ على البدن من جهة والحفاظ على الدين من جهة

والحفاظ على البدن والدين في المرض حالي ومآلي

أما الحالي فإن مشروعية الفطر حال المرض والجلوس في الصلاة والاضطجاع لغير قادر يؤدي إلى الحفاظ على العبادة ودوامها من جهة ويؤدي إلى الحفاظ على البدن حال المرض من المشقات من جهة أخرى ولو عسر عليه الشرع لترك العبادة حال المرض أو التزم بها وألحق ببدنه الضرر

وأما المآلي : فمقصود الشرع إقامة الدين تاما ولا يتم ذلك إلى بتمام القدرة وهي متعلقة بالبدن في الجملة

و البدن في المرض يضعف عن الصيام والقيام في الصلاة

فخفف عنه الشرع حتى يكون عونا له على التعافي للوصول إلى تمام القدرة ليقيم الدين على تمامه ..

 

وبالعودة إلى مسألتنا في المرأة .. فقد راعى الإسلام تكوينها البدني والشعوري الذي هو أضعف من تكوين الرجل وبنيته البدنية والشعورية

وعند الضعف تلحق التخفيفات

لذلك خفف عليها في التكليف كصلاة الجماعة في المسجد و الجهاد و الصوم والصلاة مع الحيض وفرض لها المهر والنفقة الدائمة حتى الموت على وليها حتى تبلغ ثم على زوجها حتى تموت .

وفرض صلتها وسماها رحما، وقدم حقها على الأب إن كانت أما ، وقدمها في قسمة المواريث فجعلها صاحبة فرض تقدم على العصبات حتى لا يعتدي على حقها أحد .

ومع أنها ضعيفة يضعف الرجال أمامها فيؤدي إلى الفتنة و إلى إيذائها أو انتهاك عرضها أو إيذاء المجتمع وفتنته

ففرض الشرع أن لا يخلو بها الأجنبي

وفرض الحجاب لزينتها ومفاتنها على الأجانب دفعا للضرر عنها من جهة ودفعا للضرر المجتمعي من جهة .. (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)

والتكاليف أقسام منها ما يتكرر ولا مشقة عليها من القيام بها كالصلاة في البيت ففرضت عليها إلا مع الحيض

ولكن لما كانت الصلاة في المسجد يتكرر فيها الخروج في الليل أو النهار خفف عنها الطلب لأن الخروج المتكرر مع طلب لباس معين يشق عليها فخفف الشرع عنها صلاة الجماعة

لكن العيد لما كان مرة واحدة كلفت بحضورها ولو استلفت من جلباب جارتها إن لم يكن لها جلباب كما في حديث البخاري ومسلم

لأنه لا مشقة في المرة الواحدة في السنة ..

 

وإنما خفف عنها الجهاد لعظيم مشقته من سفر وتنقل وجلد في التحمل مع أنها مكلفة بلبس معين وألا يخلو بها أجنبي وحاجة القتال إلى شدة وبأس ومواجهة المخاطر وإمكان أن تقع في الأسر

لهذا أسقط الشرع عنها فرض الجهاد لأن القيام به منها يعود عليها بخلاف مقصوده

إذ مقصوده حفظ الدين والعرض وحماية البلاد والعباد فكان التكليف به على المرأة مؤد إلى خلاف مقصوده وغاياته وهدفه ..

كما أنه فرض يمكن انفراد الرجال به ولا يشق على المرأة تركه .

أما ما يشق على المرأة تركه من العاديات ولا يقوم مقامها غيرها كالسفر فلم يمنعها الإسلام منه بل هي كالرجل فيه

ولما كان تكريم ورعاية الإسلام للمرأة ملاحظ في كل تكاليفه

لم يكلفها في الحضر عند خروجها سوى بلباس يستر زينتها وفتنتها دفعا للأذى عنها وعن المجتمع

ولم يشرط مرافقا ولا محرما لأن المخاطر التي تقتضيه داخل المدينة أو القرية منعدمة أو نادرة ويمكن دفعها إن حصلت ..

فلما كان سفرها وحيدة قد يوقعها في مخاطر اللئام ويغري بها النفوس المريضة

طلب الشرع محرما في السفر الطويل يدفع عنها أذى هؤلاء المنحرفين والمرضى واللئام

وحصول المشقة في السفر ظاهرة حتى على الرجل فكيف بالمرأة وفي السفر قد يلم بها مرض أو طاريء فيكون لها من يقوم عليها.

فقصد الشرع أن يوفر لها وسيلة آمنة لخدمتها ففرض المحرم ..

 

فهو فرض وسيلي ، له هدف ومقصد معين فإن أدى اشتراطه إلى أن يعود على المقصود الشرعي بالإخلال أو الإبطال أو إلى مفاسد أكبر

أسقطه الشرع كما في الهجرة فرارا بالدين فإنه لو شرط عليها ذلك لكلفها البقاء بحثا عنه وفي هذا تعريض لدينها وعرضها للفتنة ..

 

وهل يتعدى هذا المعنى إلى كل سفر واجب على المرأة

فتجري فيه هذه الموازنة المقاصدية

الجواب نعم .. إن كان سفر واجب شرعي ضروري

ولعله لهذا النظر اختلفت أقوال الأئمة في اشتراط المحرم للمرأة في سفر الحج

فمن رأى اشتراطه نظر إلى النص وإلى المقصد وهو أن سفر الحج تتخلله المشاق البالغة على المرأة ولا يمكن أن تقوم به منفردة أو مع رفقة لأن الرفقة ولو كانت آمنة لا تقوم على المرأة الأجنبية كمحرمها وفي تكليف الأجانب رعايتها في الحج مشقة عليهم دينية وعادية .

وهذا ما اختاره أبو حنيفة وأحمد

ومن رأى الجواز له أن يقول إن الحج فرض واحد في العمر وإيجاد الرفقة الثقات في الحج والحال هذا ممكن

ورأى أنهم يؤدون المقصود الشرعي مع أنه ليس كالمحرم لكن التفاوت غير مؤثر لأن مقصود الأمن قد حصل . وهذا قول مالك والشافعي ..

 

أقول :وفي هذه الظروف في زمننا وما يعيشه بعض الشعوب من حرب وفتنة يجوز لمن كان مقيما في بلد لا يستطيع الذهاب لمرافقة أهله لاستقدامهم خوافا على نفسه أو لتعذر الخروج ولنحو ذلك أن يرتب لأهله رفقة آمنة من العوائل.

لأن المقصود الشرعي حاصل

وإن لم يكن في وزان الأكمل وهو المحرمية ، ولا يساويه ، لكنه يقيم الأصل وهو الأمن ولو بلا تحسينات ولا وجه كمال ..

والسفر على الطائرة من مطار مباشر إلى مطار مباشر بدون توقف يقوم مقام الرفقة الآمنة في المعنى عند التعذر أو المشقة أو كان تأجيل السفر بحثا عنه سيؤدي على ضرر اكبر

وإنما قلنا عند التعذر

لأن النصوص الشرعية تتضمن مقاصدها ففي العمل بها تحقيق للمقصد على وجه الكمال ..

وإهمال ظاهر النصوص غير جائز إلا لمعارض صحيح فيكون ترك ظاهر النص في حالة الضرورة هو عينه حفاظا على مقصود النص أو مقصود أهم منه ..

أما في غير حالة الضرورة فهو انسلاخ عن التكليف إلى الهوى والمزاج وهذا محرم جاءت الشريعة لمحاربته ...

 

وفي حال تعذر عليها زيارة أبويها لعدم قدرة المحرم على المرافقة وعدم وجود رفقة عائلية آمنة فإن كانت السفر برا سقط طلب صلة زيارة الوالدين .. لأن التكليف به في هذه الحالة ضرر على المرأة والتكليف لا يكون مع الضرر

وإن كان جوا من مطار إلى مطار مباشر فيمكن القول بجوازه في الجملة لأن الفتوى راجعة إلى تحقيق مناطات الأحكام ومقاصدها وهذه تختلف من حالة إلى حالة

ولقائل أن يقول لماذا اختلف التحديد في نصوص السنة ففي نص اشتراط محرم السفر لمسيرة يوم وليلة وفي آخر يومين وفي آخر ثلاث ليال وكلها صحيحة

والجواب فيما أراه أن الشرع أراد الجمع بين ما يسمى سفرا في العرف وهي العلة التي تعلق عليه الرخص من قصر الصلاة ونحوها وبين المقصد من المحرم وهو تحقيق الأمن والرعاية

ولما كانت الأسفار تختلف أمنا وخوفا عدد الشرع التحديد لاختلاف ذلك

ويوم وليلة مقدارها قرابة 85كم إلى المئة وهو ما يسمى سفرا في العرف

ويشرع فيه القصر والجمع والفطر

والمسافة وحدها مع إطلاق اسم السفر كاف في جواز هذه الرخص

لكن المسافة بالنسبة لاشتراط محرم للمرأة ملاحظ معها غيرها وهو توفر الرحلة الآمنة للمرأة فشرط المحرم لأنه يقيم هذا المقصود الشرعي على وجه الكمال والتمام

 

وإذا تكلمنا على السفر بالطائرة ومدى تحقق تلك المقاصد الشرعية نقول إن الطائرة تقطع مسافة يومين أي 200 كيلو خلال ربع ساعة أو نصف

ومع هذه المدة الزمنية القصير فأن رخص السفر كلها جائزة هنا من قصر وفطر لكن هل شرط محرم للمرأة في هذه الحالة مطلوب هنا

أقول والله أعلم إن المحرم قد لا يتحتم طلبه هنا لأن سفر الطائرة في هذا الوقت الوجيز قد لا يظهر فيه معنى السفر الشرعي المشترط له المحرم

وهو مسيرة يوم أو يومين أو ثلاثة

وإنما جازت رخص السفر لأنها منوطة بأمر واحد هو ما يسمى سفرا بخلاف المحرم فهو منوط بأبعد من ذلك لهذا اختلفت روايات تحديد السفر المشترط له المحرم وليس هو اختلاف تضاد بل اختلاف أحوال .

 

ولو سافرت برا على سيارة هذه المسافة كان طلب المحرم متحتما لوجود السفر والمعنى المقصود من المحرم في الغالب ..

 

وعلى هذا فالفتوى في زمننا في اشتراط المحرم في سفر للمرأة على الطائرة يجب أن تبنى على أمرين على اعتبار وجود اسم السفر وعلى اعتبار المعنى لاشتراط المحرم

فلا يطلق فيها فتوى على كل حال ..

ويساعدنا في هذا ما جاء في صحيح البخاري

عن عدي بن حاتم قال بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة قلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا .. قال عدي فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله.

وبالله التوفيق

 

#فضل_مراد


: الأوسمة



التالي
الرسائل الروح " شغف الخلود "
السابق
لقاء الريسوني مع وزير التعليم بولاية ترينجانو الماليزية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع