البحث

التفاصيل

وثيقة المدينة المنورة مرحلة تأسيسية حضارية:

الرابط المختصر :

وثيقة المدينة المنورة مرحلة تأسيسية حضارية:

بقلم: د. علي محمد الصلابي 

 

تشكل «وثيقة المدينة»، العقد الاجتماعي الأول في تاريخ المسلمين وحتى في تاريخ البشرية، والتي شكلت إحدى أهم مرتكزات دولة النبوة، وقد صرحت المصادر بأن «الوثيقة» تمت أول قدوم الرسول  إلى المدينة، وألحقت كل قوم بحلفائهم، قال الواقدي: «لما قدم رسول الله  المدينة وادعته يهودها كلها، وكتب بينه وبينها كتاباً، وألحق رسول الله كل قوم بحلفائهم، وجعل بينه وبينهم أماناً، وشرط عليهم شروطاً، فكان فيما شرط ألا يُظاهروا عليه عدواً، فلما أصاب رسول الله أصحاب بدر وقدم المدينة بغت يهود وقطعت ما بينها وبين رسول الله من العهد». صرح الواقدي بأن «الصحيفة» كانت بين سكان المدينة قبل بدر، يتضح ذلك جلياً من خلال الأحلاف التي كانت قائمة قبل مجيء الرسول  إليهم فأقرهم على أحلافهم، وهذا ما يجعلنا نؤكد بأنها تمت بين الجميع.

يقول البلاذري (ت 276 هـ): «إن رسول الله  لما قدم المدينة، وادعته يهودها كلها، وكتب بينه وبينهم كتاباً، فلما أصاب  أصحاب بدر وقدم المدينة سالماً غانماً موفوراً، بغت وقطعت العهد». وهكذا أكد البلاذري أن موادعـة الرسـول  لليهود كانت قبل غزوة بدر، ولكنه لم يذكر «الوثيقة» التي توضح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم سواء قبل بدر أو بعدها، ولا نظن أنه قد أهمل ذكرها، وإنما يغلب الظن أنه خص بالذكر موادعة اليهود من «الوثيقة». وهذا ما سـار عليه أبو جعفر الطبري (ت 310هـ) إذ يقول: «ثم أقام رسول الله بالمدينة منصرفه من بدر، وكان قد وادع حين قدم المدينة يهودها، على ألا يعينوا عليه أحداً، وأنه إن دهمه بها عدو نصروه، فلما قتل رسول الله من قتل ببدر من مشركي قريش أظهروا له الحسد وقالوا: لم يلق محمد من يحسـن القتال، ولو لقينا لاقى عندنا قتالا لا يشبهه قتال أحد، وأظهروا نقض العهد». 

نلاحظ أن الطبري يتفق مع البلاذري في مناسبة ذكر موادعة اليهود وهي عودة النبي من موقعة بدر غانماً وظهور غدر اليهود بنقضهم العهد، وهو ما يسـتوجب تخصـيص ذكر من أحدث وغير ما تم الاتفاق عليه وما ترتب عن ذلك من أخطـار هـددت أمن المجتمع المديني ووحدته. 

وقد اهتمت المراجع الحديثة والمعاصرة في دراسة «الوثيقة» من ناحيتها التاريخية، فقد اختلفت آراء المؤرخين المسلمين والمستشرقين حول تاريخية «الوثيقة» ووحدتها، فمنهم القائل بأنها وضعت غداة وصول الرسول  إلى المدينة، فكانت بمثابة أول دستور وضع في الإسلام، يعيش في ظله المسلمون وأهل الكتاب على السواء. ومنهم القائل: بأن النبي  وضع دستوراً ينظم الحياة العامة في المدينة ويحدد العلاقات بينها وبين جيرانها قبل انصرام العام الأول للهجرة، أي قبل موقعه بدر.. ويؤكد أحمد إبراهيم الشريف أن «الوثيقة» كتبت قبل بدر قائلاً: «ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هـذه الدولة الإسلامية، فإنما تقوم الدول أولا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور، ولكن النبي ما كاد يستقر في المدينة وما كاد العام الأول من هـجرته إليها ينتهي حتى كتب هـذه «الصحيفة» التي جعل طرفها الأول المهاجرين، والطرف الثاني الأنصار، وهم الأوس والخزرج، والطرف الثالث اليهود من أهل يثرب».

أما الفريق الثالث فهو صاحب الرأي القائل بأن «الوثيقة» في الأصل وثيقتان إحداهما تتعلق بموادعة اليهود كتبت قبل بدر أول قدوم النبي  إلى المدينة، والثانية توضح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم وكتبت بعد موقعة بدر الكبرى لكن المؤرخين جمعوا بين الوثيقتين.

أما آراء المؤرخين المستشرقين حول تاريخ وضع «الصحيفة» ووحدتها فقد ذهب بعضهم أمثال فلهاوزن وولفنسون وكايتاني إلى أنها وضعت قبل بدر. ويذهب بعض آخر من المستشرقين كـ «مونتجومرى واط» إلى القول: بأن «الوثيقة» تعود في شكلها الحاضر إلى عام 627 م وهو العام الذي انتهى فيه إبعاد أو تصفية القبائل اليهودية الرئيسية الثلاث (قينقاع، النضير وقريظة).

وأيا ما كانت الآراء حول تاريخية «الوثيقة»، فإن المصادر الإسلامية التي رجعنا إليها والتي أوردت «الصحيفة» كاملة أو نتفاً منها، شبه مجمعة على أنها تخص المهاجرين والأنصار وموادعة يهود المدينة بعد هـجرته  إلى المدينة، وقبل موقعة بدر الكبرى.

وعلى الأرجح بأن «الوثيقة» قد كتبت بعد الهجرة وقبل موقعة بدر الكبرى، وأنها شملت القبائل العربية واليهودية كلها، التي ورد ذكرها على هـيئة بطون بما يتوافق مع تركيبة القبيلة العربية وأحلافها؛ لأن القبيلة اسم عام ينضوي تحته عدة طوائف لكل طائفة الحق في عقد الأحلاف مع البطون الأخرى بمعزل عن القبيلة الأم.

 

ثانياً: بنود الوثيقة النبوية على ضوء نصوص وتعاليم الكتاب والسنة:

أسس النبي الكريم  عقداً سياسياً واجتماعياً لم يسبقه إليها نبي ولا مصلح ولا مليك. ولكن هل كانت تلك الوثيقة متوافقة مع ظرفية المرحلة أم أنها كانت متوافقة في بنودها مع نصوص الكتاب والسنة النبوية؟

ولكي نجيب على السؤال: فإن الوثيقة اتفقت في مبادئها وأصولها مع المبادئ والأصول العامة والأساسية التي جاء بها الشرع جملة وتفصيلاً. وأهم تلك المضامين الاجتماعية والقانونية والعَقدية: 

1. المواطنة في ظل وثيقة المدينة: 

كانت يثرب قبل قيام الدولة الإسلامية مقسمة إلى خمسة أجزاء، كل جزء منها تسيطر عليه قبيلة من القبائل، سواء كانت عربية أو يهودية، ويعيش على ذلك الجزء مختلف البطون والعشائر للقبيلة الواحدة، وكانت كل قبيلة تشكل وحدة الحياة الاجتماعية، وفي مضمونها وحدة الحياة السياسية المستقلة بنفسها. وقد كان الخلاف بين مختلف القبائل مستحكما، فيهود بني النضير وقريظة نكلوا بيهود بني قينقاع وأخرجوهم من ديارهم ومزارعهم وسفكوا دماءهم، جريا وراء مصالحهم الشخصية، وقد ندد القرآن الكريم بأعمالهم . 

أما العرب -الأوس والخزرج-فقد تمكن اليهود، عن طريق الدسائس والمؤامرات، أن يلقوا العداوة والشحناء بين الفريقين، فكانوا يعيشون دائما في حروب دامية متواصلة، كان آخرها حرب (بُعاث) قبل الهجرة بخمس سنوات.. فالتنافر بينهم مستحكم، والعداء مزمن، منذ أمد بعيد. 

وكان كيان العرب الاجتماعي الطبيعي ينمو وتتشابك أغصانه في إطار القبيلة فقـط الذي يرأسها «شيخ» هـو لها بمقام الزعيم الوحيد، وتكونت الدولة الإسلامية، منذ نشأتها بالمدينة تحت قيادة الرسول  وعلى أساس دستوري مكتوب، من رعايا مختلف الديانات: المسلمون من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب من اليهود، وبقايا مشركي المدينة؛ وقد أطلق عليهم رعايا الدولة الإسلامية. 

وقد أطلق الفقهاء على الدولة الإسـلامية اسـم (دار الإسلام)، كما كانوا يصفون الأفراد الذين يستوطنون فيها بأنهم ( أهل دار الإسلام ) أي من أتباع الدولة الإسلامية، وكان ارتباط الأفراد بالدولة ارتباطاً لا يشبه ارتباط الفرد بالفرد؛ لأن الدولة الإسلامية ليست فرداً، وإنما لأن الدولة الإسلامية وهي قيادة سياسية ومنظومة قانونية معاً، يلتزم بها الفرد والدولة، فهذه الآثار هـي الحقوق التي يتمتع بها الفرد في ظل الدولة والواجبات التي يلتزم بها قبلها، وهذه الرابطة هـي الجنسية بمفهومها الحديث، وإن لم يسمها الفقهاء بهذا الاسم.

والمواطنة لا تساوي الانتماء الديني دائماً، بل يمكن أن تفترق عنه حين يكون المجتمع السياسي مكوناً من فئات ذات انتماء ديني متنوع؛ وقد يتساويان كما في حال وجود مجتمع ذي انتماء ديني واحد، فيلتقي مفهوم الأمة مع مفهوم الدولة والمواطنة. كما يمكن أن يكون هـناك وطن واحد يضم أمتين، كما هـو الحال في «الصحيفة» التي تعالج علاقات الأمتين الإسلامية واليهودية، فهي لم تحرم حق المواطنة على غير المسلمين، ما داموا يقومون بالواجبات المترتبة. ويترتب على انتماء المتعاقدين للدولة، وفقا للبنود الواردة في «الوثيقة»، أن ينعم أهلها، من المسلمين وغير المسلمين، بالعصمة في أنفسهم وأموالهم، فهم جميعا آمنون بأمان الإسلام.

- مواطنة المسلم:

اعتبر الرسول  أن أساس المواطنة والانتماء لهذه الدولة هـو الهجرة إليها، فعلى من يريد أن يكون مواطناً في مجتمع المدينة أن يهاجر إليها، لكي يتحقق في المسلم الذي يسكن في الدولة الإسلامية رابطان أساسيان هـما: الإيمان أولاً، والولاء للنظام المعمول به في الدولة ثانياً. والأصل في هـذا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ (الأنفال:72)، فهذه الآية الكريمة تتوافق مع بنود وثيقة المدينة المنورة. 

- مواطنة غير المسلم:

فيما يخص غير المسلمين، فأساس المواطنة هـو الولاء للدولة الإسلامية عن طريق العهد والاتفاق؛ لأن حق المواطنة لا يستلزم وحدة الدين ولا وحدة العنصر، قال النبي : «لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم» وهذا الدليل يتوافـق مـع ما نص عليه دستور المدينة في الفقرة الأولى والثانية من البند رقم (25) الذي قرر المواطنة المتساوية لليهود وغيرهم على أساس الحقوق والواجبات. 

وقد وفرت الوثيقة لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي وجوداً اندماجياً يحافظ فيه على جميع مكونات شخصيته، وفي طليعتها المكون الديني وما يرتبط به من ممارسات وعادات، بها يؤكد ذاته عقدياً وثقافياً ونفسياً، مما يتحقق به الانتماء إلى ذلك المجتمع وذلك عبر عقد الذمة، وهو ما يشبه في عصرنا الحالي الجنسية التي تعطيها الدولة لرعاياها، فيكتسبون الحقوق الدينية والمدنية بالتبعية والولاء، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوِ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

2. مفهوم الأمة ودورها في توحيد المجتمع من خلال الوثيقة: 

الأمة في وثيقة النبي الكريم في المدينة هـي كيان اجتماعي سياسي، تقوم على أساس الفكر والعقيدة لا على أساس الدم أو على أسس بيولوجية، لا تحدها لغة أو جـنس أو وطن، ولا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى، بل لها من الرحابة ما تستوعب بـه العناصر الأخرى دون صهر أو تذويب، قابلة للتوسع والتقلص تبعا لعدد من ينضم إليها أو يتركها باختياره.

تعتبر «وثيقة» المدينة النـزعة العصبية والثأر من بقايا الجاهلية، وعملت على امتصاص التصدع القبلي بين الاوس والخزرج، إذ نصت على أن «المؤمنين والمسلمين سواء كانوا من (مكة) أو (يثرب) يشكلون مجتمعاً موحداً»؛ وفكرة الوحدة فيه ترتكز على وحدة الانتماء إلى العقيدة الجديدة، التي هـي رسالة الأمة، وشرط تكونها الجديد «الوحدة»:﴿ إِنَّ هـَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ (الأنبياء:92). 

وبينت «الوثيقة» في البند الثاني، بأن الانتظام الاجتماعي الجديد للمؤمنين والمسلمين: «أنهم أمة واحـدة من دون الناس» لا تتلفع بالعصبية ولا تتسم بالعنصرية، ولا تأخذ من الطبقية، فالمؤمنون والمسلمون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بـهم وجاهد معهم «أمة واحدة»، والجديد في هـذا المبدأ أنه الجذر الأساسي للاعتـراف بتكوين «الأمة» للمرة الأولى في تاريخ جزيرة العرب السياسي، وأنها وحدة واحدة لا تتجزأ... وهنا نشـعر بالانتقال الكبير في حياة العرب من حياة الفرد والقبيلة إلى حياة الأمة الواحدة.

ومن هـنا يتبين لنا «أن المجتمع السياسي، الذي أنشأته الوثيقة، هـو مجتمع تعاقدي متنوع في انتمائه الديني»؛ لأنها لم تكتف بالإعلان في البند رقم (2) عن أن كل الأطراف الموجودة في يثرب أمة واحدة، بل أعلنت صراحة في البنود من رقم (25 -35) أن اليهود الذين حالفوا المسلمين (أمة مع المؤمنين)، وهم ليسوا جماعة سياسية منفصلة، فهم يشكلون أمة بالمعنى السياسي وليس العَقدي، فيكـون المجتمع الجديد أمة واحدة بالمعنى السياسي وأمتين بالمعنى العقدي. 

إن هـذا العيش في إطار سياسي واحد يمكن أن يكون مقدمة لانضمام اليهود إلى أمة الإجابة، وهو أمل راود النبي  على ما يبدو بقوة في السنة الأولى لمقامه في يثرب. وفي اعتقـادي أن ما ذهب إليه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتابه «الأموال» عن اليهود حينما قال: «فإنما أراد نصرهم المؤمنين ومعاونتهم إياهم على عدوهم بالنفقة التي شرطها عليهم، فأما الدين فليسوا منه في شيء، ألا تراه قد بين ذلك فقال: لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم»، يندرج تحت مفهوم الأمة بالمعنى السياسي لا المعنى العقدي.

3. الأخلاق الاجتماعية في الوثيقة: 

عندما قدم الرسول  المدينة وجد فيها جماعات متناحرة، فكون منها مجتمعاً موحداً يختلف في جميع مناحي حياته عن المجتمع القديم، ويمتاز عن أي مجتمع يوجد في العالم آنذاك؛ لأنه ارتكز في بنائه على الإسلام الذي حارب الأفكار الجاهلية وهدم المبادئ الفاسدة، والنـزاعات الضارة، وقضى على العداوة التي ولدتها. وأقام بناء المجتمع على أسس راسخة ودعائم قوية، سقطت معها القيم القديمة التي كانت عاملاً في التناحر والفرقة، وجمع بين المسلمين برباط وثيق هـو الإيمان.

فالبند الأول من «وثيقة» المدينة ينص على أن الإسلام هـو وحده الذي يجعل منهم أمة واحدة، وأن جميع الفوارق والمميزات فيما بينهم تذوب ضمن نطاق هـذه الوحدة المتكاملة، وهنا يقول الرسول الكريم : «المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس»، وهو أول أساس لا بد منه لإقامة مجتمع إسلامي حضاري متماسك فيه التكافل والتضامن الذي بين المسلمين وغيرهم.

4. التكافل والتعاضد بين البطون والقبائل والطوائف من خلال بنود الوثيقة:

خصص الرسول الكريم  الجزء الأول مـن «وثيقة» المدينـة مـن البنـد رقم (3 -11) للقوى العشائرية، واعتبرت المهاجرين كتلة واحدة لقلة عددهم، حيث نص البند رقم (3) على «أن المهاجرين من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين»، أما الأنصار فنسبتهم إلى عشائرهم فتقول الوثيقة: «وبنو... على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين». وذكر البطون لا يعني اعتـبارها الأساس المؤسس للارتباط بين الناس، ولا يعني الإبقـاء على العصبية القبلـية، فقد حرم الإسـلام ذلك. قـال الرسول الكريم :«لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَـا إِلَى عَصَبِـيَّةٍ»، بل لتسخير العلاقات في توطيد التكافل الاجتماعي في عاصمة الدولة الإسلامية. 

نلاحظ هـنا إذا أن نشوء الدولة الإسلامية لم يؤد وفق هـذه النصوص إلى الإلغاء التام لوظائف القبيلة الاجتماعية، وذلك أنها لم تكن شراً كلها، فأبقت «الوثيقة» لها بعض وظائفها التي تحمل معاني التعاون في الخير والتواصي بالبر والتقوى. 

أما فيما يتعلق بالفداء فقد تكررت عبارة « وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين» في بنود «الوثيقة» عشر مرات من البند (3- 12) مؤكدة أهمية التعاون والتكافل بين أبناء المجتمع المديني بصفة عامة وأبناء كل طائفة من طوائف المسلمين بصفة خاصة، في إطلاق سراح أحد أعضـائهم إذا وقع في الأسر، وقد ذكر الله تعالى الفداء في كتابه العزيز مؤيدا لهذا الخلق الاجتماعي العظيم، فقال: ﴿ ...حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا... ﴾ (محمد:4)، وقال النبي الكريم : « فُكُّوا الْعَانِيَ، وَأَطْعِمُوا الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ ﴾. 

5. مساواة الجميع أمام القانون:

والمقصود بالمساواة أمام القانون: أن يكون الأفراد جميعاً متساوين في الحقوق والواجبات العامة، فلا تمييز بينهم في ذلك بدافع الجنس أو اللغة أو الدين أو المعتقد، بحيث يتمكن كل شخص من التمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها الآخرون ويخضع لجميع التكاليف التي يفرضها القانون على أفراد الأمة.

فالناس جميعاً سواسية أمام القانون الإلهي، غنيهم وفقيرهم، شريفهم ووضيعهم، المسلم وغير المسلم، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هـُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (المائدة:8). 

وقد طبقت «وثيقة» المـدينة هـذا المفهوم عملياً في صـدر الإسلام في المجتمع الذي أنشأه النبي الكريم  ، فحطمت بذلك التفرقة العنصرية والتمايز بين أعضاء المجتمع المديني لما اعتبرت جميع الأفراد المتعاقدين في يثرب متساويين في الحقوق والواجـبات العامة. وليس في القانون أي تمييز لأي فئة كيفما كانت أمام مغانـم الحياة العامـة ومغرمها في المدينة؛ لأن المبدأ الإسلامي العادل هـو الغرم بالغنم، وإن كان الله تعالى قد حمل المسلمين عبء التضحية والفداء لإقامة دولة الإسلام. لذلك نجد أن «وثيقة» المدينة قد جسدت في بنودها رقم (24 – 25 وحتى 35 - 37 - 38 - 39 - 41 - 43 - 44 - 45 – 45 -47) تكافل الغير مسلم مع المسلم فكلاهما جزء أصيل الأمة والرعية المكونة للدولة الإسلامية. وفيما يخص المسلمين، فقد جاء الإسلام واضعاً لأساس المساواة بقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ... ﴾(الحجرات:13). 

فالكـل سـواء، لا فوارق ولا طبقية بينهم وبين بعضهم إلا طبقاً للمعايير الموضوعية التي قررها الميثاق الإسلامي والمتمثلة بالإيمان والعمل الصالح، وهذا ما أكدت عليه «الوثيقة» في بنودها التي ساوت بين جميع أبناء المجتمع المديني وفق الظروف الجديدة. 

كما ساوت «الوثيقة» بين جميع الأطراف المتعاقدة على اختلاف أعراقها وانتماءاتها الدينية في العيش داخل حدود الدولة الإسلامية آمنين على أموالهم وأنفسهم من أي اعتداء قد يهددها بالخطر، حيث ينص البند رقم (39) على «أن يثرب حرام جوفها لأهل هـذه الصحيفة»، فالنص صريح في تحريم الحروب والقتال بين القبائل والعشائر، وتثبيت السلم في المدينة، التي رسمت حدود حرمها ببعض العلامات البارزة في أطرافها.

6. مراعاة حق الجار:

لقد اهتمت وثيقة المدينة المنورة بتوثيق الروابط بين الناس وتقوية العلاقات بين الجيران إيماناً منها بضرورة التقريب بين الأسر الإنسانية بكل وسيلة ممكنة، فجعلت صلة الجوار جنباً إلى جنب مع صلة الإنسان لأقرب المقربين إليه وهي نفسه، على أن لا يسبب هـذا الجار ضررا ولا إثما، وقد بلغ الأمر في الإسلام أن جعل إكرام الجار آية من آيات الإيمان الصادق والتدين الأكيد، قال  : « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ»؛ لكي تسود المجتمع المديني علاقات سليمة، ترتكز في الأساس على التعاون على البر، ورعاية الفضيلة ومنع الأذى، وإقامة الحق بين الناس جميعا، حيث ينص البند رقم (40) على «أن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم»..

وبذلك قصدت الوثيقة كل سكان المجتمع المديني الجديد دون استثناء لأي طرف من الأطراف المتعـاقدة على الطرف الآخـر، كما يعتبر هـذا البند دعوة إلى التحرر من رواسب الماضي -الجاهلي-ومخلفاته ودعوة حضارية إلى التكافل الاجتماعي المقيد في حدود مقتضيات القانون، قال تعالى:﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ... ﴾ (النساء:36).

وإن غاية الرسول  الآنية من هـذه «الوثيقة» إيجاد مجتمع موحد تربطه أواصر الأخوة الإنسانية، والمودة والرحمة، والعدالة الاجتماعية في الشئون العامة للدولة الإسـلامية الجديدة، وقد شدد على هـذه المعاني السامية، قال عمر، رضي الله عنه، سمعت رسول الله  يقول: «لا يَشْبَعُ الرَّجُلُ دُونَ جَارِهِ» ﴾، بل وزاد الأمر وضوحا وجلاءً حينما قسم الجيران وحقوقهم إلى ثلاثة أقسام وبين أن للجار الغير المسلم حقاً ثابتاً في الإسلام، هـو حق الجوار.

حيث تختتم الوثيقة بالفقرة الأخيرة من البند رقم (47) الذي تنص على «أن الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله » أي أن الله يحمي من يبر ويتقي ويتخلق بالأخلاق الفاضلة فعمل الصالحات كالبر والتقوى توصل العبد إلى رضوان الله، وتقوى الله توصله إلى الفوز بسعادة الدارين، فمن كان عمله لله فإن الله يكون جارا لـه ومحمد  أيضاً يكون جارا له. 

7. ضمان الأمن لطوائف المجتمع:

إن من أبرز القضايا التي كانت تؤرق المجتمع المديني أثناء الهجرة وقبل كتابة «الوثيقة» قضية انعدام الأمن وسيادة ظاهرة الثأر، حيث كان المجتمع منفرط العقد، وكان نظام القبيلة يقوم مقام الدولة، والعصبية هـي القانون الأساس الذي تتفرع عنه كافة الأحكام واللوائح المطاعة، شعارهم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، بالمفهوم الجاهلي، وبلغ أمر الأخذ بالثأر من القداسة في نفوسهم درجة القيم الدينية... ولما جاء الإسلام آخى بين الناس، وأزال ما بينهم من العداوات، وسلَّ ما في قلوبهم من السخائم، وقضى على خرافة الهامة، وعدها من أباطيل الجاهلية، قال  : « لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وَلا هـَامَةَ وَلا صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ ».

لذا نجـد أن «الوثيقة» أكـدت على إبراز دور المؤمـنين في البند رقم (21)، حيث ينص على أنه من «اعتبط مؤمناً قتلاً عن بينة... وأن المؤمنين عليه كافة....»؛ أي أن من قتل بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله، فإن القاتل يقاد به ويقتل إلا إذا اختار أهل القتيل أخذ الدية بدل القصاص أو وقع منهم العفو. 

8. حق الحياة:

نصت الوثيقة في بندها (21)، على القضاء على الفتن والعداوات وصيانة المجتمع المديني، وبأن القصاص نازل بالجميع، وأن القود من القاتل أمر لا مفر منه، وأن الحيلولة دون الجريمة أيا كان نوعها واجب، ولا يحل للمؤمنين إلا القيام على الجاني ولو كان ولد أحدهم «وهذا ضرب من إيجاب التكافل تشريعا لاستئصال شأفة الجريمة في المجتمع عملا على استقرار الأمن في الداخل»، وتثبيت لسيادة القانون الإسلامي الجديد الذي حرم قـتل النفس إلا بالحـق، فأصبح القتل من الكبائر، قال تعالى: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ (النساء:93).

وبالتالي ألغى هـذا البند ذاك العرف الجاهلي الداعي للثأر، وحفظ الحياة: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ... ﴾ (البقرة:179)، وحرم الاقتتال بين ذوي القاتل والمقتول؛ لأن تنفيذ القانون أصبح ساري المفعول يسهم الجميع في تحقيقه لمصلحتهم وتنفيذًا لقانون القود (القصاص) العادل لا الثأر الجامح والقتل الباغي، فجعل العقاب على قدر الجريمة، وجعل كل مرئ مأخوذا بذنبه وحده، ولا يجوز لأحد حمايته أو مؤازرته بالدفاع عنه أو السعي في تخليصه، مهما بلغت درجة قرابته له.  

والملاحظ أن هـذا الإجراء من الرسول الكريم  المتمثل في جعل المحافظة على الأمن مبدئياً مسؤولية جماعية، تبدي نحوه المحافل الدولية في عصرنا اهتماماً بالغاً، وقد ظهر هـذا الاهتمام جلياً في مؤتمر الأمم المتحدة الرابع الذي انعقد في استكهولم عام 1965م، حيث تناول البحث دور الشعب، والأسرة، والمدرسة، في مكافحة الجرائم والسيطرة عليها. وغيره من المؤتمرات ذات الشأن، والتي سبقها الإجراء النبوي بمئات السنين. 

9. مسؤولية الدفاع المشترك: 

جمعت وثيقة المدينة بين أهل العقائد والأجناس، وجعلتهم مواطنين مكلفين بالدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء يفاجئ المدينة من الخارج، فالبنود رقم (24 - 37 - 38 - 44 - 45) تنص صراحة على تحمل أهل «الصحيفة» مسئولية الدفاع عن المدينة «وتؤكد على توحيد الموقف السياسي الدفاعي الداخلي ضد العدوان الخارجي». 

فإذا ضم الجيش معسكرين، واحد للمسلمين وآخر لليهود، كان على كل معسكر أن يتكفل بنفقاته، فيبتاع الأسلحة ويطعم الجند من ماله الخاص. أما أن ينفق المسلمون على اليهود إذا هـم وقفوا معهم لقتال عدوهم، فذلك ما نفته «وثيقة» المدينة في البندين رقم (24 و38) اللذين ينصان على «أن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين» ينفقون من أموالهم على مقاتليهم كنفقة المؤمنين على مقاتليهم، سواء بسواء، مهما بلغ حبهم للمال وحرصهم الشديد على عدم إنفاقه، فقد أكدت «الوثيقة» وبإلحاح على اليهود المشاركة الإيجابية في تحملهم أعباء نفقات دفاعهم عن الأرض التي يعيشون فيها، والوقوف مع المؤمنين جنبا إلى جنب ضد أي عدوان خارجي يهدد أمن المجتمع المديني وسلامته. 

وقد أدرك اليهود قيمة الفرق بين الحرب في سبيل الله والحرب في سبيل موطنهم، فهم لم يلزموا بالحرب مع المؤمنين دفاعاً عن دينهم، ولكنهم ملزمون بالحرب إذا هـاجم المدينة مهاجم يريد هـلاكها، فإن المنفعة مشتركة حينئذ ولا يمكن أن يتخلوا عنها، وهكذا يكون موقف المشركين.

فحدود التحالف السياسي بين المسلم والآخر "اليهودي والوثني"، يقتصر على من دهم يثرب، فلا دخل لهم في حرب العقيدة ولكنهم مطالبون بالحرب دفاعا عن الأمة وهنا روح السلام بين الأديان، فالأرض يوم تحكم بشريعة السماء، فسوف ينعم بها المسلمون وغير المسلمين؛ لأنه ليس من الحكمة أن تكون دماء المسلمين وأعراضهم وأرواحهم وأموالهم مستباحة مهدورة وأموال غيرهم وممتلكاتهم وأعراضهم مصونة. 

وخلاصة القول: إذا كانت «الوثيقة» قد جعلت مسؤولية الدفاع المشترك واجباً على جميع متساكني المدينة فإنه، وبالمقابل منحتهم حقاً لا يقل أهمية عن ذلك الواجب، وهو مساواتهم جميعا أمام القانون، دون النظر إلى الدين أو العرق، وهذا ما نجده واضحاً في بنود «الوثيقة». 

 

مراجع معتمدة: 

 

 

1. عبد الحميد متولِّي مبادئ نظام الحكم في الإسلام.

2. عبد الناصر توفيق العطار: دستورٌ للأمَّة من القرآن والسنة.

3. علي محمد الصلابي: السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث.

4. علي محمد الصلابي، فقه التمكين في القرآن الكريم.

5. علي معطي، التَّاريخ السِّياسي والعسكري.

6. كامل سلامة الدقس: دولة الرَّسول صلى الله عليه وسلم من التَّكوين إلى التَّمكين.

7. ماجد عرسال الكيلاني: فلسفة التَّربية الإسلاميَّة.

17. محمد الناظر، حوار الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود.

18. محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السِّياسية. 

19. محمد رضا: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.


: الأوسمة



التالي
العبودية الطوعية
السابق
انطلاق أكبر معرض عالمي للمنتجات الحلال في إسطنبول

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع