البحث

التفاصيل

تأملات في آيات القتال (الجزء الثاني)

تأملات في آيات القتال (الجزء الثاني)

د. سيد أحمد هاشمي- عضو الاتحاد

مناقشة الأدلة:

نناقش أولاً أدلة الفريق الثاني من الكتاب ثم من السنة:

اولاً: مناقشة استدلالهم بقوله تعالى: )وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكونَ فِتْنَةٌ......الآية(

تعريف الفتنة عند اللغويين:

وعندما نرجع إلی كتب اللغة للبحث عن تعريف الفتنة نجد ما يلي: الفاء والتاء والنون أصل صحيح يدل على ابتلاء واختبار، من ذلك الفتنة، وأصله عرض الذهب على النار لتبين صلاحه من فساده، تقول: فَتَنْتُ الذهبَ، إذا أدخلتَه النار لتنظر ما جودته، ومنه قوله تعالى:)يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يَفْتَنُوْنَ(.[1]

وبالنظر إلی مجمل تعاريف الفتنة عند اللغويين يمكننا أن نُعرِّفَ الفتنة كما يلي: «كل شئ من شأنه أن يضع الإنسان موضع الامتحان والاختبار ويؤثر سلباً على دينه وعقيدته»

المقصود من الفتنة عند المفسرين:

وعندما نرجع إلی كتب التفسير نجد أن المفسرين فسروا «الفتنة» بالكفر والشرك، وفسروها بفتنة المؤمن عن دينه، كما فسروها بالشرك وما تابعه من أذى المؤمنين[2].

ويرى الباحث أنه لا تعارض بين ما قاله المفسرون رحمهم الله في تفسير الآية، حيث أن بعضهم نظر إلی أصل المعنی وفسَّرها باختبار المؤمن عن دينه، ونظر البعض إلی مآل الفتنة وفسرها بالكفر والشرك، وبعضهم نظر إلى كلا المعنيين وفسرها بالشرك وما تابعه من أذى المؤمنين.

فلابأس أن تُفَسَّر الفتنة بالكفر والشرك إذا أريد بهما مآل الفتنة في الدين، ولكن المشكلة تبدأ عندما تُفَسَّر الفتنة بالكفر والشرك، تم تُرَتَّب عليه قاعدة: «الجهاد فرض كفاية ابتداء وإن لم يبدأنا الكفار بالقتال»

تقسيم الفتنة في القرآن الكريم

والفتنة باعتبار الجهة التي تصدر منها، تنقسم إلی ثلاثة أقسام: فتنة الله وفتنة الناس وفتنة الشيطان.

 ثم إن كلّاً من فتنة الله وفتنة الناس تنقسم إلی الفتنة الناعمة والفتنة القاسية، وأما فتنة الشيطان فليس إلا ناعماً من خلال الإغواء والإغراء والتزيين؛ كما قال تعالی: )قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ( [الحجر:39]

فالفتنة إذن تنقسم إلی خمسة أقسام:

  1. فتنة الله الناعمة، ومثالها: فتنة المال والأولاد والأزواج وزخارف الدنیا.
  2. فتنة الله القاسية ومثالها: فتنة الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات.
  3. فتنة الناس الناعمة، ومثالها: فتنة التطميع بالمال والجاه والنساء وما شابه ذلك.
  4.  فتنة الناس القاسية، ومثالها: الإكراه والاضطهاد والتعذيب والتجويع والحصار الاقتصادي
  5. فتنة الشيطان، وهي فتنة ناعمة من خلال الإغراء والتزيين والإغواء، ومثالها قوله تعالى: )يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ...الآية( [الأعراف: 27]

وقد عبر القرآن الكريم عن الفتنة الناعمة والفتنة القاسية بقوله:

 )وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ([الأنبياء:35]

ولقد عدَّ القرآن الكريم الأموال والأولاد والأزواج وزهرة عاجل الدنيا ونضرتها من الفتن الناعمة وحذرنا منه في قوله تعالی:)وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكمْ وَأَوْلاَدُكمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ( [الأنفال:28] وقوله تعالی: )إِنَّمَا أَمْوَالُكمْ وَأَوْلَادُكمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ( [التغابن:15] وقوله تعالی:)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكمْ وَأَوْلَادِكمْ عَدُوّاً لَّكمْ فَاحْذَرُوهُمْ ...الآية( [التغابن:14] وقوله تعالی:)وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى( [طه:131]

وسُمِّيَت الأموال والأولاد والأزواج فتنة، لأن بإمكانها أن تفتن الإنسان عن إيمانه، وتؤثر سلباً علی دينه وعقيدته.

المقصود بالفتنة في قوله تعالى:)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكونَ فِتْنَةٌ(

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هو المقصود بالفتنة في قوله تعالی:)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكونَ فِتْنَةٌ(؟ هل المقصود من الآية، مقاتلة جميع أنواع الفِتَن، فتنة الله وفتنة الناس، الناعمة منها والقاسية؟ وهل نحن مأمورون بمقاتلة كل أنواع الفتنة؟

لا شك أننا مأمورون شرعاً بدرء الفتنة ومقاومتها، والتخفیف من حدتها، والحد من وطأتها ما استطعنا إلی ذلك سبیلاً، ولكن لا يعني أن یكون ذلك بالقتال، إذ يلزم منه مقاتلة الأموال والأولاد والأزواج وكل نعيم الدنيا.

وإذا انتفی ذلك، فمراد الآية: القضاء علی الفتنة القاسية التي تصدر من البشر، وذلك بالقرينة اللفظية، وهي قوله تعالی: )وَقَاتِلُوهُمْ( حيث أن خطاب المقاتلة موجه إلی الكفار، وهم الذین يضعون المؤمنين تحت الضغط والإيذاء والتعذيب لردهم عن دينهم وعقيدتهم.

والفتنة بهذا المعنی استعملت كثيراً في القرآن الكريم وفي مواضع شتّی، منها:

قوله تعالی:)فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ 83وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ84فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ85( [يونس:83-84-85]

وقوله تعالی:)ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ( [النحل:110]

وقوله تعالی:)أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 3 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ4( [العنكبوت:3-4]

وقوله تعالی:)وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...الآية([العنكبوت:10]

وقوله تعالی:)إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ( [البروج:10]

وبما أن المشركين كانت غايتهم من قتال المسلمين ردّهم عن دينهم، كما قال تعالی: )... وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ...الآية([البقرة:217] فمن الطبيعي أن تكون غاية القتال عند المسلمين التصدي لهذا العدوان ودفع الفتنة من باب المقابلة بالمثل.

وبعبارة أخری:

المقدمة الأولی:)وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ( بصيغة الاستمرار.

المقدمة الثانية:)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكونَ فِتْنَةٌ (بصيغة الأمر.

فالفِتْنَةٌ = يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ

النتيجة: فَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ.

فالقتال إذن شُرِعَ -ضمن ما شُرع- للتَّصدي لردِّ المسلمين عن دينهم ولإزالة هذه النوعية من الفتنة (وهي نوع من الحرابة)، وذلك بغرض تهيئة مناخ آمن للحرية الدينية للمؤمنين، يمارسون فيها شعائرهم الدينية، ويزاولون فيها عباداتهم دون أدنی خوف أو وجل، مصداقاً لقوله تعالی:)...وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...الآية([النور:55]

وبناء علی هذا، فلايسوغ أن يكون المراد من الفتنة في قوله تعالی:)وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكونَ فِتْنَةٌ( الكفر والشرك لسببين:

  1. لاشك أن إزالة الكفر والشرك ومكافحتهما مطلوب شرعاً، حيث كانت إقامة التوحيد ومكافحة الشرك والكفر من ضمن رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن أن تتم مكافحة الكفر والشرك مبدئياً بالقتال، فهذا شيء لايمكن قبوله، لأننا عندما نضع المشرك أمام خيارين: الإسلام أو القتال، فهو تحت ظروف الإكراه ليس له إلا أن يعتنق الإسلام رغما عن أنفه، أويجازف بحياته و يقاتل، وفي هذه الحالة إن هو قاتل وقُتِل، فدمه وحياته مهدورة، وإن قاتل ولم يُقتَل، ثم ظفرنا عليه، فليس أمامه إلا الإسلام أو القتل، ولو سلمنا أنه أسلم تفادياً للقتل، فما قيمة هذا الإسلام الذي يتم تحت الضغط والإكراه الملجئ؟[3]

إن الفقهاء متفقون على اعتبار الإكراه الملجئ وأنه لايترتب عليه شيء، فالإكراه بالقتل أو القطع أو الجرح أو الضرب المفضي إلى شيء من ذلك؛ لا خلاف على اعتباره وترتيب آثاره عليه، عند أهل العلم، فيسقط التبعة عن الأقوال، كما يسقط التبعة عن كثير من الأعمال.

ولكن يبدو أن البعض يطبقون هذه القاعدة علی من كفر مُرغَماً، ولا يطبقونها علی من أسلم مُرغَماً، وهذا يعتبر نوعاً من التناقض، إذ كيف يكون إسلام الكافر معتبراً تحت الإكراه، بينما لايكون كفر المسلم معتبراً تحت الإكراه؟

  1. قلنا أن إزالة الكفر والشرك ومكافحتهما مطلوب شرعاً، ونحن نستطيع أن نحدَّ من وطأة الكفر والشرك، ولكن لايمكننا أن نقضي علی الكفر والشرك نهائياً، لأنه يتصادم مع مشيئة الله الكونية أو القدرية في خلق الكفر والإيمان لقوله تعالی:)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ( [التغابن:2] كما أن الأشياء تُعرَف بأضدادها، ولا معنی للإسلام إلا إذا كان هناك كفر وشرك.

وبطبيعة الحال فوجود سُنن أو نواميس في الكون لا ينفي وجود حرية في التصرف بالتأثير على الأشياء، هناك بالفعل مرض وفقر وبلاء، لكن هذا لا يعني أن نستسلم للمرض والفقر، بل يمكن أن نجد مثلاً أدوية لعلاج بعض الأمراض، أو نضع قوانين بالتوزيع العادل للثروات والتخفيف من عبء الفوارق الاجتماعية للحدِّ من الفقر.  

ثانياً: مناقشة استدلالهم بقوله تعالى:  )فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( [التوبة:5]

إن هذه الآية لا تدل علی أن غاية القتال هي حصول الإيمان والتوبة كما تبدو لأول وهلة، لعدة أسباب:

  1. إن الآية تتحدث عن فريق خاص من المشركين، وهُمُ الذين نقضوا العهد ونكثوا الأيمان، و بدؤوا بالحرب أول مرة، ولايرقبون في مؤمن إلّاً ولاذمة، وليس المقصود بها كل المشركين علی العموم باتفاق العلماء، فيجب الانتباه.
  2. لو كانت غاية القتال حصول الإيمان والتوبة، كان من المفترض أن تكون خطاب الآية هكذا: )فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ حَتَّى يَتُوْبُواْ وَيُقِيْمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ ....( بـ«حتَّی» الغائية، والآية ليست كذلك، فسبحان الله العليم الحكيم.
  3. إن الآية لم تجعل غاية قتال المشركين حصول الإيمان والتوبة، بل يبدو أنها جاءت في جواب سؤال مقدَّر تقديره: بعد هذا الأمر الإلهي، لو ظفرنا علی المشركين، فتابوا وأسلموا وأَقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة، فماذا نفعل بهم؟ الجواب: )فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(
  4. عندما يقرأ القارئ هذه الآية قد يُخَيَّل إليه أن غاية القتال هي حصول الإيمان والتوبة، ولكنه ما يلبث أن يقرأ الآيات التي جاءت بعد هذه الآية، حتی يفهم منها بوضوح نقيض المعنی الذي فهمه الشافعية والظاهرية من الآية التي قبلها، ويتكرر هذا المعنی ثلاث مرات ليكذِّب الادعاء القائل بأن غاية القتال حصول الإيمان والتوبة:

المرة الأولی في قوله تعالی:)وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ 6([التوبة:6]

لو كان الكفر هو السبب الدافع علی قتلهم، هل یجوز لنا بعد ذلك أن نعاملهم بهذه الرعاية والحماية الكريمتين وهم مصرون علی شركهم كفرهم؟ إنَّ تلبسهم بالكفر یكفي مبررا لقتلهم كوثيقة إجرام تلاحقهم ولا تنفك عنهم.

ولو كان هناك مبرِّرا لإمهالهم حتی یسمعوا كلام الله أملاً في هدايتهم، فليس ثمة أي مبرر لاصطحابهم مكرَّمين تحت درع من الحماية، لیعودو من حیث عادوا، مشركین جاحدين.

فلماذا هذه الرعاية والحماية لهم والرحمة بهم؟

السبب هو التخلي عن الحرابة والجنوح للسلم والمسالمة وليس التخلي عن الشرك.

المرة الثانية في قوله تعالی:)كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 7( [التوبة:7]

هنا یأمرنا خطاب الله صراحة أن نستقيم في برِّنا بهم ما استقاموا في برِّهم لنا، ويأتي هذا الأمر بعد آية السيف مباشرة، وهذا یعني أن الحكم باستمرار شرعية هذه المعاهدة إنما هو بخطاب جديد، وليس بمقتضی استمرار الحكم السابق الذي يقولون بأنه منسوخ.  

لو كان الكفر في حد ذاته موجبا للقتال، هل تسوغ لنا معاهدة من أمرنا الله بقتالهم؟ وإذا فرضنا أن المعاهدة تمت قبل نزول آية السيف، أليس من البدهي أن تكون آية السيف إعلاناً لإنهاء لهذه المعاهدة؟

المرة الثالثة في قوله تعالی:)وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ 12 أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 13([التوبة:12-13]

جعلت هاتين الآيتين نكث الأيمان، والطعن في الدين، وإخراج الرسول، والبدء بالقتال أول مرة، مبرِّراً لقتال المشركين، فلو كان السبب في قتال المشركين هو الكفر بحد ذاته، إذن لما ورد شيء من هذا الكلام قط، إذ سیَّان بعد الكفر الذي هو علة القتال، أن يكون المشركون أمناء علی عهدهم أو ناقضين له، طعنوا في الدين أم لم يطعنوا، أخرجوا الرسول أم لم يُخرجوا، بدؤوا بالقتال أم لم يبدؤوا، فالكفر وحده كاف علة لقتالهم.

ثم كیف يُعقَل أن تكون هذه الآیات منسوخة وهي متأخرة عن آية السيف؟ كما قاله الفريق الثاني.

فهذه شواهد ثلاثة، ينطق كل منها بأوضح بيان بأن العلة هي الحرابة والغدر، لا الكفر والشرك.

 


[1] - انظر: معجم مقاييس اللغة4/472، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية6/2175، الفروق اللغوية، ص217

[2] - انظر علی سبيل المثال: تفسير بن عطية، تفسير الطبري، تفسير

[3] - الإكراه نوعان: الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ، أما الإكراه الملجئ؛ فهو ما يعدم الرضا ويفسد الاختيار، وهو الإكراه التام الذي يجعل المكرَه كالآلة في يد المكرِه، ويكون بما يعرض النفس أو أحد الأعضاء للتلف، ويلحق به الضرب الشديد المفضي إلى إزهاق الروح، وإتلاف أحد الأعضاء.

وأما الإكراه غير الملجئ؛ فهو الذي يعدم الرضا ولا يذهب الاختيار، وهو الإكراه الناقص، ويكون بالتهديد بالحبس والقيد، وبالضرب غير المبرح، وإتلاف بعض المال ونحوه.(انظر:الثوابت والمتغيرات، صلاح الصاوي)


: الأوسمة



التالي
أدلة وجود الله .... دليل الفطرة والعهد
السابق
الغزالي امتاز بمقاومته القوية للانحراف الفكري

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع