البحث

التفاصيل

تأملات في آيات القتال(الجزء الثالث)

تأملات في آيات القتال(الجزء الثالث)

د.سيدأحمد هاشمي- عضوالاتحاد

ثالثاً: مناقشة استدلالهم بقوله تعالى: )قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ( [التوبة: 29]

إن هذه الآية كسابقاتها لا تدل علی أن غاية القتال هي حصول الإيمان والتوبة، لعدة أسباب:

أولا: إن الآية أمرت بالقتال لا بالقتل، والفرق كبير بین القتال أوالمقاتلة والقتل، تقول: قتلتُ فلاناً، إذا بدأتَه بالقتل، وتقول: قاتلتُه، إذا قاومت سعيه إلی قتلك بقتل مثله، أو سابقته إلی ذلك كی لاينال منك غرة. وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: "ليس القتال من القتل بسبيل فقد يحل قتال الرجل، ولا يحل قتله"([1])

  1. ثانياً: هذه الآية خاطب المؤمنين بمقاتلة أهل الكتاب الذين هذه أوصافهم، فيجب أن تُفهَم هذه الآية في حدود آيات القتال وإطارها، ولیس بعيداً عنها، لأن آيات القرآن كتلة متماسكة، ولايمكن فهم آية فهماً صحيحاً بمعزل عن نظائرها في القرآن الكريم، ونظائر هذه الآية كثيرة تنصُّ علی أن لانقاتل إلا من يقاتلنا، فيجب أن يُخصص عموم هذه الآية بخصوص قوله تعالی: )وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ([البقرة:190] ونظائرها من الآيات.

ثالثاً: القتال والمقاتلة من باب المفاعلة وهي صيغة تقتضي في الأغلب المشاركة من جانبين أو فريقين في أمر، فهي لاتصدق إلا تعبيراً عن مقاومة لبادئ سبق إلی قصد القتل، فالمقاوم للبادئ هو الذي يسمی مقاتلا، أما البادئ فهو في الحقيقة يُسمَّی قاتلاً، إمّا بالتوجه والهجوم أو بالفعل والتنفيذ. ألا تری أنك تقول: لأقاتلن هؤلاء علی ممتلكاتي أو علی عرضي، فيُفهَم من كلامك أنك عازم علی مجابهة العدوان منهم علی مالك أو عرضك.([2])

فالقتال هنا في الآية لیس من جهة المسلمين ابتداء، بل هو قتال من يشاركنا في القتال ویقاتلنا ابتداء.

رابعاً: لقد جعل الله الغاية في الأمر بالقتال الخضوع لنظام الجزية، ولو كانت القتال من أجل الكفر كما قالوا، لما قام الخضوغ لنظام الجزية مقام الإسلام، ولو كان حصول الإيمان والتوبة غاية القتال مع أهل الكتاب، كان ينبغي أن تكون خطاب الآية هكذا: )قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة(.

إذن فما هي المشكلة التي أنهاها الجزية، حتی انتهی بسبب ذلك القتال؟

إنها مشكلة واحدة، وهي مشكلة الحرابة، فوجود الحرابة هو المبرر للقتال، وانتهاؤها بالاتفاق علی نظام الجزية هو الذي أنهی الحرابة ومدَّ رواق السلم.

رابعاً: مناقشة استدلالهم بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»

ما قلناه في الآية 29 من سورة التوبة یصدق علی هذ الحديث، ولكن إضافة إلی ذلك أقول:

قد يظن القارئ لأول وهلة أن الحديث يدلّ صراحة علی أن الرسول مأمور بقتال كل الناس لإكراههم علی الإسلام، لأنه جاء بصيغة: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى...»

وقد ذهب بعض الفقهاء أبعد من ذلك، واستدلوا بهذا الحديث علی قتل تارك الصلاة، وقد استبعد ابن حجر رحمه الله هذا الرأي وقال: «وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل، والله أعلم. وقد أطنب بن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك وقال: "لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعله تستلزم وقوع القتال من الجانبين، والقتل ليس كذلك"»[3]

فإذا كان الاستدلال بهذا الحديث علی قتل تارك الصلاة باطلاً- كما یقول بن حجر وغیره- فكیف یصح الاستدلال بالحديث ذاته علی قتل من أبی الدخول في الإسلام؟ مع أن تارك الصلاة عمداً يتحمل عهدة التكليف بمقتضی كونه مسلماً، كما يتحمل عهدة الإذعان لعقوبات الحدود، أما غير المسلم فلا يتحمل عهدة أي شيء من ذلك.[4]

وللإمام ابن تيمية تعليق جميل علی هذا الحديث، قال رحمه الله:«والمعنی أني لم أؤمر بالقتال إلا إلی هذه الغاية، وليس المراد: أني أمرت أن أقاتل كل أحد إلی هذه الغاية، فإن هذا خلاف النص والإجماع، فإنه r لم يفعل هذا قط، بل كان من سيرته: أن من سالمه لم یقاتله»[5]

ومعنی كلام شيخ الإسلام هنا في غاية القوة والبيان: «أنه مأمور أن يقاتل من يستحق القتال لحربه وعدوانه علی المسلمين إلی هذه الغاية، وهي: الدخول في الإسلام بالنطق بالشهادتين. فليس في الحديث دلالة علی أنه مأمور بقتال كل الناس حتی يسلموا، بل هو مأمور بقتال الذين يقاتلون إلی هذه الغاية.»[6]

ومن هنا يجب أن يُفهَم الحديث ويؤوَّل في ظل القواعد الكلية التي أرساها القرآن الكريم في مقاتلة الكفار، وهي مقاتلة من يقاتلنا، فتأويل الحديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَنِي حَتَّى...الخ».

بم تتحقق الحرابة؟

قد يسبق إلی الذهن ما يتخيله بعض الباحثين، من أن الحرابة لاتتحقق إلا بوقوع عدوان فعلي، والأمر ليس كذلك، لأن الحرابة ليست محصورة في وقوع عدوان فِعليٍّ علی المسلمين، بل الحرابة تنشأ مع ظهور قصد عدواني، ويتجلی قصد العدوان بدلائله المتنوعة الكثيرة، فإذا ظهر هذا القصد بظهور دلائله، فقد تحقق معنی الحرابة، التي هي مناط الجهاد القتالي.

فمن هذا المنطلق تتحقق الحرابة بأحد الأمرين:

  1. عدوان فعلي
  2. ظهور قصد العدوان

فإذا تبين ذلك، فمتی یملك المسلمون حق الجهاد القتالي ضد من قد تجلی لدیهم قصد العدوان من خلال أدلة بينة ثابتة؟ أفمن حقهم أن یباغتوهم بالقتال بمجرد ظهور هذا القصد مقرونا بدلائله، أم إن عليهم أن ينتظروا حتی يتجاوزوا القصد إلی التخطيط ثم إلی الهجوم الفعلي؟

و من المعلوم أن ظهور القصد العدواني يكفي لإعطاء المسلمين حق التصدي بل الهجوم، علی من بيَّتوا في أنفسهم هذا القصد، شريطة أن تستبين دلائله.

وهذا ما كان رسول الله یفعله في كثیر من الأحیان، يسابق بذلك كید المشركین ومن معهم كي یُفوِّت عليهم الفرصة، وهي ما تُسمَّی في العصر الحاضر بـ«الحرب الوقائية».

أنواع الجهاد: من المعروف عند الفقهاء أن الجهاد ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: جهاد الطلب أو الجهاد الإبتدائي، وهو أن يكون العدو في أرضه، ونحن الذين نطلبه.

القسم الثاني: جهاد الدفع أو الجهاد الدفاعي: وهو ماكان لدرء الحرابة وكف العدوان.

من هذا المنطلق يجب أن نفهم جهاد الطلب أو الجهاد الابتدایي في هذا السیاق، فليس معنی جهاد الطلب أو الجهاد الإبتدائي أن نبدأ الكفار بالقتال، وإن لم يبدؤونا بالقتال.

غزوات الرسول r لم تكن حروباً ابتدائية بالمعنى المعهود

لو قمنا باستقراء غزوات الرسول r (25 أو 27 غزوة) لانكاد نجد غزوة كانت ابتدائیاً بالمعنی المعهود، أو كان الهدف منها إكراه الناس علی الإسلام، ولم تخرج حروبه e كلها  عن ذلك لمن تدبر السيرة وأمعن النظر في حروبه وغزواته e، وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء في هذه المسألة.

انظر تفاصیل ذلك في الجدول التالي:

 


[1] - بن حجر؛ أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، د.ط، 1379ﻫ، 1/76

[2] - انظر: البوطي؛ سعيد رمضان، الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟، ص 59

[3] - بن حجر؛ المصدر نفسه، والصفحة نفسها

[4] - انظر: البوطي؛ سعيد رمضان، الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟، ص 61

[5] - انظر: ابن تيمية؛ تقي الدين أبوالعَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد الحراني الحنبلي الدمشقي (ت728ﻫ) قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم، تحقیق: عبدالعزيز بن عبدالله بن إبراهیم الزير آل أحمد، الرياض، ط/1، 1425= 2004م- صص95-96

[6] - انظر: القرضاوي؛ يوسف، فقه الجهاد، القاهرة، مكتبة وهبة، ط/4، 1435ﻫ-2014م، 1/356


: الأوسمة



السابق
العلوم الشرعية بين المدارسة والممارسة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع