البحث

التفاصيل

أدلة وجود الله .... دليل الفطرة والعهد

أدلة وجود الله .... دليل الفطرة والعهد

د. علي محمد الصلابي

 

إنّ معرفة الخالق والإقرارَ بوجودِه تبارك وتعالى وربوبيته أمرٌ بدهي مغروسٌ في نفوس الناس وفطرهم، إذ لو تُرِكَ الإنسانُ في مكانٍ خالٍ لا يوجدُ فيه أحدٌ، بعيداً عن كل المؤثّرات الخارجية، وعن كلِّ الشوائب العقدية، لاستطاعَ بفطرته أن يعرفَ أنَّ لهذا الكونِ خالقاً مدبِّراً ومتصرِّفاً، ثم بفطرته يتوجَّه لمحبّةِ خالقِهِ. ومن هنا نعلمُ أنَّ مَنْ أنكرَ وجودَ الخالقَ جلَّ جلاله من الملحدين إنّما أُتوا من انحرافِ فطرهم، ومن تأثيرِ الشياطين عليهم، وتلاعبهم بهم.

ودليلُ الفطرة هذا دلَّ عليه القرآن الكريمُ والسنةُ النبويةُ المطهرة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة الروم: 30]. فالمقصود بالفطرة هنا الإسلام، فالله جل جلاله فطر الناسَ على دين الإسلامِ والتوحيد . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما مِنْ مولودٍ إلا يولدُ على الِفْطَرِة، فأبواه يهوّدانِهِ، أو ينصّرانِهِ أو يمجَّسانِهِ، كما تُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء، هل تحسّون فيها مِنْ جَدْعاء؟) . وفي الحديث القدسي: (يقول تبارك وتعالى: إنّي خَلَقتُ عبادِي حنفاء كلَّهم، وإنّهم أتتهم الشياطينُ فاجْتالَتهُم عن دينهم) . ومعنى "حنفاء" أي: مائلينَ عن الأديانِ كلِّها إلى دين الإسلام . ومعنى "اجتالتهم": استخفّتهم، فجالوا معهم في الضلال .

ومن أجل أهميّةِ الفطرةِ في دلالةِ الناسِ على ربّهم وتعريفهم به كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبحَ أو أمسى يقرِّرُ أنه يُصْبِحُ ويُمْسِي على هذه الفطرةِ، فطرةِ الإسلامِ، وأنّها لم تتأثَّرْ بالمؤثِّرات والعوارض الخارجية من نزغات الشياطينِ ووساوسهم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يقولُ إذا أصبحَ وإذا أمسى: (أصبحنا -أو أمسينا- على فطرةِ الإسلامِ، وعلى كلمةِ الإخلاصِ، وعلى دينِ نبيّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى ملّةِ أبينا إبراهيم، حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) .

فقد أكّد سلامة الفطرة من الانحراف بقوله: (وعلى كلَمِة الإخلاص)، وهي شهادة "أن لا إله إلا الله". وبقوله: (وعلى دينِ نبيِنّا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وهو الدين الإسلامي، وبقوله: (وعلى مِلّةِ أبينا إبراهيمَ حنيفاً مسلماً) أي مائلاً عن كلِّ ما يخالِفُ هذه الفطرة من الأديان والعقائد الفاسدة، التي تنكِرُ الربَّ سبحانه وتعالى، أو تزعمُ أنَّ معه شريكاً في مُلْكِهِ أو عبوديتِهِ إلى الإسلام الخالص، فإذا حقَّقَ توحيدَ الألوهية "توحيد العبادة" كان توحيدُ الربوبية محقّقاً؛ لأنَّ توحيدَ الألوهية يتضمَّنُ توحيدَ الربوبية، وبذلك تكونُ الفطرةُ قد دلّت على توحيدِ الربوبية .

وهذه الفطرةُ التي فطرَ الله عليها عبادَه لها صلةٌ وارتباطٌ وثيق بالعهد الذي أخذه سبحانه وتعالى على بني آدم وهم في عالم الذَّرِّ، كما أشار الله بقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [سورة الأعراف: 172-173].

فهذا العهدُ والميثاقُ الذي أخذه الله جل جلاله على الناس مضمونُه الاعترافُ والإقرارُ بربوبيته، وأشهدَهم على أنفسِهم فشهدوا. فمنَ الناس مَنْ حافظ على ذلك العهد، وقام بمقتضاه ولازِمه؛ من عبادة ربه وحده لا شريك له، وتوحيده، وصَدّقَ رسلَ اللهِ، وآمن بهم وبما جاؤوا به. ومن الناس من تغيَّرثْ فطرتُه وانحرفت، واجتالته الشياطين -والعياذ بالله- فنسيَ ما شهدَ عليه، وما جُبِلَ عليه من الإقرار بربوبية الله عز وجل، فوقع في الكفر والإلحاد، مع أنَّ الله سبحانه لم يتركْ عبادَه سدىً، بل أرسل لهم الرسلَ، وأنزل معهم الكتبَ، ليُذكِّروا الناس بهذا الإشهاد وهذا العهد والميثاق، ولكي يبقى المسلمُ متذكِّراً هذا العهد الذي أخذه الله عليه في عالم الذَّرِّ، فقد علّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ذِكْراً يقولونه في الصباحِ والمساءِ، ففي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (سيّدُ الاستغفارِ أنْ يقولَ العبدُ: اللهمَّ أنتَ ربي لا إلهَ إلاّ أنتَ، خلقتَني وأنا عبدُكَ، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما استطعتُ، أعوذُ بكَ مِنْ شَرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمكَ عليَّ، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي إنَّه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت) .

فقوله: (وأنا على عهدِكَ): أي ما عاهدتُكَ عليه من الإيمان بِكَ، والإقرارِ بوحدانيَّتِكَ، لا أزولُ عنه ، قال ابن حجر: وقال ابن بطال: قوله: (وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ) يريدُ العهدَ الذي أخذَه الله على عبادِه، حيثُ أخرجَهم أمثالَ الذَّرِّ وأشهدهم على أنفسِهم: ألستُ بربكم؟ فأقرّوا له بالربوبية، وأذعنوا ليه بالوحدانية، و"بالوعدِ" ما قاله على لسان نبيه ، فهذا الذكرُ العظيمُ مَن داومَ عليه يومياً ولازمَه حفِظَ نفسه -بإذن الله- من انحرافِ فطرتِه، وتغيّرها، ووفّى بعهدِهِ الذي بينه وبين ربه.

 

المراجع:

 

أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط 2، 1964، 20/144.

 

علي محمد الصلابي، مسودة كتاب قصة الخلق وآدم عليه السلام، جذور الحضارة الإنسانية الأولى.

 

محمد بن أحمد السفاريني، نتائج الأفكار في شرح حديث الاستغفار، تحقيق عبد العزيز الهبدان وعبد العزيز الدخيل، دار الصميعي، ط 1، 1996، ص 240.

 

مجد الدين أبو السعادات ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، (جول)، المكتبة العلمية، بيروت، 1979، 1/317.


: الأوسمة



التالي
خيرون ولكن …
السابق
تأملات في آيات القتال (الجزء الثاني)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع